الرئيسية | أدب وفن | الفن | سينما | على حلة عيني» الغناء .. رمزاً للتحرُّر | محمد اشويكة

على حلة عيني» الغناء .. رمزاً للتحرُّر | محمد اشويكة

اختارت المخرجة التونسية الشابة ليلى بوزيد في فيلمها الروائي الطويل الأول أسلوباً سينمائياً يستلهم الطابع الكلاسيكي ويحاول الابتعاد عنه في آنٍ واحد، والظاهر أن ذلك الاختيار قد أملته ظروف الاشتغال على موضوعة الصراع بين جيلين متباينين، وعقليتين مختلفتين، فالشابة «فرح» (بية مظفر)، الطالبة الحيوية التي اختارت الغناء ضمن فرقة «روك» ملتزمة، والدخول في علاقة عاطفية مفتوحة مع مؤطّر المجموعة «برهان» (منتصر العياري) وملحنها وكاتب كلمات أغانيها، لم يكنْ طريقها سهلاً بالنظر إلى رفض أمها التي تعرف جيداً مكائد النظام القديم، إلّا أن ذلك لم يؤت بأية نتيجة ملموسة؛ إذ تتحدّى الفتاة أمها الراغبة في أن تتابع ابنتها الوحيدة لدراستها بكلية الطب رغم أن الأب يحاول مسايرة رغبة البنت في تعلُّم الموسيقى دون إجبارها على ما لا تريد.

تنتمي الشابة إلى الجيل الجديد من أبناء تونس الذي خَبِرَ القمع وظَلّ يترصده إلى أن ثار على مدبريه، بينما تقاسي الأم «حياة» (غالية بن علي) مرارة الخوف على ابنتها، المندفعة، من مصيرٍ معروف طال كل من سوَّلت له نفسه الوقوف في طريقه. ستغضب الوالدة التي تحاول البنت إرضاءها إلّا أن محاولة الأم منعها من المشاركة في حفل مفصلي في مسيرتها الفنيّة سيجعلها تثور ضد المؤسسة الأسرية مُفَضِّلَةً الالتحاق بزملائها بالفرقة، خاصة أنها مطربتهم الرئيسية. يُشكّل ذلك التحدي كسراً رمزياً لذلك الخوف الذي يبدأ بتطويق الفرد داخل الأسرة التي ما تفتأ تربّي في الأبناء قيم الخوف بدعوى المصلحة الشخصية والخوف من ضياع المستقبل، ولكن طيبوبة الآباء سرعان ما تتحوّل إلى نوع من التنشئة الاجتماعية التي ترعى ذلك الخوف الأبدي الذي سرعان ما يعوق تحرُّر الكائن، وتحفيزه على الارتكان إلى القناعة والكسل والتواكل وتشجيع الفساد.

تُشكّل المادة الغنائية في الفيلم عصب الدراما لكن التحكُّم في آلياتها لم يتم بالشكل الذي يرقى بها إلى مستوى المقطوعات الفنيّة الراسخة في الذهن كما هو الحال في بعض الأفلام العربية، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر أغنية «عَلِّي صوتك» للفنان محمد منير ضمن فيلم «المصير» للمخرج الراحل يوسف شاهين وغيرها. لقد كانت أغاني فيلم «على حلة عيني» متواضعة مقارنة مع ثيمة الفيلم رغم المجهود الفنّي المبذول فيها، وكان صوت المغنية ضعيفاً وإن كان يعبّر عن الأزمة الفظيعة التي تعيشها الأغنية العربية اليوم، والتي باتت تقدّم الأجساد عوض الأصوات. فطموح المجموعة مقبول، والهدف واضح، لكن ذلك لا يبرّر الضعف الذي بدا جليّاً على مستوى طريقة إخراج تلك المقطوعات ذاتها، والذي نلمس غياب رؤية بصرية ناظمة له، ولتوضيح ذلك أكثر نحيل على فيلم «ضد الجدار» (HEAD ON) للمخرج التركي «فاتح أكين» الذي تنسجم فيه المادة الغنائية شكلاً ومضموناً مع الأحداث والوقائع الفيلمية.

حاول الفيلم الذي حصل على مصادر تمويل مختلفة (شرقية عربية وغربية فرنكفونية) معالجة شمولية القمع في تونس ما قبل الثورة، والذي طال شتى مناحي الحياة بما فيها الفن إلّا أن عُمق القضية يستند إلى الصراع بين الأم كرمز أيقوني في المجتمع الشرقي، والبنت المتحرّرة أو الطامحة إلى تكسير هيمنتها وسطوتها. لقد صارت تلك الموضوعة أثيرة لدى صنّاع بعض الأفلام الجديدة، وهي لا تخلو في عمقها من نظرة استشراقية؛ إذ باتت بعض المخرجات العربيات والشرقيات يتناولنها في الآونة الأخيرة بشكل متواتر، ونشير هنا إلى فيلم «وجدة» للمخرجة السعودية هيفاء المنصور، وفيلم «الحِصن» (MUSTANG) للمخرجة التركية «جيمز إيركيفن»، حيث تعيش المرأة المقموعة تناقضاً بين ما تتلقاه في المدرسة من قيم المساواة والاختلاف والتعدّد، وما تتعرّض إليه في المجتمع من ضغوطات، وهو الأمر الذي يجعل الشابة «فرح» تجد في الغناء والموسيقى وما يرتبط بهما من مُتَعٍ، نوعاً من التطهير، وهروباً من كل ما تدعو إليه قيم الإخضاع الاجتماعية والسياسية.

سعت المخرجة ليلى بوزيد إلى معالجة هذه البنية المتناقضة عبر تسخير أسلوب سينمائي يلتزم بقواعد التأطير الكلاسيكي الذي يجعل التقنيات السينمائية خاضعة للموضوع، ورؤية سينمائية أخرى تسعى إلى تكسير التأطير للتحرّر من الأسلوب، وذلك بغرض المزج بين موضوعية الكاميرا وبعدها الذاتي، بل وفسح المجال لِتَيْهِهَا أيضاً، وتتجلّى تلك الرؤية أثناء بحث الأم عن ابنتها بعد «اختفائها – اختطافها» في محطة الحافلات حين كانت ترافقها للسفر والابتعاد مؤقتاً عن الأعين بعد ملاحقة الأجهزة لها. فقد كانت الكاميرا تمسح المكان وكأنها عين الأم الحائرة، وتدرع مختلف مرافقه للدلالة على الشرود الذي يتخبّط فيه الفرد في مجتمع ما قبل الحِراك، والذي يتربص به خطر خفي يحوله إلى كائن خائف يمكن أن يختفي في أيّة لحظة. إنها كاميرا مفزوعة تعبّر عن الحالة النفسية لذلك الإنسان المضطهد الذي استضمر الخوف وينتظر الفرصة التي سيفجر فيها ذلك الكبت الثقيل الذي يملأ دواخله.

يظهر أن اختيار الممثلين في الفيلم قد كان منسجماً بالنظر إلى تفاوت المستويات النفسية والاجتماعية للشخصيات، فالأم منشطرة بين ضغط المجتمع، وكذا خوفها الأمومي على مستقبل ابنتها؛ وبين الفراغ الذي تركه غياب الأب المتسامح مما جعل مزاجها يتأرجح بين الليونة والشدة، الحزم والاستسلام، التقرب والمقاطعة، أما البنت فوضعيتها مختلفة لأنها تسير وفقاً لما تمليه عليها قناعاتها الشبابية الحالمة بمعيّة رفاقها بغدٍ أفضل. لقد حاول «على حلة عيني» أن يوظف جُلّ المفارقات التي وسمت المجتمع التونسي قبل الثورة، وإِنْ كانت المقاربة السيناريستية والسينمائية قد ظلّت بعيدة عن جوهر الأشياء واكتفت ببعض العوارض التي صَيَّرَهَا الفيلم مهمة (أمكنة وأحداث) على حساب أخرى قد ظَلّ حضورها شبحياً، فالمَشَاهِد الخاصة بالأجهزة القمعية لم تأتِ بأي جديد شكلاً ومضموناً بالرغم من إدانتها واستفظاعها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.