الرئيسية | فكر ونقد | قصص “مرعى النجوم ” لمحمود الرحبي: تجديد الواقعية | محمود الريماوي

قصص “مرعى النجوم ” لمحمود الرحبي: تجديد الواقعية | محمود الريماوي

محمود الريماوي

 

مرعى النجومتثير  المجموعة القصصية “مرعى النجوم ” لمحمود الرحبي، العديد من القضايا ذات العلاقة بتطور الفن القصصي، وببلورة هوية قصصية محلية ( عُمانية) . فالكاتب الرحبي متمتعا بخبرته السردية التي راكمها خلال ثلاثة عقود، وبمواكبته للسرد العربي الحديث، فإنه ينطلق في مجموعته هذه ذات القصص الثماني نحو معمار فني بسيط ومُركّب معاً ، معمار “مراوغ” يجمع بين السرد الحكائي العفوي الذي يتجه نحو قارىء حاضر سامع وليس قارئا مبهما مفترضاً ، سرد يكاد يكون شفوياً قبل تدوينه، لفرط وضوحه وبساطته، وبين الرؤية الحديثة التي تفسح للأبطال التعبير عن ذواتهم والتمتع بالتخلق الفني الحر والطلق، والتحرر من بث رسالة فكرية أو أخلاقية بعينها ، سوى “رسالة” التجسيد الدرامي لحركة الأشياء والمصائر، والصراعات الخفية والظاهرة للشخوص. لهذا لا يبدو غريبا ان يصادف قارىء الرحبي في مجموعته هذه الكثير من أنسام الفن القصصي القديم القائم على المُلح والأخبار والحوار وضرب الأمثلة والمقابلات بين الأضداد وايراد الشواهد، في ما يشبه استرجاعاً واعياً لينابيع الذات ( العربية) الفنية، والسعي لإطلاق ممكنات الأشكال الأولية للقص، دون أن يتعلق الأمر بنكوص أو ارتداد نحو ما هو تقليدي ، فلا يسع المبدع العربي الحديث والرحبي هنا نموذج له أن يغادر ما يمتلكه من وعي فني ونقدي جديدين، اذ أن ما يبدو نسجاً على منوالٍ معهود ، سرعان ما يتشح  بأداء تعبيري حديث ، ابتداء من القصة الأولى في المجموعة ” الواقف”. والتي يبرع الكاتب فيها في وصف بطله المعاق الذي يستخدم كرسيا متحركا، وفالبطل يرى الى نفسه واقفاً وليس جالسا،ً وهو يعبر الشوارع تقوده أمه التي انفصل عنها زوجها، تاركا لها ابنهما الطفل في سن السنوات الخمس بين يديها. الطفل ينمو ويكبر دون أن يعرف القارىء كم بلغ من العمر في زمن القصة، غير أن تأملاته وتفاعله مع ما يحيط به في نهر الشارع تنبىء بأنه في مقتبل الشباب . البطل يعي ما يدور حوله، وينظر الى ما حوله بعين المراقب المتمهل، مقارنةً بالسابلة المندفعين وكأن أحداً يطاردهم. “غربان عمياء تجوب قلبي فأسرحها في مراقبة الناس أو الصراخ” البطل يناجي نفسه بهذه الصورة الشعرية الأخاذة، فيما هو يكابد وحدته وسط جموع الناس. . مع ذلك فإن هذا الشاب الغض يبدو أقوى من أمّه وهذه ليست عجوزاً أو ضعيفة الإرادة بل هي بائسة محرومة، تنوء بالقناعة أن أحداً لن يتقدم لزواج منها فيما هي تعيل ابنها المعاق ،وهذا يحبها حباً جماً رغم ان الحوار بينهما يكاد ينقطع وتحلّ محله لغة الإشارة. وفي الوقت نفسه لا يعلم أين تذهب، وما الذي تفعله حين تتركه على ناصية الشارع وتغيب لردح من الوقت. الشاب ليس متسولاً ، ولا هو مكتفٍ بنفسه، كل ما في الأمر أن الأقدار ناكفته ، وهو ينزع الى السخرية منها. خاصة حين يكتشف ان هناك درجات دنيا في السلم الاجتماعي، يبدو وضعه هو مقارنةً بها جيداً، ومثال ذلك معاق الذي لا يتوفر مثله على كرسي متحرك، والذي زحف نحوه حتى وصل الى كرسيه، ومدّ اليه يد السؤال والمسكنة.

 بهذا رسم القاص مشهداً حيويا تتناوب عليه اللقطات الخارجية والإضاءات الداخلية، في فقرات متتابعة ترصد حالة انسانية مألوفة ، لكنه لم يتوقف عند ماهو مألوف ومعهود في هذه الحالة من بؤس وكآبة وانغلاق على الذات، ونقمة على القدر وعلى الآخرين. فالضعيف هنا يستنهض مكامن قوته ويبدو بالفعل أقوى من غيره، وتلك مفارقة ، ومصدر قوته أنه لا يعرف طريقاً ولا تصوراً للمطامح الشخصية أو الأمنيات الذاتية، شاعراً بقدر من المتعة بـ ” السباحة في نهر الشارع”، وإخضاع الآخرين لعينه التي تراقب بنظر ثاقب، مع إزجاء مشاعر التعاطف حيال معتوهين وذوي حاجات لا يخلو منهم الشارع.

 بالجمع بين عمومية الحالة الاجتماعية للبطل، وبين خصوصيته كذات وكبطل قصصي، تنهض جدارة القص عند الرحبي، الذي ينهل من البيئة ويتبدّى ابداعه كأحد تجلياتها، لكنه يبتعد كلياً عن التنميط والقوالب الجاهزة ، ويندفع عِوض ذلك في التقاط ما هو خاص ومتفرد لدى شخوصه، بالرغم من كونهم من الأشخاص العاديين ، وأحيانا أدنى مرتبة كحال بطل قصة “الواقف ” الذي يراه الآخرون جالساً حبيس كرسيه، فيما هو يرى نفسه واقفاً مثله مثل غيره من الراجلين، ولا يتوانى عن إصدار الأحكام على غيره.

 محمود الرحبي في “مرعى النجوم” يكتب سردا قصصياً قوياً تتسيّد فيه الحكاية وإن اتسمت هذه بالبساطة أحياناً، مراهنا على مفاعيل الحكاية في نفس قارئها متى ما تم سردها  بدقةّ ووضوح ورهافة ، وكذلك بتقشف تعبيري لا زخرف فيه، يتكىء على المباشرة والإخبار، متخففاً من البلاغة الشكلية الخارجية لحساب بلاغة الإيجاز والتكثيف، وطارحاُ عنه الشعرية اللفظية لمصلحة نثر خالص، وصلب لا يعدم الإشعاع الشعري . القصة التي تحمل المجموعة اسمها ” مرعى النجوم” تقوم على مشهد شعري : القمر في ايام استدارته بدراً، يجتذب راعيا مع قطيعه للرعي طيلة اربعة ايام بلياليها البيض حيث يبيت الراعي مع قطيعه ومع كلبه هناك. تحت ضوء القمر المسالم. وحيث يتكفل ضوء القمر بكشف اي معتدٍ دخيل على القطيع. والى الضوء المنبعث من السماء ثمة ينابيع صغيرة تكاد لا ترى، لكنها ذات دفق بطيء منتظم ودائم مما يوفر اخضراراً دائماً يقتات منه قطيع المواشي إضافة الى ما تيسر من شجيرات تقاوم قسوة الطبيعة. يسرد السارد وهو الأخ الأصغر للراعي جانبا من حياة العائلة التي توفي عنها الأب المعيل ثم الأم  فتتكفل زوجة العم برعاية الابنين وتزوج الكبير من ابنتها، أما الصغير وهو السارد فيستحضر واقعة مواجهته لنسر وعراكه معه وفتكه بالنسر بسكين حادة انتضاها لهذا الموقف وذلك انتقاما من غزوات للنسر على الدواجن والشياه، وحتى على أطفال كان اخرهم طفلة رضيعة اختطفها النسر.

تجتمع في القصة عناصر الطبيعة من ليل ونهار وقمر ونجوم ومياه ونباتات، ثم الكائنات من بشر ومواشٍ وكلب ونسر. ويتم بعئذ استدخال وسائل الحياة الحديثة سيارة بيك اب حديثة وهواتف خلوية. وقبل ذلك تصريف النساء لوقت الفراغ في تزيين قطع قماشية بيضاء بأشكال النجوم بالإبرة والخيوط الملونة، كي يستخدمها الشبان بوضعها على رؤوسهم ( الكوفية العمانية الملتفة). وبينما ينصرف الشقيق الكبير الى الرعي، فإن الشقيق الصغير وقد تعلم قيادة السيارة على يد شقيق زوجة اخيه، فإنه ينهمك في التنقل بين القرى وراء تجارة بيع وشراء المواشي. وفي الثناء يخفق قلبه بحب فتاة هي شقيقة الطفلة الرضيعة التي اختطفها النسر.على هذا النحو تتجور عناصر الطبيعة تتكامل وتتصارع في هذه القصة، التي بدت لكاتب هذه السطور اشبه بمادة روائية مضغوطة، لاحتوئها حكايات متناسلة، ولوفرة الشخصيات فيها، ولما قام به الكاتب من مسح  جغرافي وتقصٍ اقتصادي واجتماعي دقيق للبيئة التي تتخذها القصة مسرحاً لها، بما يجعلها نواة غنية لرواية شيقة. وعلى أي حال فهذه الظاهرة ذات شيوع في السرد العربي الحديث، فثمة قصص قصيرة تبدو أقرب الى رواية مختزلة، وثمة روايات تظهر كقصة ممطوطة، والشفاعة في ذلك أن كلاً من فن القصة والرواية ينتميان الى (أو ينبثقان من..) جذر واحد هو الحكاية، والتداخل بين سمات كل منهما وارد .

في هذه المجموعة الشيقة كما سبقت الإشارة، التفات قوي الى اساليب القص القديم ، ففي قصة “ممر العربات”، يخال القارىء نفسه يقرأ حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة. مع فارق أساسي أن الكاتب هنا يراهن على تصوير الواقع تصويرا أميناً لا تزيّد فيه، طارحاً عنه استخدام الخيال المحلّق الذي يميز حكايات الكتاب الشرقي الأشهر.

 وقد بدا لكاتب هذه السطور أن المؤلف محمود الرحبي قد عكف في هذه المجموعة على كتابة قصص تنبض بعبق المكان ، وتنحو نحو رصد التحولات الاجتماعية ( قصة ” رحلة الشيخ” مثلا) ، وتزخر بحب ناس الديار خاصة من يرزحون تحت المعاناة، والقصص بالتالي تمثل ضرباً من تجديد الواقعية وإغنائها، والوفاء لها، وشحذ أدواتها، على صعيد المضمون والموضوعات، وكذلك على صعيد الشكل من حيث استلهام أساليب القص القديم وروحيته التعبيرية، والكتابة ذات الطبقات، بما يجعلها بحق تجربة فنية مميزة لصاحبها كما للسرد العُماني والعربي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.