الرئيسية | أدب وفن | رِسَالَةٌ: وَهَا هَا هُو، خَيْلَانُ، بِكُنْ يَزْهُو… | جمال خيري – فرنسا

رِسَالَةٌ: وَهَا هَا هُو، خَيْلَانُ، بِكُنْ يَزْهُو… | جمال خيري – فرنسا

جمال خيري

 

أَيْ نُورَانُ

رَمَيْتُ لَقْطاً مِنْ قَلْبِي إِلَى حَمَامَةٍ كَانَتْ قُرَابَةَ الذَّاكِرَةِ. قَارَبَتِ اللَّقْطَ فِي حَذَرٍ شَدِيدٍ، ثُمَّ اقْتَرَبَتْ مِنْ يَدِي وَهْيَ تَهْدِلُ، ثُمَّ رَكِبَتْ خُطُوطَ الْكَفِّ بِقَفْزَةٍ مُبْهِرَةٍ وَحَطَّتْ بَيْنَ خَطِّ الرَّأْسِ وَخَطِّ الشَّمْسِ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ خَطِّ الْحَيَاةِ، وَهَمَّتْ أَنْ تَدْخُلَ الْقَلْبَ، إلَّا أَنَّ شَيْئاً مُبْهَماً حَدَثَ فَاهْتَزَّ الْقَلْبُ وَسَارَعَ الْخَفَقَانَ وَهْيَ عَلَى الْعَتَبَةِ. فَارْتَدَّتْ إِلَى خَطِّ الْحَيَاةِ مُرْتَابَةً إِلَّا مِنِّي. جَثَمَ الصَّمْتُ لَحْظَةً وَعَلَا السُّكُونُ، وَنَحْنُ جَاحِظَانِ بِالْإِصَاخَةِ نَتَرَامَشُ. وَفِي الْآنِ، انْتَبَهْنَا مَعاً، وَالْتَفَتْنَا كَمَا بِعُنُقٍ وَاحِدٍ، إِلَى طَقْطَقَةٍ مِنْ خَلْفِ الرَّاحَةِ آتِيَةٍ؛ فَانْتَظَرْنَا هُنَيَّةً مَدْهُوشَيْنِ، وَلَمْ يَمُرَّ أَحَدٌ، وَلَا الرِّيحُ حَرَّكَتْ شُبْهَةً أَوْ نَكْهَةً. وَلَكِنْ، وَأَنَا أَتَفَكَّرُ فِي الْأَمْرِ وَأُسَائِلُ عَنْ خُطُوطِيَ زَلَّاتِ خُطَايَ، طَارَتِ الْحَمَامَةُ، بَغْتَةً – وَكَأَنْ مَا، أَبَداً، طَارَتْ، بَلْ فِعْلاً، بَدَلاً، صَارَتْ – وَحَطَّتِ امْرَأَةً خَيْلَانَ مِنْ شَمَمِ الْعَلْيَاءِ عَلَى وَشَمٍ لَا يَكَادُ يُرَى بِخَطِّ الْمَصِيرِ. تَعَجَّبْتُ. وَجَمَّعْتُ الْكَفَّ عَلَيْهَا لَفًّا خَفِيفاً، بِالْأَنَامِلِ، لَطِيفاً، فِي الْحِينِ تَصَيَّرْتُ خَيْلَانَ سَيَّهَا وَهِمْتُ عَلَى وَجْهِهَا أَمْخُرُ لِحْفَ الْأَدِيمِ؛ وَإِذَا بِالصَّلْصَالِ رَاحَ، وَسْطَ الْأَبْخِرَةِ وَبَيْنَ الْأَغْبِرَةِ وَقَلْبَ الْجَمَرَاتِ وَعُرْضَةَ الْغَازَاتِ، لَوْذَعِيٌّ عَلَى أُهْبَةِ التَّوْهِيدِ، لَا يَأْبَهُ وَلَا يَأْمَهُ؛ بَرْدُهُ فِيهِ وَسَلَامُهُ مِنْهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، يُرَتِّلُ مَزَامِيرَ مَا قَبْلَ الاِسْتِهْلَالِ بِالْأَمْرِ وَبَعْدَ الْمَآلِ بِالْحَشْرِ، بِكُنْ يَزْهُو:

“تَغِلُ فِي غِمَارِي، تَضُوعُ فِي أَنْسَاغِيَ، أَتَطَوَّعُ عَلَانِيَّةً، أَتَبَوَّعُ فِيكَ، أُعَمِّدُكَ، أُعِيدُكَ نَبْعَتَكَ، أَنْعَتُكَ بِكَ، أُلَقِّبُكَ بِقِبْلَتِكَ وَقَوْلِكَ، لَا أَنْبِزُ بَلْ أَرْجُزُ بِمَزَايَاكَ، وَأَمِيزُكَ كَيْ أُذَكِّيَكَ بِكَيْفِكَ وَأُذَكِّرَكَ بِكُفْيِكَ ثُمَّ أُسَمِّيكَ بِكُنْهِكَ، فَأُعَوِّدُكَ عَلَيْكَ. أَحُثُّ حُضْنِي نَحْوَكَ كَيْ أَحْتَوِيكَ لِأَنَّكَ ذَكَا الْوُلُوعِ، أَوْ كَمَا حَرْوَةُ الْجَوَى وَلَكِنْ فِي الرُّوحِ لَا تَبْرَحُهَا، كَأَنْ مَغْدَاكَ وَمَرَاحُكَ لَا عَنْهَا الْبَتَّةَ تَزِيحُ أَوْ بِالْمَرَّةِ تَتَزَحْزَحُ؛ أَبُوحُ، وَلَا غَيْرُ حُرُوفِكَ تُرَنِّحُ فِي الْحَلْقِ، تُحَفْحِفُ وَتُحَلِّقُ؛ أَشْرَقُ، أَشْهَقُ، أَقْلَقُ، أَأْرَقُ، تَخْنُقُنِي الْخَلْوَةُ وَلَا أَخْبُو، لَا أَخُرُّ وَلَا أَتَخَلَّفُ أَوْ يَأْخُذُنِي الْخِذْلَانُ، وَلَكِنَّنِي أَتَخَلَّصُ مِنْ كُلِّ الخُبْثِ وَأَتَخَفَّفُ مِنَ الْخَلْفِيَّاتِ وَلَا أَخِيبُ، بَلْ أَدُوخُ بِخُمْرَتِكَ، يُدَاخِلُنِي الْخَدُّ، فَأَسِيخُ فِي سُخْدِكَ السَّخِيِّ، أَغْرَقُ فِي اغْرِوْرَاقِ رَغْبَتِكَ، أَغِيبُ فِي رَغِيدِ الْإِغْوَاءِ، أَتَحَرَّقُ إِلَيْكَ، أَطْرُقُ قَيْنَةَ قَلْبِكَ، وَهَا بِالْفَوْغِ وَالْغِشْيَانِ، بَغْتَةً، تَغْدَقُ كَالْغَيْثِ، فَأَنُورُ وَأَنِيرُ، مَعاً؛ بِخَوْرِكَ الْجَوَادِ بِيَ إِرَةُ الْوَلَهِ؛ لَا أَصْبُو إِلَيْكَ وَلَوْ بِيَ الشَّوْقُ يَلِجُّ، بَلْ أَنْصَبُّ فِيكَ، أَصْطَبُّ صَمِيمَكَ؛ أَحْيَاكَ فَأَلْحَقُ شَأْوِي، سَبَيْتَ أَرْسَاغَ مُهْجَتِي، تَنْتَابُنِي بِغَمْرِكَ وَتَحُلُّ، كَأَنْ غَيْدَاءَ، أَتَحَلَّلُ، أُنْسِلُكَ وَتُنْجِبُنِي فِي تَمَامِ التَّلَاؤُمِ وَالاِلْتِئَامِ سَيًّا لِسَيٍّ؛ لَا أَتَعَدَّدُ بِوَصْلِكَ بَلْ بِصُهَاكَ أَتَوَلَّدُ؛ أَنْتَ الْوَاحِدُ وَأَنَا بِكَ الْأَحَدُ؛ خَفِيُّكَ يَمْخُرُنِي، حَوْرَتُكَ تُحَيِّرُنِي، غَوْرُكَ يُغْرِينِي، كَأَنْ أَنْتَخِي الْأَنَا، عَلَى خَمَرٍ، أَعْلَى بِإِضِّكَ، أَتَعَالَى لِقَبْضِكَ، أَتَجَلَّى فِي غَضِّكَ وَأَنْجَلِي فِي بَضِّكَ؛ أَكْبُو فِي رَكْبِكَ، وَالرَّكَبُ فِي الْمَكَا الْمَكِينِ، كَأَنْ أَسِيرُ وَمَسَّتْنِي الْمُسْكَةُ فَأَسَلْتُ السَّكَّ بِالسَّكِّ، وَسِحْتُ لَا إِلَّا فِي سَرِيرَتِكَ، فِي إِسَارِ التَّسَامِي؛ مَرْؤُوسٌ بِالْأَصْلِ، مَحْرُوسٌ بِالْفَصْلِ، مَأْنُوسٌ بِالْوَصْلِ؛ مَالِكٌ بِالْإِصْرِ مَمْلُوكٌ بِالْخِصْرِ، مَلَاكٌ بِالْآصِرَةِ. وَلَكَمْ أَحْيَاكَ كَأَنْ خَيَالِي أَلَاحَكَ، كَأَنْ خَبَالِي أَبَاحَكَ، كَأَنِ الْمُحَالُ حَفَّزَكَ؛ بَدْءً رُمْتُ إِلَيْكَ حَذِراً، ثُمَّ ارْتَمَيْتُ، ظَنَّا بِالتَّحَدُّرِ، وَالْآنَ أَتَمَرَّى بِكَ عَيْناً بِالْإِعْلَاءِ وَالتَّحَرُّرِ، خَيْزَرَى فِي آنِكَ قَهْقَرَى، وَاصِلٌ فِي ظَنِّكَ رَاحِلٌ فِي ظِلِّكَ، دَوْماً عَلَى أُهْبَةِ الاِعْتِلَاءِ، أَوَ تَرَى بَصِيرَةً مَا بَصَراً أَرَى، يَا تُرَاكَ، يَا تُرَى؟ أَتَغَيَّرُ بِكَ وَمَعَكَ، عَلَيْكَ أَغَارُ، ثُمَّ أَغْرُو، ثُمَّ أَتَحَيَّرُ. أَرْفُضُ قَرْسَ الذَّاتِ وَقَسْرَ اللَّذَّاتِ. أَطْلَعُكَ وَأَتَطَلَّعُ بِكَ عَلَيْكَ. أُرِيدُكَ، أُرِيدُ ارْتِدَاءَكَ رَدْأَكَ كَيْ أَتَعَرَّى مِنِّي وَأَتْرَعَكَ بِي، أُرَعْرِعَكَ وَأَرْعَاكَ، أَصْحَبَكَ بِالْفَحْوَةِ وَأُصْبِحَكَ بِالصَّحْوَةِ. أَشَاءُ الرِّيَادَةَ، الرَّكِيَّةَ، الرَّجِيَّةَ الْأُرْجِيَّةَ، أَتَهَالَكُ خَلْفَكَ وَبَيْنَ كَفَّيْكَ تَوْقَ أَنْ أَتْقَأَ رَكْوَتَكَ بِالْفِلْذَاتِ؛ أَنْ أُنَصِّبَكَ عَلَى الْكَاهِلِ وَأُحَمِّلَكَ الْخَطِيئَةَ مِنْ جَدِيدٍ. أَشْرَهُ إِلَيْكَ بِطَلْقِ لِسَانِي فِيكَ كَيْ تَفْتَرِشَهُ بِالْفَلَتَاتِ فَأُزَمِّلُكَ؛ مُغْرَمٌ، رُحْمَاكَ، لَا مَغْمُومُ، لَا مُرْغَمُ، لِأَنِّيَ غَيْرٌ وَلَا غَيْرَ إِلَّاكَ. أَتَوَخَّاكَ كَمَا أَنْتَ مَائِعَ النُّور بِالْكُورِ وَمَانِعَ اللَّوِيَّةِ بِالتَّوْلِيَّةِ. قَبْلَكَ مَا كَانَ أَثِيرُ وَلَا بَعْدَكَ يَأْتِي عَشِيرُ، يَا النَّوِيُّ النَّجِيُّ الصَّفِيُّ الْوَلِيُّ الْمُغْنِيُّ الزَّهِيُّ، الْقُرَّةُ الْعِلِيُّ، النُّقْرَةُ الْبَهِيُّ، يَا الْفَأْلُ الْأَتِيُّ، يَا الْخُمْلُ الْوَفِيُّ، يَا الْخِدْنُ الشَّهِيُّ، يَا خِبَائِي…”

وَقَبْلُ…

الْيَوْمَ حَرٌّ وَغَداً خَمْرٌ. وَالْأَمْسُ لَا أَذْكُرُ مِنْهُ سِوَى وَجْهِكِ الْوَضِيءِ بِالْبُشْرَى، عَبْرَ الشَّاشَةِ، يَلُوحُ بِالْبَهْجَةِ كَهِلَالِ الْعِيدِ فِي قُبَّةِ الْإِصْبَاحِ؛ قَرَيباً سَنَلْتَقِي؛ فَرَّحَكِ تَوْقِيَ إِلَى التَّلَاقِي. وَأَنَا، كَذَلِكَ، جَنَانِي يَرِفُّ وَيَزِفُّ، وَلَا إِلَّا إِلَيْكِ. وَلَكِنَّ كَيْنَتِي أَنَّنِي أَتَأَرْجَحُ بَيْنَ الشَّنْفَرَى وَكْلَايْسْتْ. أَقْبَعُ فِي ضِيقٍ، مِرَاراً كَهَذَا وَمِرَاراً كَذَاكَ، وَالطَّوَاحِينُ لَيْسَتْ، أَبَداً، فِي الْهَوَاءِ؛ وَلَا مُرْسَى، وَلَا مَحَطَّ سِوَى كَنَفِكِ الصَّائِفِ بِالتَّلَهُّفِ إِلَى الْوِصَالِ. مَرَّتْ أَعْمَارٌ وَقَلْبِي يَتَقَلَّبُ فِي انْتِظَارِكِ. كَمْ وَرْدَةً ظَنَّهَا أَنْتِ أَخْفَقَتْهُ، كَمْ شَوْكُهَا دُونَكِ أَدْمَاهُ. كَمْ ضَرَمَةً خَالَهَا نُورَكِ، وَهِمَ إِلَيْهَا مَلْهُوفاً وَهَمَّ، فَأَحْرَقَتْهُ. لَكَمْ تَأَرْجَحَ بَيْنَ النَّطِّ وَالسُّقُوطِ إِجْبَاراً لَا خِيَاراً حَيْثُ لَا بَدِيلَ فِي غَيْبَةِ الْبُغْيَةِ. تَرَيْنَنِي أَتَدَحْرَجُ إِلَيْكِ؛ وَلَيْسَ حُلْماً وَلَيْسَ وَهْماً، إِنَّمَا أَقْرَأُ التَّوَجُّعَ فِي مُقْلَتَيْكِ، فِي دَمْعِهَا الْحَبِيسِ، وَأَنَا أَفْتَرِي ابْتِسَامَةً لَا جُذُورَ لَهَا فِي ثَنَايَا الْكِيَانِ، مُحَاوِلاً أَنْ أُطَهِّرَ الدَّهْرَ مِنْ صُرُوفِهِ الْمُتَوَالِيَّةِ عَلَى قَدَرِي؛ تَرَيْنَنِي، حَقًّا، أَتَدَحْرَجُ، وَلَا تَرَيْنَ الْجَثَامِينَ تُخَلِّي أَرْمَاسَهَا، تَنْزَحُ عَنْ جَوْفِ ثَرَاهَا وَتَزْحَفُ كَالْخَرَاطِينِ خَلْفِي؛ أَرْكُضُ، يَتْبَعُنِي فَحِيحُهَا، تَشُدُّنِي جَاذِبِيَّةُ الثِّقَلِ كَمَا بِالدِّبْقِ إِلَى كَبِدِ الْغَبْرَاءِ، وَيَغْدُو الْخَطْوُ مِنِّيَ عِبْئاً وَازِناً بَطِيئاً، كَمَا فِي حَبَائِلِ رِمَالٍ مُتَحَرِّكَةٍ كُلَّمَا وَطَّدْتُ الْعَزْمَ عَلَى الْإِفْلَاتِ سُخْتُ أَكْثَرَ. أُحِسُّهَا تَدْنُو، أَلْتَفِتُ، أَرْنُو، فَيُغْمَى عَلَيَّ، أَوْ يُغْشَى، سَيَّانَ، وَلَا يُصَحِّينِي سِوَى وَجْهِكِ الصَّدَّاحِ بِالاِبْتِسَامِ، الْوَضَّاحِ بِالسَّلَامِ.

أَخْرُجُ مِنَ الشَّوْقِ لِلنَّاسِ مُتْرَعاً بِالْحُلْمِ، مُفْعَماً بِالْأُمْنِيَّةِ، لَا بُغْيَةَ لِي سِوَاكِ. أُجَرْجِرُ جُسْمَانِي بَيْنَ رُبُوعِ الْمَدِينَةِ، أَجُوبُ أَسْوَاقَهَا عَسَى تَحْمِلُنِي ضَجَّةُ الْأَبْشَارِ وَزَحْمَتُهَا عَلَى النِّسْيَانِ وَالسُّلْوَانِ. وَلَكِنَّ نَخَزَ النَّمْلِ وَوَخَزَهُ يَلْسَعُنِي وَضُرَّ التَّكَهْرُبِ وَحَرَّهُ يَلْفَعُنِي، كَأَنْ شَوْكُ نُخَاعِيَ يَتَطَايَرُ مِنَ الرَّقَبَةِ وَيَنْغَرِزُ بِمَا يُشْبِهُ شَحْطَ الثِّقَابِ بَيْنَ الظُّفْرِ وَلَحْمِ الْأُنْمُلَةِ فِي كُلِّ ذَاتِي وَيُجْبِرُنِي عَلَى الْقُفُولِ الْحَثِيثِ. أُسَارِعُ ظِلِّيَ كَيْ لَا يَسْتَبِقَنِي فَيَأْخُذُهُ الْأَلَمُ وَالاِرْتِخَاخُ إِلَى السَّرِيرِ، فَيَأْسِرُنِي إِلَيْهِ. وَفِي زُقَاقِ الْأَوْبِ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ بَابِ الدَّارِ، جَارِيَ الْوَاجِمُ دَوْماً، يَتَوَقَّفُ هَذِهِ الْمَرَّةَ بَشُوشاً وَيُبَاشِرُنِي بِالتَّحِيَّةِ وَبِالدَّرْدَشَةِ. اتِّجَاهُ الشَّهْوَةِ مُثِيرٌ وَسُبُلُهُ غَرِيبَةٌ لِلْغَايَةِ؛ زَوْجَتُهُ الَّتِي تَحْفَظُ مَوَاقِيتِيَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهَا وَبَطْنِهِ، تُتَابِعُنِي عَبْرَ الشُّرْفَةِ وَتُلَوِّحُ بِالتَّبَرُّجِ وَالْوَشْوَشَةِ، أَرُدُّ بِكَفٍّ تَغْمِزُ وُسْطَى، وَلَا تَهْمِزُ، وَخَلْفَ الْبَاحَةِ أَخْتَفِي، أُحِسُّهَا تَدْلُكُ وَتَصَنَّتُّهَا مَا مَرَّةَ تُدْلِي. الْيَوْمَ حَرٌّ، طَارَ فِيهِ قَلْبِي إِلَى عَلْيَاءَ لَا أَرْضَ لَهَا، لِأَنَّ طَيْفَكِ رَاوَدَنِي فِي غَيْرِ الْمَنَامِ وَلَيْسَ عِلْماً، وَلَكِنْ مَحْسُوسٌ مَلْمُوسٌ إِلَى أَخْمَصَيْهِ. وَلِأَنَّهُمْ يُزَفِّتُونَ الْحَيَّ، فَقَدْ تَذَكَّرْتُ مَسْقَطَ رَأْسِي وَبَكَيْتُ. ثُمَّ أَحْسَسْتُ بِرَغْبَةٍ مُلِحَّةٍ فِي قِرَاءَةِ “عَائِدٌ إِلَى حَيْفَا”، وَلَكِنَّ الْهَاتِفَ رَنَّ؛ مَاتَ أَحَدُ أَصْدِقَاءِ الطُّفُولَةِ، أَخْبَرَتْنِي أُخْتِي، ثُمَّ أَضَافَتْ، قَبْلَ أَنْ تُغْلِقَ الْخَطَّ، بِنَكْهَةِ تَأْنِيبٍ: “وَأُمُّكَ تَنْتَظِرُ”. فَعَزَفْتُ عَنِ الْقِرَاءَةِ وَانْهَمَكْتُ عَلَى كِتَابَةِ وَصِيَّتِي فِي أَنَاةٍ، وَلَكِنْ دُونَ مَلَلٍ أَوْ كَلَلٍ؛ وَهَا الْبَدْرُ يَتَرَنَّحُ بِهَالَتِهِ وَأَنَا فِي هَوْلٍ كَبِيرٍ: نَحْنُ الْآنَ غَداً… فَهَلْ نِمْتُ؟ أَبَداً. الْوَقْتُ وَأَنَا فِي نَأْيٍ عَنْ آنِكِ، شَوْلَاتٌ، فَقَطْ. وَلَمْ أَقُلْ لَكِ، بَعْدُ، أُحِبُّكِ. مَا نَزَالُ الْبَارِحَةَ…

أَنْهَيْتُ قِرَاءَةَ الْعَائِدِ إِلَى حَيْفَاهُ، وَرَوَّيْتُ ذِكْرَى صَدِيقِي بِدُمُوعٍ مَالِحَةٍ لَافِحَةٍ؛ قُلْتُ لِنَفْسِهِ فِي نَفْسِي: لَا تَخَفْ… ثُمَّ مَعَسْتُ عَنْكَبُوتاً كَانَ يَدِبُّ عَلَى شَفَةِ الْفِنْجَانِ، وَكَادَ يَرْتَمِي فِي قَهْوَتِي وَيَنْغَمِسُ بِاللَّوْثِ، وَبِمُخَاطِهِ خَرْبَشْتُ حُرُوفاً خَبِيثَةً عَلَى عُلْبَةِ الدُّخَّانِ الْفَارِغَةِ. فَتَذَكَّرْتُ بَعُوضَةَ الْبُوذِيِّ الَّذِي غَالَبْتُهُ بِالْمُنَاظَرَةِ فَغَلَبَنِي. تَذَكَّرْتُ يَاسَمِينَ الْبَاحَةِ يَنْكَمِشُ عَلَى عِيدَانِهِ. وَتَذَكَّرْتُ الْمَرْأَةَ الَّتِي كُنْتُ أُحِبُّهَا ذَاتَ وَطَنٍ مَاتَ. وَتَذَكَّرْتُ الْقِطَّ الْأَسْوَدَ الَّذِي كَانَتْ لِيَ عَيْنَاهُ بِالْمِرْصَادِ وَالْغَمَامَةَ الدَّاكِنَةَ الَّتِي تَسَلَّطَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ دِفْءِ الشَّمْسِ. وَرَاحَتْ مَشَاهِدُ حَيَاتِي تَتَوَاتَرُ بَيْنَ بُؤْبُؤَيَّ؛ وَالْوَاقِعُ لَيْسَ إِلَّا مَا أَرَاهُ وَأَخْبِشُهُ بِظُفْرِ الْقَلْبِ وَظَرْفِ الْوُجُودِ. ثُمَّ وَكَأَنْ صُفِعْتُ بِيَدٍ مَشْلُولَةٍ خَشِنَةٍ، تَقَهْقَرَتْ ذَاكِرَتِي مِنْ غَيْرِ تَوَقُّعٍ، إِلَى الْحَمَامَةِ الَّتِي رَمَيْتُ إِلَيْهَا بِيَدِي لَقْطاً مِنْ قَلْبِي، فَسَكَّرْتُ الْغَارَ بِمَا قَدْ يُظَنُّ نَسِيجَ الْعَنْكَبُوتِ الَّذِي مَعَسْتُهُ. وَأَضْرَمْتُ النَّارَ فِي وَصِيَّتِي عَلَى الْمِنْفَضَةِ. وَفَكَّرْتُ مَلِيًّا فِي أُمُورٍ خَارِجَ الْعَادَةِ وَالْعِبَادَةِ، ثُمَّ رَبَطْتُ لِسَانَ أَفْكَارِي كَيْلَا يَنْفَلِتَ وَرُحْتُ أُجَوِّلُهُ ثَانِيَّةً فِي زِفْتِ الْمَدِينَةِ، أَسْتَعِيدُ ذِكْرَيَاتِ زِفْتِ الْوَطَنِ.

يَدِبُّ الْأَيْضُ فِي دَهَالِيزِ الْأَدَمَةِ، وَالرُّوحُ جِسْمٌ مَائِعٌ يَجْرِي فِي كُلِّ الْجُسْمَانِ. رُبَّمَا فِي ثَنَايَا الدِّمَاغِ، بِطَابَقِهِ الْعُلْوِيِّ بِالضَّبْطِ، كَائِنٌ هُلَامِيٌّ، مِجْهَرِيُّ السَّحْنَةِ، مُشَفَّرُ اللِّسَانِ. يَتَأَصَّلُ فِي حَنَايَا الصَّدْرِ، يَتَشَمَّلُ الرِّيَادَةَ، يَتَوَلَّى الْقِيَادَةَ بِالتَّعَوُّدِ وَالْإِدْمَانِ، يَثْوِي أمَامَ أَزْرَارٍ وَمَقَابِضَ مُنَمْنَمَةٍ، يُقَدِّرُ الْغَدَايَا وَيُقَرِّرُ الْعَشَايَا فِي الْآنِ. وَفِي الدَّيَامِيسِ رُفُوفُ الْأَرْشِيفِ وَالذِّكْرَى، يَحْرُسُهَا فَيْلَقُ اللَّاوَعْيِ بِخَفَقَاتٍ مُكَهْرَبَةِ الْمَسْرَى، يَدْفَعُ عَنْهَا سَطْوَةَ سَلَّةِ الْمُهْمَلَاتِ وَبَطْشَ النِّسْيَانِ. وَبَيْنَ الْأَنَا وَذَاكَ يَنْتَصِبُ الْأَعْلَى أَمْراً وَنَهْياً يَتَجَلَّى بِاسْمِ الْعَشِيرةِ مُمَغْنَطاً بِالْأَبَاطِيلِ وَالْبُهْتَانِ: لَمْ يَكُنْ حُلْماً أَبَداً… كَانَ الشَّارِعُ، عَيْناً، مَعْرِضَ أَسَرِيَّاتٍ رَشِيقَةٍ وَوَاجِهَاتٍ أَنِيقَةٍ تُشْبِهُ حَفْلَ الْمَانِيكَانِ إِلَى حَدِّهَا الْبَعِيدِ. يُشِعُّ بِالْفِتْنَةِ يُذَكِّرُ بِالْبَاءَةِ وَبِالْعِيدِ. لَا أَبْسِطَةَ لَا حَصَائِرَ كَانَتْ تَحْجُبُ الطِّوَارَ عَنْ خَطْوِهِ الرَّغِيدِ، وَتَلْوِي بِهِ إِلَى الْعَجَلَاتِ الْمُكَشِّرَةْ. وَكَانَتِ النَّافُورَةُ، فِعْلاً، مُوسِيقِيَّةً مُنَوَّرَةْ. تَذْكُرُنِي أَطْيَارُ أَصْبَاحِهِ وِجْهَةَ الْبَحْرِ أَحْمِلُ ظِلِّيَ أَغْتَدِي… تَذْكُرُنِي أَطْيَافُ أَمْسِيَتِهِ بِسِيرَتِي الْمُبَعْثَرَةْ… وَلَمْ يُضَعْضِعْنِيَ الْآذَانُ أَبَداً….

وَكَأَنِّيَ فِي سُبَاتٍ قَسْرِيٍّ، كُلَّمَا حَاوَلْتُ التَّيَقُّظَ رَقَّدَنِي فِي غَمْرَةِ الْفُتُورِ وَالتَّقَبُّضِ أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ، كَمَا بَيْنَ بَرَاثِنِ جُثَامٍ لَا يَنْتَهِي، أَرَانِي أَتَخَبَّطُ فِي الْوَسَاوِيسِ وَالْكَوَابِيسِ، يُصِمُّنِي الْقَلَقُ الْقَهْرِيُّ، فَلَا أَكَادُ أَشْعُرُ بِي أُنَادِي: “هَا هَا هُو… هَا هَا هُو…” ثُمَّ أَرَى الْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَتْ تَزْلِجُ أَبْوَابَهَا فِي بَاكِرِ اللَّيْلِ تَطَيُّراً مِنْ الْأَفَّاقِ النَّازِحِ السَّغْبَانِ الْحُوشِيِّ، تَهُبُّ ذَاتَ مُنْتَصَفٍ كَالِحٍ عَلَى الْغَاشِمِ الْإِرْهَابِيِّ الْحُوثِيِّ، يَقْتَحِمُ بِالتَّكْبِيرِ الْأَسِرَّةَ وَالْأَرْحَامَ بِوَطْءِ الْقَاصِرَاتِ عَلَى نَغَمِ التَّعْوِيلِ، وَيَسْتَقْطِرُ عَلَى لِسَانِ قَهْوَتِهِ بِالْأَسْنَانِ مِنْ صُدُورِ الْأُمَّهَاتِ بَعْضَ الْحَلِيبِ… وَرَأَيْتُ أَكْدَاساً مُكَدَّسَةً مِنَ النُّفُوسِ؛ عَرَفْتُهَا نُفُوساً إِذْ لَمَحْتُ ذَاتَ يَمِينٍ وَذَاتَ شِمَالٍ، الرَّقِيبَ الْعَتِيدَ. وَرَغْمَ تَخَشُّبِي مِنْ جَرَّاءِ الْجُثَامِ، وَلَا أَعْرِفُ إِنْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، تَقَدَّمْتُ إلَيْهَا فَكَانَتْ قَنَاطِيرَ مُقَنْطَرَةً مِنَ الْأَذْرُعِ وَالسِّيقَانِ وَالرُّؤُوسِ وَالْأَيَادِي وَالْأَرْجُلِ وَلَا أَبْدَانَ. فَأَخَذَتْنِي الْوَهْلَةُ وَالْقَفْقَفَةُ الشَّدِيدَةُ… وَوَسْطَ كُلِّ هَذَا التَّقْتِيلِ الْمُرْهِبِ وَالتَّمْثِيلِ بِالْأَطْرَافِ، فَاجَأَنِي الرَّقِيبُ أَوِ الْعَتِيدُ، لَا يَهُمُّ الاِسْمُ إِذْ هُمَا رَقِيبٌ وَعَتِيدٌ فِي آنٍ مَعاً، فَاجَأَنِي إِذَنْ، أَحَدُهُمَا، وَلَا أَذْكُرُ إِنْ كَانَ الَّذِي عَلَى الْمَيْمَنَةِ مِنَ النُّفُوسِ أَمِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَيْسَرَةِ، إِذْ لَهُمَا نَفْسُ السَّحْنَةِ وَالْمُحَيَّا، فَاجَأَنِي الَّذِي دَنَا مِنْ رِعْدَتِي وَرَهْبَتِي، وَزَادَنِي رَهْبَةً وَارْتِعَاداً، فَاجَأَنِي بِقَدَحٍ مِنَ النَّبِيذِ الْمُعَتَّقِ الزُّلَالِ. وَمَا إِنِ ارْتَشَفْتُ مِنْهَا حَتَّى انقَشَعَ الْجُثَامُ، فَانْعَتَقْتُ، وَدَبَّ فِي أَوْرِدَتِي الصَّحَيَانُ.

وَخِتَاماً…

تَبَيَّنْتُ طَلْعَتَكِ وَهْلَتَنَا الْأُولَى مُقْبِلَةً بِالتَّهَادِي يُرْبِكُنِي النُّزُوعُ إِلَيْكِ. وَرَاءَيْتُكِ عَقِباً تَمِيسِينَ فَزَهَقَتِ الْمِرْيَةُ وَلَاحَتِ الصِّحَّةُ. وَلَكَأَنِّي بِكِ الْمَرْأَةُ الَّتِي امْتَطَتْ شُرَئْبِيبَةَ الْعَوْدِ مِنْ أَعْمَقِ الطِّينَةِ وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى نَبْضاً لِلضِّلْعِ إِلَى أَنْ قُدِّرَ فَكَانَتْ. هِيَ الْأُولَى بِالْكَيْنِ وَالْآخِرَةُ بِالرَّكَبِ. أَحَدٌ بِالسُّخْدِ مُثَنَّى. وَإِينَاساً مُحَقَّقاً بِالتَّأْكِيدِ، نُسْغُهَا فِيكِ، يَا نُورَانُ، لَكِ مِنْ مَشِيمَتِهَا شِيمَاتٌ، حِينَ انْتَخَيْتُ أَدَمَتِكِ إِلَى لُبَابِ التَّأْمُورِ أَمْشَاجاً، أَصْدَقَتْ رُؤْيَايَ، فَلَيْسَ لِي خِدْنٌ سِوَاكِ وَلَيْسَ لَكِ إِلْفٌ سِوَايَ؛ أَطْيَارُ الْقَلْبِ تُزَقْزِقُ وَغُدْرَانُهُ تُرَقْرِقُ، كُلِّيَ رَبِيعٌ بِسَنَاكِ السَّاطِعِ دِفْءً. لَقَدْ رَحَّلْتُ كَيْنُونَتِي كَوْناً فِيكِ مَأْوَاهُ، أَنْتِ مَثْوَاهُ وَلَا رَجْعَةَ بِالرِّدَّةِ، قَطْعاً، بَلْ عَوْدٌ، بِالرَّجْعَةِ عَلَى بَدْءٍ، أَحْمَدُ. لَمْ أَقُلْ لَكِ أُحِبُّكِ، فِي الْبَدْءِ، بَلْ عَقَدْتُكِ إِلَيَّ، بِيَاءِ النِّسْبَةِ، لَيْسَ امْتِلَاكاً أَوْ عِنْدِيَّةً، بَلْ انْتِسَاباً لِأَصْلِ تِلْكِ الثَّمَرَةِ؛ السَّرِيرَةُ فِي السُّرِّ، عَلَى الْجَبِينِ وَالْكَفِّ بَيِّنَةٌ. وَبُحْتُ بِلِسَانٍ يَلْتَوِي وَلَا يَلْوِي إِلَّا عَلَى قَصْدِيَّتِهِ: أُرِيدُ أَنْ أَسْتَقِيمَ. فَبَشَرْتِ الزَّوْرَ وَبَشَّرْتِ الْكَلْكَلَ وَبَاشَرْتِ الْكُلَّ بِتَهْذِيبِ الطِّينَةِ وَتَرْغِيبِ الْقَيْنَةِ. وَأُسْرِيَ بِكِ ذَاتَ الْغَدَاةِ إِلَيَّ، وَغَزَتْنِي فَغْوَتُكِ، وَأَيْقَظَتْنِي الْغُلْمَةُ فِي مَجَرَّةِ الاِحْتِلَامِ، وَطَيْفُكِ بِمَلْمَسٍ مِنِّي مُطْمَئِنَّ الصَّهْوَةِ مُرْتَفِعَ الْقَطَاةِ، كَأَنْ، بَغْتَةً، لُحْتِ أَمَامِي مِنَ التَّهْجَاعِ وَانْعَكَسْتِ في بُؤْبُؤَيَّ عَلَى طَرَفِ الْمُضْطَجَعِ غَرِيَّةً بِكَنَفِي كَمَا عَوْذَةٌ أَوْ سِرٌّ…

إِنْ كَانَ الرَّمَادُ سَابِقٌ فَقَدْ تَتَرَاقَصُ حَوْلَهُ الْعَفَارِيتُ وَتَتَبَوَّلُ عَلَيْهِ الْمَرَدَةُ، فَتَخْمُدُ شَرَارَةُ الْعَوْدِ الْأَبَدِيِّ. وَإِنْ كَانَتِ الْعَنْقَاءُ السَّابِقَةُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَحْتَرِقَ مِنْ جَدِيدٍ. وَأَمَّا الْوَطَنُ، فَلَمْ يَبْقَ كَمَا طَوَيْتُهُ عَلَى غَرِّهِ. وَأَمَّا النَّاسُ فَقَدْ غَيَّرُوا فِيهِ وَتَغَيَّرُوا مَعَهُ. وَالْعَائِدُ مِنْ مَنْفَاهُ لَنْ يَجِدَ مَثْوَاهُ مِثْلَمَا خَلَّاهُ. وَطَنٌ مُسْتَعَارٌ سَيَكُونُ، مَنْفَى آخَرُ وَأَلَمٌ جَدِيدٌ. لَا شَكْلَ لِهُوِيَّةٍ خَضْرَمَهَا الْقَدَرُ فَأَضْحَتْ وَارِفَةً بِلَا حُدُودٍ، لَا مُنْتَمِيَةً إِلَّا لِنَفْسِهَا بِجُذْمُورِ الْأَصْلِ. الزَّمَانُ لَيْسٌ وَالْمَكَانُ أَيْسٌ؛ ثَلَاثُونَ حَوْلاً كَأَنِ الْبَارِحَةُ وَلَا شَيْءَ يَهُمُّ سِوَى الاِسْتِمْرَارِ فِي الْعَيْشِ بِدَحْرَجَةِ الرَّأْسِ كَأَنْ فِي حُدُورٍ. أَجَّلْتُ إِعَادَةَ كِتَابَةِ الْوَصِيَّةِ الَّتِي أَحْرَقْتُهَا. وَأَنَا أُمَصْمِصُ ثَمَرَ الْخَرْنُوبِ كَيْلَا أُدَخِّنَ كَثِيراً، وَأُحَاوِلُ أَنْ أُفَكِّرَ فِي شَيْءٍ مُهِمٍّ وَمُفِيدٍ كَالْحُبِّ مَثَلاً أَوْ كَالاِنْتِحَارِ سَيَّانَ، تَذَكَّرْتُ خَلَفَ الْأَحْمَرَ وَجِيرُونِيمُو وَغَزَّةَ وَالْقَلْعَةَ الَّتِي كَانَتْ تُزْلِجُ أَبْوَابَهَا فِي بَاكِرِ اللَّيْلِ. فَلَوَيْتُ لِسَانِي مِنْ جَرَّاءِ الذِّكْرَى بِحِكْمَةٍ وَبِبُطْءٍ شَدِيدٍ بَحْثاً عَنْ مَوْجَةِ الشَّكِّ، لَوَيْتُهُ لَيًّا، وَلَوَيْتُهُ، مِثْلَمَا كَانَ يَفْعَلُ أَبِي بِزِرِّ الرَّادْيُو بَحْثاً عَنْ صَوْتِ الْعَرَبِ. أَوْهَنْتُ وَكَانَ الْقَمَرُ فِي كَبِدِ الدَّيْجُورِ قَدِ اكْتَمَلَ فَدَاهَمَنِي الاِسْتِذْآبُ وَعَوَيْتُ مُشْرَئِبًّا إِلَى صَفْحَتِهِ: يَا الزَّائِفُ يَا الْأَفَّاكُ، النُّورُ مِنَ الشَّمْسِ يَا وَجْهَ الظَّلَامِ. وَلَكِنَّ زَوْجَةَ جَارِي الْعَبُوسِ لَاحَتْ مِنَ الشُّرْفَةِ ثُمَّ لَوَّحَتْ فَطَارَ لِسَانِي. وَفَجْأَةً، أَفَقْتُ بِالْغَارِ دُونَ صَاحِبٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَأَمَّا الْحَمَامَةُ فَخَيْلَانُ قَلْبِي، وَأَمَّا الْعَنْكَبُوتُ فَلَا أَذْكُرُ لَهُ نَسِيجاً.

وَالْآنَ…

أَنْهَيْتُ الْمُعَلَّقَةَ، وَقَدَّمْتُهَا قُرْبَاناً لِأَلْسِنَةِ أَجِيجِ الضِّرَامِ ذَاتَ انْخِسَافٍ غَلَبْتُ فِيهِ النَّوْمَ وَلَمْ يَقْهَرْنِي النُّعَاسُ؛ ثَلَاثُ أَقْمَارٍ بِشُمُوسِهَا الْأَرْبَعِ وَأَنَا أَدُورُ حَوْلَ نَفْسِي بِسُرْعَةٍ مُفْرِطَةٍ كَدَوَّامَةٍ مِنَ الْقَلَقِ الْمُذَابِ فِي بِرْكَةٍ مِنَ الضَّجَرِ. وَبَعْدَ أَيَّامٍ، فَاجَأَتْنِي أَرْمِدَةِ فُرْنِ الْبَاحَةِ وَأَنَا أُنَظِّفُهُ بِوَرَقَةٍ سَلِمَ بَعْضُهَا مِنَ الْمَحْرَقَةِ الشِّعْرِيَّةِ ذَاتَ الاِنْهِيَّارِ. بَحْلَقْتُ فِيهَا مَلِيًّا، ثُمَّ مَدَدْتُ إِلَيْهَا قُفَّازاً بْلَاسْتِيكِيًّا مُتَرَدِّداً مُرْتَعِداً، وَأَخَذْتُهَا بِالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ، وَأَبْعَدْتُهَا عَنْ عَيْنَيَّ مِنْ جَرَّاءِ قُصُوِّ الْبَصَرِ، وَأَخَذْتُ أَتَهَجَّى:

“أَ كَهْلٌ، نَصَفِي؟ وَنَيَّفْتُ هَا قَدْ هَلَّا تَرَيْنَ عَلَى نِصْفِ قَرْنٍ بِبِضْعِ الْعِجَافِ أَخْذِي كَرَدِّي رُشْدِي مَرَدِّي مَتَى جَدَّ جِدِّي وَكُلِّي عَطَاءْ / وَهَا حَطَّ شَيْبِي أَغَرَّ غَرِيباً بَيْنَ رَمَادِي وَأَرْيَاشِ حُلْمِي أَذْكَرْتُ شَقِيقِي قُرْبَانَ بَدْءٍ سُدًى نَبَّهْتُ أَخِي أَنِزُّ مِنِّي يَبْتَزُّ حَتَّى الدِّمَاءْ / أَرْآنِي الْحَيْضُ أَيْنَ أَنْصَبُّ أَنَا تُرَابٌ أَصْلاً وَفَصْلاً أَخْطُو سَلَاماً أَلَمِي السَّمَاءْ / لَا حَدَّ لِجَحْدِي مَا الْأَوْبَةُ لَحْدِي بَلْ بَدْئِيَ دَوْماً أَبَداً بَقَاءْ / أَسَفِي عَلَيْكُمْ لَغْوُكُمْ غَشَّى وَالزَّيْفُ تَفَشَّى فَوَدَاعاً وَدَاعاً تَعِبْتُ وَرُوحِي مِنْ عُقْمِ مَدَاكُمْ وَكُلِّ الرِّيَاءْ / كَلَّا وَلَا وَقَطْعاً بَتَاتاً تَبًّا وَسُحْقاً لَمَّا وَلَنْ بِأَيٍّ يُفِيدُ كَبْشُ الْفِدَاءْ؟ / هَرِمْتُ وَلَكِنَّ قَلْبِي نَقِيًّا فَتىً مَا يَزَالُ يَنْبُضُ عِشْقاً يُلَبِّي النِّدَاءْ / وَحِينَ أَحِنُّ يَصُدُّ التَّخَلُّفُ تَوْقِي إِلَيْكُمْ تَرَكْتُ عُقُولاً تُنِيرُ الْأَمَانِي وَهَا إِذْ أَعُودُ أَلْقَى الْغَبَاءْ / وَأَنْتِ أَتَيْتِ شَهَدْتِ رَأَيْتِ قُدَّامِي وَخَلْفِي وَبَيْنَ يَدَيَّ وَخَبَايَا السَّرِيرَةِ كُلِّي عَرَاءْ / تَشُبُّ الْقَوَافِي تَهِيجُ الْبُحُورُ تَطِيبُ الْقَصَائِدُ بِالزَّغَارِيدِ أَنْوِي النِّسَاءْ / نَيَّفْتُ قُلْتُ عَلَى نِصْفِ قَرْنٍ بِبِضْعِ الْعِجَافِ أَصَبْتُ نَصِيبِي وَنِلْتُ حَظِّي كَمَا الْعَيْشُ شَاءْ”

وَبَعْدَ تَأَمُّلٍ طَوِيلٍ، انْتَابَتْنِي قَهْقَهَةٌ مُرِيبَةٌ لَمْ أَسْتَطِعْ إِجْهَاضَهَا، إِلَى أَنْ لَمَحْتُ، دُونَ قَصْدٍ، زَوْجَةَ جَارِي عَلَى شُرْفَتِهَا تُومِئُ بِأَذْيَالِهَا، فَتَوَقَّفْتُ، وَشَحَطْتُ فِيهَا مِنْ ثِقَابِ الْفُرْنِ الثَّخِينِ.

إِنْ هُمْ سِتَّةٌ فِي قَيْدِ هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَأَنَا رَابِعُهُمْ، وَإِنْ إِحْدَى عَشَرَةَ بِالْأَمْوَاتِ فَسَادِسُهُمْ، بِالْعَدِّ وَنَظِيرِهِ الْمَعْكُوسِ. وَمَا بِالْخَطْوِ عُجْوَةٌ وَمَا بِالطَّرِيقِ لَقْوَةٌ؛ أَعُدُّ كَيْ أَتَأَكَّدَ، فَقَطْ، إِذْ لَا يَهُمُّ الْعَدَدُ بَلِ الْمَوْقِعُ الْوُسْطَى بَيْنَ الْمِطْرَقَةِ والسِّنْدَانِ وَلَا رِكَابَ إِلَّا الطُّفُورَ. أَكْتُبُ بِإِحْسَاسٍ غَامِضٍ وَثِيقٍ قَاطِعٍ أَنَّنِي كَتَبْتُ هَذِهِ الرِّسَالَةَ مُنْذُ بُرْهَةٍ. وَلَكِنْ أَيْنَ وَمَتَى؟ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَذْكُرَ، كَمَا حِينَ كَلِمَةٌ تَكُونُ عَلَى حَرْفِ اللِّسَانِ. بَحَثُّ فِي كُلِّ الْمُسَوَّدَاتِ الَّتِي لَمْ يُفْرِجْ عَنْهَا النَّشْرُ أَوِ الشُّوَاظُ، وَلَمْ أُلْفِهَا؛ قَدْ أَكُونُ كَتَبْتُهَا ذَاتَ ثَخَنٍ أَوْ فِي غَيَاهِبِ بَنْجِ الْمُسْتَشْفَى حَيْثُ عَادَتْنِي الْكُتُبُ عَلَى عَرَبَةٍ. وَقَدْ أَكُونُ رَأَيْتُهَا ذَاتَ حُلْمِ يَقَظَةٍ أَوْ مَنَامٍ. رُبَّمَا أَكُونُ قَدْ كَتَبْتُهَا فِي حَيَاةٍ مُوَازِيَّةٍ، أَوْ سَابِقَةٍ أُخْرَى. أَوْ رُبَّمَا تَكُونُ مَا وَدِدْتُ كِتَابَتَهُ بَيْنَ حُقْنَتَيْنِ. أوْ رُبَّمَا، وَبِكُلِّ بَسَاطَةٍ، أَكُونُ قَدْ كَتَبْتُهَا مُنْذُ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَظَلَّتْ مَحْبُوسَةً فِي قَرَارَةِ غَيْبِي، أَمْسَكْتُهَا كَمَا شَهْوَةٌ أَوْ نَزْوَةٌ وَلَمْ أُبْدِهَا حَتَّى لِنَفْسِي. وَكَأَنَّنِي وَسَطَ مِرْآةٍ مُقَعَّرَةٍ ذَاتِ دَرَكٍ سَحِيقٍ، أَرَانِيَ أَرْنُو إِلَيَّ فِي كُلِّ حَدَبٍ وَصَوْبٍ: هُنَاكَ قَلَبْتْنِي الْقَابِلَةُ فَلُقِّبْتُ، هُنَاكَ رَضِيعاً شَرَقْتُ بِالثَّدْيِ غَيْلاً وَفُطِمْتُ، هُنَاكَ صَغِيراً كُنْتُ أَتَخَفَّى وَأَقْتَرِفُ الْعُزْلَةَ، هُنَاكَ كَانَ الْحُبُّ الْأَوَّلُ وَالْقُبَلُ الْأُولَى – وَقَدْ تَكُونُ سَبَاتَةُ مِنَ السِّبْتِ وَهْوَ الْجِلْدُ الْمَدْبُوغُ الَّذِي لاَ شَعَرَ أَوْ وَبَرَ عَلَيْهِ، تُحْذَى مِنْهُ النِّعَالُ. وَانْسَبَتَ الْجِلْدُ بِالدِّبَاغِ، لَانَ – هُنَاكَ جَرَيْتُ وَلَعِبْتُ، تَعَثَّرْتُ وَوَقَفْتُ، ضَحِكْتُ وَبَكِيتُ… وَهُنَاكَ، هُنَاكَ، هُنَاكَ الْمَنْفَى وَهَا هُنَا، هَرَّبْتُ ذَاكِرَةَ انْهِيَارِي، دَرَّبْتُ قَلْبِي السُّلْوَانَ وَالاِحْتِجَابَ، طَرَبٌ وَوَصَبٌ يَتَنَاجَزَانِ فِي حَنَايَا الصَّدْرِ وَكُلِّي وَجْدٌ وَهُجُودٌ، أَيْنَ الْآنَ، أَنَا وَأَنْتِ هُنَاكَ، وَمَا لِهُنَا مَعْنَى؟ وَكَأَنْ لَمْ يَبْقَ لِرُوحِي وُجُودٌ لَقَدْ أَلَمَّتْ عَوْدَتِي بَطُلَ الزَّبَدُ وَانْقَشَعَ السَّرَابُ. أَقُولُ أَعُودُ. أُعِيدُ أَعُودُ. قَرَّرْتُ الْعَوْدَ، كَتَبْتُ الَّذِي كُنْتُ مُنْذُ الْبَدْأَةِ قَدْ كَبَتُّهُ؛ كَتَبْتُهُ عَلَيَّ. أَنَا الَّذِي أَعْشَقُ الطَّيْرَ الَّذِي لَا يَعُودُ، هَا سَأَعُودُ. لَا بُدَّ مِنْ عَوْدِي، وَمَا لِيَ غُنْيَانٌ عَلَيْهِ…

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.