الرئيسية | أدب وفن | موديغلياني وتراجيديا السعادة

موديغلياني وتراجيديا السعادة

تتأمّل لوحاته مليّاً، تُحار كيف لها أن تنطق وهي ليست إلّا انسكاب اللون على بياض القماش، كيف لعينين لوزيتين قاتمتين أن تنطقا بحال من رسمها وهو الإنسان الذي أرهقته الحياة فكان ردّه عليها…جنون متمرّد صارخ، حس بوهيمي صادق، ونفس عاشق لكل ماهو بسيط وحقيقي ..

إنّه أمير المشردين وآخر البويهيمين الحقيقيين!

(ولادته وطفولته):

Modigliani1في الرابع من حزيران عام1884 شَهِدت بلدة توسكانيا (شمال ايطاليا) ولادته لعائلة يهودية عانت من فقر مدقع نتيجة إفلاس الأب. كان موديلياني الطفل مرتبطاً بأمّه أشد ارتباط، وكانت هي بدورها قد استشفّت رقّة وجمال طفلها البهي، فجابت به ايطاليا جنوباً وشمالاً في رحلة كان الهدف الوحيد منها مشاهدة الآثار والأعمال الفنّية. دفعته والدته نحو شغفه الذي بدأ يتكوّن في سن مبكرة فكانت له الفرصة أن ينتسب إلى مدرسة الفنان ميكلّي للفن من عام 1898 الى 1900 وهناك درس الفن الايطالي في القرن التاسع عشر وأعمال عصر النهضة والذي نرى بعضاً من تأثيرهم في فنه في السنوات اللاحقة.

أُُصيب بمرض السل في السادسةِ عشر من عمره، وسيقدّر لهذا المرض أن يكون صديقهُ الأوفى الذي سيرافقه طيلة سنوات حياته ليقضي عليه في النهاية.

رفض موديلياني ذلك الهوس الشائع لدى المبرقعين الايطاليين والانطباعيين الفرنسيين برسم المناظر الطبيعية من باب كرهِه للرسم في الخارج باستثناء ممارسته الرسم أحياناً في المقاهي، مفضّلاً العمل داخل مرسمه.

لكن رسومه لم تخلو من المناظر الطبيعية، أضف إليها الطبيعة الصامتة. وبقيت البوريتريهات (الوجوه) والأجساد العارية المادة الأساسية لمعظم أعماله.

1902 دخل الى المدرسة الحرّة لدراسات الجسد العاري في فلورنسا وبعد ذلك بعام انتقل الى فينيسيا (البندقية) ليسجّل في معهدها للفنون الجميلة.

قد تبدو حياة”مودلياني” لقارئ عابر مجرد حياة مليئة بمطاردة الملذّات، حياة مصبوغة بطابع بوهيمي بحت غايتها الوحيدة..المتعة لكن الحقيقة أن مودلياني كان باحثاً وراء فلسفته الخاصة، ساعياً وراء بذور الحياة التي تشكّلت لديه إثرَ تبنيه للفلسفات راديكالية كفلسفة نيتشه.

تأثّر مودلياني بعدد مِمن قرأ لهم كـ نيتشه وبودلير،كاردوتشي وكومت دي لاوتريامونت وغيرهم وباتت لديه القناعة بأن المسار الوحيد للابداع الحقيقي هو عبر التحدّي والفوضى الخلّاقة.

(موديلياني في باريس):

انتقل موديغلياني إلى باريس عام 1906والتي كانت حينها في الطليعة الفنية ليستقر في مبنى مخصّص من قبل البلدية للفنانين المفلسين ،وليستأجر لنفسه مرسماً جميلاً تتوزّع فيه أعمال عصور النهضة، ويشي تصميمه بذوق رفيق وحس جمالي مميز

في بداية فترة استقراره في العاصمة الفرنسية كان موديلياني أنيقاً جميلاً بلا مباهاة أو تكلّف بلباسه القطني ووشاحه القرمزي وقبّعته السوداء الكبيرة، يشرب باعتدال، وذو مكانة اجتماعية مقبولة.

لكن بعد مضي عام على إقامته في باريس تغير سلوكه وسمعته بشكل درامتيكي، ليتحول من فنان أكاديمي أنيق إلى أمير للمشرّدين، إلى مدمن حقيقي للكحول وليقوم لاحقاً بإزالة كل ماله علاقة بفنون عصر النهضة من على جدران مرسمه مجرّداً أياه من أي عنصر يدل على الفخامة، فأصبح أشبه بمذبح يضحي فيه بكل أثر للفن الأكاديمي الذي صبغ حياته ومشواره، و باتت بواكير أعماله الخاصة كأشياء كريهة عفنة قام بتدميرها ليعلّل سلوكه المتطرف بقوله :”انها تزيينات صبيانية ،رسمتها حين كنت بورجوازياً قذراً.”

ربّما كانت رقصة الموت التي اعتادها مودلياني مع مرضه السل هي السبب وراء نهمه للاستمتاع بالحياة كما يريد هو، لا كما يُريد الآخرون، والانغماس في أعمال التدمير الذاتي كردة فعل ربما اتجاه عدم الاعترافِ بفنّه أو الاكتراث له كما يجب.

لموديلياني مِئات “السكيتشات” التي اعتاد رسمها بسرعة وعصبية. للأسف لم يتبقّى منها إلّا القليل حيث فُقِد منها جزء كبير نتيجة تخريبه أو لضياعها خلال انتقاله من مكان الى آخر ولتوزيعه أياها على صديقاته الفتيات.

تأثر في البداية بهنري دي تولوز لوتريك ،وفي 1907 أصبح مهووساً بأعمال بول سيزان لينتج بعد ذلك أسلوبه الخاص الذي لم يستطع أحد الى الآن تصنيفه.

(النحت):

عام 1909عاد موديليغياني الى منزله في ليفورنو مريضاً وتعباً من نمط حياته الجّامح. ليرجع بعدها الى باريس ويستأجر مرسماً آخر وليعتبرنفسه حينئذ نحّات أكثر منه كرسّام. وقد عرضت مجموعة من منحوتاته في معرض صالون الخريف لعام 1912.

لاحقاً تُجبره حالته الصحية المتدهورة لهجران النحت متّجهاً إلى الرسم مرة أخرى

في فن موديغلياني يظهر تأثره بالفن الافريقي والكمبودي. فنجد أثر الأقنعة الإفريقية في كل أعماله التصويرية والنحتية:

المظهر المسطّح والشبيه بالقناع، العيون اللوزية المميزة، الأفواه المطاردة، الأنوف الملفوفة، الرقاب الممتدة والتي جميعاً تشكّل خصائص النحت والتصوير للعصر الوسيط في أوروبا حيث كانت نشأته مع تماثيل العصر الوسيط أثناء دراسته في شمال ايطاليا (رغم عدم وجود اشارة منه شخصياً بهذا الخصوص على عكس بيكاسو مثلاً،الذي كان يحيط نفسه بتلك الأثار الفنية).

رسَم مجموعة بورتريهات لفنانين معاصرين كـ سوتين،كيسيلينغ، ماكس جاكوب، دييغو ريفيرا..ومع اندلاعِ الحرب العالمية الأولى، حاول موديلياني الانخراط في الجيش الا أنه رُفض بسبب سوء صحته.

(سنوات الحرب):

عُرف باسم “مودي” والتي تعني الملعون عند بعض الباريسيين أمّا الأصدقاء والعائلة فكانوا يدعونه بـ: “ديدو”.

بياتريس هاستينغس كانت موضوعاً لعدة بورتريهات قام برسمها بعد أن ارتبط معها في علاقة دامت لسنتين. أمّا حبّه الأول فكان مع الشاعرة الروسية آنا أخماتوفا، إلى أن جاءت “جان هيبوترن” والتي أصبحت حب حياته بعد أن وقفت في وجه تقاليد عائلتها البرجوازية الكاثوليكية المتدينة الرافضة لهذه العلاقة ليس فقط بسبب سمعة موديغلياني السيئة وحسب وانما لما هو أكثر من ذلك :يهوديته.

في الثالث من كانون الأول عام1917 افتتح معرضه الفردي الأول في صالة بيرت فايل ليُغلق بعد ساعاتٍ من افتتاحه بعد أن أثارت لوحاته موديلياني العارية حفيظة شرطة باريس.

الموت :

شاءت الأقدار أن تكون الفسحة المُقدّرة لموديلياني بين الولادة والموت صغيرة. فكان مرضه الذي رافقه منذ طفولته على موعد معه في الشهر الأول من عام 1920…

بعد أيام من وفاته، لحِقت بموديلياني زوجته ورفيقة عمره بعد أن ألقت بنفسها من نافذة منزلها قاتلةً نفسها وجنينها الحامل به لترقد إلى جانب زوجها في مقبرة بيير لاشيسه.

عاش موديغلياني حياته في عوزٍ وكان يبادل رسومَهُ مقابل وجبات الطعام، وبعد وفاته باتت حصيلة سمعته وشهرته: تسع روايات ومسرحية ووثائقي وثلاثة أفلام مصورة .

المصدر: هنا

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.