الرئيسية | فكر ونقد | في الحاجة إلى الكواكبي | علي أوعبيشة

في الحاجة إلى الكواكبي | علي أوعبيشة

علي أوعبيشة

” يودّ المستبد أن تكون رعيته كالغنم برا وطاعة وكالكلاب تذللا وتملقا”

عبد الرحمان الكواكبي “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”

         لا يتماشى الاستبداد مع العلم، لأن همه الأساس، أن يُشيع التخلّف والجهل والغباوة، فالمستبدّ على الدوام لا يخاف إلا من العلم إذا انتشر في صفوف (المواطنين)، وليس من الجريمة أو الغوغاء… ذلك، لأن الغوغائية أو الإجرام أو ما شابه ذلك، مجرّد مظاهر لفوضى عمياء لها مدة صلاحية محدودة ونظرة قصيرة جدا إن لم نقل إنها منعدمة، قد يرعاها الاستبداد ويوفر لها شروط الانوجاد، حتى يظل في عيون الأفراد رمزا للآمن والآمان.

       لهذا، يعمل الاستبداد، كنظام متواري، على أن يجعل من الجهل ثقافةً للجماعة ومن التخلّف جزءً لا يتجزأ من هويتها الوطنية الراسخة ، لينشئ ما أمكن أجيالا من الضباع والخرفان الأليفة، فالمستبد مهما كان غبيا، لا يخفى عليه، أن الاستعباد والتعسّف لا يكونان إلاّ إذا كانت الجماعة المحكومة  “حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء“(الكواكبي:65)، لذاك، فإن الاستبداد كإستراتيجية لتطويع الأفراد، يشتغل على صناعة مجتمع جاهل خنوع بمثل مقاييس تربية الدواجن، (مُنجمع) من العوامّ يشكلون هم أنفهسم ” قوة المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول“(الكواكبي:67)، يستدرجهم بالخوف وشتى أنواع الحيل القبلية والأوهام الدينية، حتى يتمكّن من ولائهم البدائي له، إلى درجة استعدادهم للموت في سبيله، هكذا، يصبح كل فرد جزءً من اللعبة، وتستحيل الجماعة بما تحمله من مفارقات وتناقضات متواطئة معه ( مع الاستبداد)، من ثمّة، يفقد الأفراد، فردانيتهم وأصالتهم الذاتية، ليتحوّلوا (تحولا مسخا)، إلى أرقام ماسخة مشوّهة، أو إلى كراكيز تسيّر بجدلية المثير والاستجابة على شاكلة كلب بافلوف، فيرتقي المستبدّ في سلم مخيالهم اللاشعوري من مجرّد سياسي، أو ممارس للسلطة و(ممتلك لها)، إلى مصدر للحق واليقين، يتوجّب إتباعه من دون نقاش أو ريبة أو تردّد، هكذا “يأسرهم، فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم، فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض، فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم، يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثِّل، يعتبرونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت، فيطيعونه حذر التوبيخ“(الكواكبي،ص:67).

   إن مشروع الاستبداد لا يكتمل إلاّ بتربية الأفراد، على أن يكونوا جماعات (جماعات تستوطن أفرادا عوض أن يكونوا أفرادا ينتمون إلى جماعات)، إذ يعوّدهم على أن يكونوا عواما، أن يغوصوا ما أمكن في خصوصيات بعضهم البعض، حتى تنمحي أية إمكانية لقيام ذوات فردية أصيلة، يحرّضهم على ألاّ يتركوا سرا إلاّ وجعلوه معرفة مشاعة، أو فكرة إلاّ وأضحت منتوجا استهلاكيا (لليومي)، يشجّعهم على أن يكونوا “هم”، ومن ثمّة لا أحد، إذا استلهمنا عبارة مارتن هيدجر، يريد منهم أن يحوّروا وظيفة التواصل من تقريب وجهات النظر وتشييد جسر البينية بين الذوات المستقلّة، إلى آلية لنسخ وطباعة الأشباه واغتيال التفرّد والتميّز، هكذا تتحوّل الجماعة إلى غوغاء تكبّل الأفراد بسلاسل الوعي المشترك، وتجعلهم ينتحرون بمشانق جماعية.

    لا يقتصر، الاستبداد، على صناعة الجهل وإنتاج (الجماعة)، بل يعمل، على إيهامهم (أي الأفراد) بأن الجهل أنوار، وأن الضلال هي عينها المعرفة الحقّة وأن (الجماعة) بطقوسها وإشكالاتها هي الفردوس الموعود وقمة السعادة، لذاك، يعمل المستبدّ ما أمكن على توفير كل الشروط الضرورية التي من شأنها أن تسمح للكهف -(المقصود هنا استعارة الكهف لأفلاطون)- بأن يكون في نظر الأفراد/الجماعات خير “وطن”.

 لأجل هذا، يركّز الاستبداد، على هدم كل الجسور التي يمكنها أن توقظ الناس من غبائهم وجهلهم وغوغائيتهم وسباتهم الكهفي، فيضرب بقوة كل المؤسسات والفضاءات والميكنيزمات التي تمتلك القدرة على التنوير، وفي مقدمتها للتعليم، فيعمل على تحويله إلى كيان يضاعف الظلام عوض مواجهته، أو مصنع لإنتاج العمال والتقنيين، دون أدنى معرفة نظرية أو وعي، لذلك، يركّز على استبعاد المعارف والمناهج التي تربّي الوعي التاريخي والنقدي، والفكر العلمي الحرّ، والقدرة على فهم الأمور وتحليلها ومقاربتها مقاربة مقارنة، ليكتفي، بالمعارف التقنية والإيمانية، مشجعا إياها، ومسوّقا لها كحل للأزمات الاجتماعية ولفتور سوق الشغل…

 بهذا المعنى نفهم إقرار الكواكبي بكون “المستبد لا يخاف من العلوم الدينية المتعلّقة بالمعاد المختصّة ما بين الإنسان وربّه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنّما يتلهّى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علما غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبدّ منهم كما يؤمن السكران إذا خمر“(الكواكبي،:66)، بمعنى أن، العلوم الدينية التي تعلّم الناس، أمور العبادة وشعائر الإيمان، فتنهاهم عن أمور وتأمرهم بأمور، تشرح نصوصا وتجتهد في مسائل لم يرد فيها نص أو دليل، لا تكاد تتجاوز، مسألة الميعاد، أو بعبارة أوضح الخلاص الأخروي، لهذا، فهي، متعلّقة بما بين الإنسان والإله، وليس فيما بين الإنسان والإنسان. ومنه فإنها عاجزة عن الخوض بشكل جذري في مسائل السياسة التي تستجد على الدوام وتتدفّق باستمرار، أو فضح الاستبداد والكشف عن ألاعيبه ومحاكمته.

    بل إن الأدهى  من ذلك، إن أغلب المشتغلين في هذا المجال، يتحوّلون من دعاة لطاعة الرّب، إلى دعاة لطاعة السلطان والخضوع  لقدر الاستبداد، إذ كلّما “نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوامّ لا يعدم المستبدّ وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم، ويسدّ أفواههم بلقيمات من من فتات مائدة الاستبداد”(الكواكبي،ص:66).

بالمثل، فإن المستبدّ لا يخشى شيئا من أصحاب المعارف التقنية، لأنهم يتعلّمون كيف يشغّلون الآلات دون أن يتعلموا كيف يفكرون أو يحللون أو ينتقدون، لأنهم مؤهلين ليكنوا مجرّد تقنيين، مساعدين للآلات، أو آلات مرافقة، يتقنون ضبط الصمولات والضغط على الأزرار، والقيام بمهام محددة في الزمان والمكان، فيتعوّدون على التكرار  والعمل المتسلسل، لتألف ذاكراتهم العادات التقنية وتعتاد أدمغتهم على حل المسائل الآلية، وعليه، تتعطّل شيئا فشيئا ملكات تفكيرهم. لهاته الأسباب يصف الكواكبي أصحاب العلوم الصناعية (أي التقنية) بأنهم “مسالمين، صغار النفوس، صغار الهمم، يشتريهم المستبدّ بقليل من المال والإعزاز“(الكواكبي،ص:66).

  هكذا يتبيّن لنا، أن هذا التركيز الكبير اليوم على التعليم التقني والتكوين المهني،  ليس بريئا، بل مقصودا ومخطط له، وهنا يلتقي الاستبداد المحلي بالاستبداد العالمي المتمثّل في المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية الأكثر نفوذا، فالتقنية، بوصفها معارف أداتية، لا تضيف للعقل إلاّ القدرة على الأداء، تجعل منه مجرّد عامل تقني/عبد عوض أن يكون ملكة حرّة للتفكير والنقد والتحليل…

    وفي المقابل، “ترتعد فرائص المستبدّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدنية والتاريخ المفصّل والخطابة الأدبية ونحو ذلك من العلوم التي تكبّر النفوس وتوسّع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، زكيف الطلب، وكيف النوال، وكيف الحفظ، وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة والكتابة”(الكواكبي،:66)

       هذا لأن، هذه المعارف والمناهج، ليست مجرّد تقنيات للعمل والأداء، إن مهمتها تتجاوز ذلك، لتصير منبرا للتنوير ومنارة للوعي، تعمل أساسا على بناء شخصية الفرد، بكل ما تحمل الفردانية الحقة من حمولة فكرية وفلسفية، فتساعده على إدراك أبعاد وجوده والتمكّن من استيعاب مقومات زمانه، وكذا الوعي بمرجعيات الخطابات والأسس المضمرة لكل أشكال السياسات بمعناها العام ( سواء كانت سياسات اجتماعية أو اقتصادية أو قانونية أو أخلاقية…).

نحن في الحاجة إلى الكواكبي لنتيقّن من أمور قد نقول إنها بديهية:

  • الاستبداد لا يربي الأفراد على أن يكونوا أفرادا إلا في أنانيتهم في التسلق والتملق…ما عدا ذلك يربيهم على أن يكونوا جماعات تتنفس بقلب اصطناعي واحد.

  • العلمانية إجراء حضاري وليس فقط سياسي نحتاج إليه حتى يكفّ الإنسان عن استغلال أخيه الإنسان باسم السماء، لأنه الدين إذا لم يكن إنسانيا-ثوريا(وهذا أمر نادر) يتحوّل إلى خادم مطيع للاستبداد.

  • البلاد التي لا تولي أهمية للعلم، العلم النظري أقصد لا التقنيات، فاعلم أن ثمة إرادة سياسية لتسييد الاستبداد إلى الأبد.

  • التعليم التقني ليس حلا شاملا، وإن كان يحلّ مشاكل سوق الشغل فإنه من الضروري ألاّ يقتصر على تمرين المتعلمين على التقنيات، بل من الواجب التربوي تطعيم هذه الوحدات التقنية الجافة بوحدات منهجية وابستمولوجية، تضع معارفهم التقنية في سياق تاريخ الأفكار المنتجة لها، حتى لا يتحوّل التعليم التقني إلى وكر لتفريخ الجهل والعبيد الجدد، بل والإرهاب أيضا، فأغلب الذوات المنتحرة في العالم الآن، ذوات تقنية.

يتبع…

هوامش:

عبد الرحمان الكواكبي، طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، دار الشرق، بدون تاريخ.

3 تعليقات

  1. مزيدا من العطاء أيها الفيلسوف، مزيدا من الـتالق

  2. لمياء العتيبي

    مقال أكثر من رائع، الناس أيضا جزء اللعبة يعشقون معاشرة الجلاد لهم.

  3. صحيح عزيزي علي إن الاستبداد لا يخاف من الجهل وإلا لما سيَّدَه، بل خوفه يكون من التنوير هذا الذي يكون نتاجا للعقل العلمي البرهاني. دمت متنورا صديقي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.