الرئيسية | فكر ونقد | أسرار الأبوة وألغازها | أنوار مجيد – ترجمة وتقديم : عبد العزيز جدير

أسرار الأبوة وألغازها | أنوار مجيد – ترجمة وتقديم : عبد العزيز جدير

 تقديم:

منذ شرع الكائن الحي يعي قوة الطبيعة سعى إلى التحكم فيها، ثم ترويضها محاولا إخضاعها، بذكاء حينا، وبعض تهور أحايين أخرى.. لكن هذا الكائن ما استطاع على الدوام ترويض حواسه، ولا غريزته. هل يمكن أن يفلح في ذلك في فترة من قادم الزمن؟ ولذلك مثلت الأبوة، عبر تاريخ البشرية، معضلة. وأنكرها رجال من كل الفئات والمشاهير أيضا على اختلاف مجال عملهم كما توضح ذلك العالمة نارا ميلانيتش؛ المتخصصة في التاريخ المقارن للأسر والطفولة، والتفاوت الاجتماعي. والمقالة قراءة للمفكر أنوار مجيد في كتابها “البحث صعب المنال عن الأبوة”، الذي تتساءل فيه مؤرخة الأبوة عما إذا كان الاعتماد السريع لاختبار الحمض النووي من قبل المطالبين به سينظر إليه على أنه تطور إيجابي في المستقبل. أليس البحث عن الأب الحقيقي صعب المنال؟

النص:

إلى أولئك الذين يرفضون الفكرة القائلة إن جزءا كبيرا من واقعنا هو بناء اجتماعي، مرحبا بكم في عالم الأبوة. بالنسبة لمن يتمتعون بعقلية ديمقراطية قوية، قد تبدو الأبوة وكأنها شكل من أشكال الاستبداد الذي لا يطاق، وهو شكل يمكن أن يحفز الأزواج والرجال – كما كان عليه الأمر في أوائل القرن العشرين وما يزال إلى اليوم – على التنظيم من أجل الدفاع عن حقوقهم إزاء النظام القانوني. ولكن ما الذي يجب أن يفعله النظام القانوني عندما يرفض رجل (سواء كان زوجًا أم لا) أن يتحمل دوره والمسؤولية كأب، بالرغم من أن اختبارات الأبوة تدعم بما لا يقبل الجدل بأن طفله لا علاقة له به بيولوجيا؟ تعني العدالة البيولوجية للرجل المظلوم أن يتخلى عن الطفل لمصير محفوف بالمخاطر. وعندما رفعت جوان بيري البالغة من العمر 23 عامًا دعوى قضائية ضد الممثل الأسطورة وزير النساء تشارلي شابلن في الأربعينيات من القرن الماضي للاعتراف بكارول آن باعتبارها ابنته، أَخضع تشابلن نفسه لاختبار الأبوة، الذي برأه من أي علاقة بيولوجية بالفتاة. ومع ذلك، لم تكن هيئة المحلفين في لوس أنجلوس المكونة من 11 امرأة ورجل واحد – على وشك السماح للعلم بتحديد النتيجة. قرر المحلفون أن “تشابلن” هو الأب نقطة إلى السطر. وذلك لأن المجتمع يتعرض للخطر من قبل الطفل الذي بدون والد أكثر من تعرضه للخطر من الكائن الراشد الذي منح البراءة الجينية.

ومع هذه الحلقة المحيرة والساحرة، تأخذنا المؤرخة نارا ميلانيتش في مقدمة مذهلة تثير الدوار لمفهوم الأب عبر التاريخ وعبر القارات. في كتابها الجديد، “الأبوة: البحث صعب المنال عن الأب”، نكتشف أنه كان هناك إجماع رائع بين الثقافات حول مفهوم الأب (أو ما ليس الأب). على عكس لقب الأم، الذي يستند إلى واقع بيولوجي أو طبيعي لا جدال فيه، فإن الأب هو أكثر من مجرد لقب قانوني، أو كما تصفه ميلانيتش، هو “فكرة تاريخية”. أعلن الرومان Pater semper incertus est (أي إن هوية الأم تكون مؤكدة دائما)، لأن (but mater certissima est) أي أن الأم معروفة بالتأكيد دائما [وفق القانون الروماني القديم الخاص بالأبوة القانونية]. وأعتقد أن هاتين العبارتين اللاتينيتين لا تحتاجان إلى ترجمة. وكما لو كان الهدف هو إزالة أي شك حول ما يعنيه هذا الأمر، أضاف الرومان مبدأ ثالثًا: Pater est quem nuptiae أي أن الأب هو الذي يعلن عنه الزواج أو أن زوج الأم هو الأب. لقد ظل هذا المبدأ ثابتا على مر العصور. بل إن قانون نابليون لسنة 1804 حظر دعاوى الأبوة. كانت هيئة المحلفين الأمريكية التي أصدرت حكمها على تشابلن أقل اهتمامًا بمن حبَّل بالفعل جوان، لكنها كانت أكثر اهتمامًا بمن سيهتم بالطفلة. يمكن أن يؤكد اختبار الدم من ليس هو الأب (الأب المستحيل)، لكنه لا يستطيع “تحديد الأب الفعلي بشكل إيجابي”.

وبينما كانت اختبارات الأبوة ترتفع مع معدلات المواليد خارج مؤسسة الزواج، والطلاق، والعلاقات غير الشرعية والزنا في العقود الأولى من القرن العشرين، وجد رجال ونساء أنفسهم معرضين للخطر أو مستهدفين في المحاكم وفي الصحافة. وقد نصح مراقب فرنسي الرجال “الذين يمارسون الإغراء” قائلا: “احترسوا من مخطط الفحص الشامل للدم.” وقد اتهمت النساء اللائي يظهرن في مثل هذه الدعاوى بالحنث باليمين والاختلاط. وكما كان الأمر عليه في ألمانيا النازية، عندما كان كون الحامل للهوية اليهودية عرضة للحكم بالإعدام، كان التنكر للأبوة وتفنيدها وسيلة لإنقاذ الروح، لكن ذلك يتطلب من الزوجة أن تعترف بالزنا، وأن “يعترف الزوج نفسه على أنه ديوث، وأن يتنكر الطفل لأبيه أو الجد ويتنصل منهما ويطعن في أخلاق الأم أو الجدة “. وكان التعرض لهذه الفصول من الإهانة فوائده، ولكن خارج هذه المرحلة التاريخية الشاذة، كانت دعاوى الأبوة من الأمور الدنيئة وإن عرفت عددا قليلا من الفائزين في النزاع في نهاية المطاف.

وقد عرف العلم والتكنولوجيا تقدما هائلا منذ مطلع القرن العشرين عندما تم نشر أقيسة الجسم البشري (وبخاصة في التحقيق حول شخصية المجرمين) مع ترسانتها من البصمات والتصوير (الصور الشخصية) وغيرها من التقنيات التي تم تطويرها في المقام الأول لفائدة الشرطة للكشف عن الأب بما لا يدع مجالاً للشك. ولدينا، الآن، بصمات الحمض النووي التي تفضي إلى نتائج مؤكدة بنسبة 99.9 في المائة، كما لدينا شركة عالمية، يطلق عليها الأبوة العظيمة أو الكبرى، بمليارات الدولارات تبيع اختبارات الحمض النووي عبر الترويج على نطاق واسع لسياسة “الشك”. ولدينا أيضًا متبرعون بالحيوانات المنوية الذين يمنع عليهم بموجب القانون، في معظم الولايات الأمريكية، أن يدعوا الأبوة ويطالبوا بها. ومع ذلك، تكتب ميلانيتش، يبقى “الأب عرضة للغموض وموضوع نزاع بشدة، بل إنه يبقى بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى”.

يعزز موضوع الأبوة الغامض التوتر الدائم بين الطبيعة والثقافة وهو دليل آخر على أننا لا نستطيع فصل الطبيعة البيولوجية عن الاجتماعية. والأبوة هي أيضا بيان قوي حول القوى الدافعة للحالة البشرية، والشرط الإنساني. ولما كان للرجال مثل هذه الروابط البيولوجية الدقيقة مع نسلهم، فهل يفسر ذلك سلوكهم غير الحكيم وغير القائم على منطق سليم عبر التاريخ؟ إن “الأب المراوغ أو غير القابل للإمساك به والخفي” (سواء كان ذلك في السماء أو على الأرض) هو بالتأكيد لغز قد لا يتم توضيحه أبدًا بما يرضينا تمامًا، لكن كتاب ميلانيتش هو الخطوة الأولى في فك تشفير الأسطورة التي تطارد تاريخنا منذ الأزمنة السحيقة.

 

[1] مجلة “تنجيس”، عدد 27 فبراير 2022

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.