الرئيسية | فكر ونقد | شعرية الموت في مجموعة “الشركة المغربية لنقل الأموات” للقاص أنيس الرافعي

شعرية الموت في مجموعة “الشركة المغربية لنقل الأموات” للقاص أنيس الرافعي

د. عبد الخالق عمراوي:

 

توطئة:

قليلة هي الأعمال الإبداعية التي تواجه الموت بشراسة وعنف لفظيين، ساعية إلى تحريره من سطوة الرعب الرهيب الذي يجثم على كاهل الذوات، وهي تقف عاجزة حائرة أمامه، نستحضر في هذا السياق مرثية مالك بن الريب الرائعة وهو يرثي نفسه في أول تحول تدريجي لمعادلة الرثاء ، يتخذ مالك بن الريب من نفسه عنوانا للرثاء وأمامه تنسلخ سنون البطولة والفروسية ونقع غبار المعارك، كان غرض الرثاء ملهم الشعراء في استدرار دموع الفقد  للأحبة، ولقد أبدعوا وأجادوا في التعبير عن لواعج الحزن، ونيران الفقد، وقد خلّف ديوان الشعر العربي شواهد لا يبلى ذكرها مع الزمن، وتبقى الشاعرة الخنساء أيقونة فن الرثاء، حتى لتكاد تُختزل المرأة أيما اختزال في البكاء ، وينضاف إلى ذلك رائعتي المتنبي في رثاء أم وأخت سيف الدولة، وعلى ذكر أبي الطيب المتنبي ، فهو يشبه الموت باللص الغادر اللامرئي ، المتسلل خفية لإزهاق الأرواح، في صمت يقول:

وما الموت إلا سارق دق شخصه

                                  يصول بلا كف ويسعى بلا رجل[i]

وتتوالى إبداعات الشعراء أمام سديم الموت وعبثيته اللامتناهية، ولعل جدارية” محمود درويش” لتنتصب عملا إبداعيا راقيا وساميا يجسد انتصار الكتابة على الموت في صور بديعة ورائعة، وفي تحد صارخ لجبروت الموت ورهبته، يقول محمود درويش مخاطبا الموت:

   كن كالحب عاصفةً على شجر، ولا

  تجلس على العتبات كالشحاذ أو جابي

الضرائب. لا تكن شرطي سيرٍ في

الشوارع. كن قويا، ناصع الفولاذ، واخلع عنك أقنعة

الثعالب.”[ii]

 وضمن هذه التجارب وأشباهها يكتب القاص أنيس الرافعي مجموعته القصصية” الشركة المغربية لنقل الأموات” في سياق مغاير زمنيا وإبداعيا، يحضر الموت بمعوله ليحفر أخاديد المجموعة، مهيمنا على كل أدوات الحكي التي يجعلها مأمورة بإمرته، تابعة لإيقاعاته، هاجسة بذبذباته، فكلما تقلصت مساحة الأمل اتسعت دائرة الألم وغطت ما تبقى من أديم التفاؤل.

إن كتابة القاص أنيس الرافعي لا تكتب الموت باعتباره نهاية حتمية، أو “انفصال الروح عن الجسد”[iii]ولا تسعى في مقام آخر إلى تخطيبه فضائيا والقبض عليه زمنيا لتسريده حدثيا؛إنها أعمق من ذلك فهي كتابة تأملية ميتافيزيقية، تفكر في الموت كسؤال أنطولوجي وفلسفي شغل جزءا كبيرا من تفكير المبدعين والفلاسفة ، في بحثهم المستمر والمتواصل عن الخيط الناظم، والحلقة المفقودة في العلاقة الفاصلة بين لحظتين زمنيتين أو محطتين مفصليتين تسمان صيروروة الكائن البشري؛  لحظة التوهج والانطفاء، الحركة والجمود، وهناك من اعتبر الموت انطلاقة جديدة نحو حياة ثانية، ونقصد بذلك الفكر الصوفي، بل يمكن القول إن تفكيرهم نابع من تصورهم للموت، وموقفهم من الحياة، يقول الحلاج:

        اقتلوني يا تقاتي

         إن في موتي حياتي

         وفي حياتي مماتي.

إن الموت بمعناه الرمزي يتجاوز الصور النمطية  لتيبس الخلايا، وتوقف القلب عن النبض، أو الموت المفاجئ ،إنه موت الأحاسيس والقيم،  موت الشعور الإنساني بالآخر، ” إنها صورة جديدة بدأت تتكون عن الموت: إنه الموت القذر، الموت الذي يخفى ، وهو يخفى لأنه قذر ووسخ”[iv]موت الذوات روحيا من زمان. وفي هذا السياق تشتغل الكتابة القصصية لأنيس الرافعي، وهي تسخر من الموت ليس باعتباره قدرا محتوما يلاحق الإنسان، ولكن بتحوله  إلى تجارة تدِّرُ أرباحا خيالية ، وتفتح لها أسواقا وشركات ،تتنافس على تقديم أجود الخدمات للميّت .ومن هنا جاء عنوان المجموعة حابلا بالمفارقات العجيبة والغريبة، مثيرا الدهشة والصدمة للمتلقي.

تقدم المجموعة مشاهد ولوحات هاجسها الأساس ترويض الموت وإخراجه من سطوة الرعب الرهيب إلى دائرة التتفيه، وتسير المجوعة على خطين متوازيين من التمرئي السردي؛إيقاع الجذبة الذي يستحضر طقوس كناوة بتفاصيلها الدقيقة ،انطلاقا من لحظة البدء وصولا إلى لحظة التغييب الجسدي أو الشلل الحركي التي يمتطي فيها الجسد صهوة اللاوعي، وهنا يتقاطع طقس كناوة بتجلياته وميكانيزمات اشتغاله بالموت الذي تبتغيه المجموعة وهو موت يتجاوز سكون الجسد إلى موت القيم والمشاعر الإنسانية النبيلة.

إن الموت كما تصوره المجموعة آلة رهيبة كاسحة تحول كل شيء إلى” مقبرة شاسعة”ص28، فالذوات فاقدة لإحساسها ووعيها بقيمة الحياة، شخصيات جوفاء الداخل ميتة وتعي موتها، لكنها عاجزة عن مجابهة مصيرها ،ولا تملك سوى قدرة المخاتلة وتمطيط الزمن، يقول السيد س في قصة”ثلاثة أحجار صغيرة في قاع النهر” اكتشفت منذ زمن طويل أنني ميت ومنذ ذلك الحين لم أفعل شيئا آخر سوى محاولة مداراة الموت بأقصى ما أملك من مخاتلة” ص39.

 

1 -جمالية التصوير:

تحتل اللغة مكانة أثيرة ومتميزة في مجموعة أنيس الرافعي، لذلك لا يفتأ في تقليب أسرارها، ونحت جمالياتها، وخلق انزياحات تركيبية ودلالية فيها ، وشحنها بطاقات ايحائية ذات تكثيف بلاغي، يولد من رحم الكلمة مفارقات غريبة، وفي تبئيره لصورة”الوطواط صاحب الحذاء الأحمر” نجده يوخز عدسة قلمه ضاغطا على الزناد لرصد التفاصيل الصغيرة والتافهة التي تصنع الفارق في الوصف والتصوير، ينطلق الوصف من الملابس للتوقف عند الحذاء الذي ” اعترته حمرة سافلة”ص13، تصبح الحمرة محفزا على السرد والملاحقة الحدثية، يقول السارد” ولعل تلك الحمرة المفارقة من كانت حافزي كي أغدق نحوه دونما توقف ومن مختلف الزوايا وابلا من النقرات قبل أن يتنصل من عمق المجال ويذوب بخفة لا تنسجم مع عاهته عبر شدق بوابة المغادرة”،  ص13.

 تبرز قدرة التصوير في  نحث اسم خاص بالشخصية، جاعلا منها نسقا سيميائيا حافلا بالإيحاءات والرموز، فاختيار اسم الوطواط فيه إثارة الغرابة والعجب اللتين تدفعان لبلورة أفكار ونسج خيالات حوله، وتبدأ هذه الايحاءات بإخراج الشخصية من طابعها الإنسي، وإلباسها لباسا حيوانيا، لكن عدسة السارد تحنط كل جوارح الشخصية ، غير عابئة بطولها أو قصرها، بنحافتها أو بدانتها تستحث الخطى، وتسابق الزمن من أجل الظفر بصورة الحذاء ، الذي يصنع الحدث، ويميز الشخصية،إننا نعتبر الحذاء مدخلا مناسبا لقراءة شخصية الوطواط وفهم أسرارها الدفينة، إنه ليس حذاء عاديا، وإلا لما احتل هذا الحيز من الوصف . ومن جملة الخصائص التي تسم الحذاء وتجعله بؤرة سردية ،اكتسابه لونا أحمر، وطبيعي أن اللون الأحمر ليس أصلا في الحذاء، لكنه نتيجة عوامل طبيعية اعترته  ،وساهمت في تغيير معالمه، لكن الصفة التي أضفاها القاص على الحمرة، هي من أعطت التصوير بعده الجمالي، وأكسبت الوصف ثراء باذخا في التشكيل اللغوي، فالسفالة هي الوضاعة والخسة ،وهي صفة  تمت استعارتها من الإنسان  للحذاء ،لإضفاء صورة شعرية جميلة عليه، إن الحذاء قوة فاعلة في  بناء القصة ، وفي تنامي الحدث السردي وتطوره،  وفي تقريب صورة الشخصية من المتلقي. إنه معْبر في تحديد الانتماء الطبقي.

ونخلص في القول إن الموت المحدق بشخصية الوطواط موت انطلق أساسا من حذائه، ليسري كالسم في باقي أعضاء الجسد. وفي قصة” زير الجثت”،نصطدم بخيبة الانتظار، حيث يواجهنا العنوان بشراسته وعنفوانه، نجده صادما ومدهشا في الآن ذاته؛ صادما لأنه يزيحنا عن وهاد الانزلاق في ينابيع اللذة والاستمتاع بعوالم المرأة إلى التعلق والموت عشقا في الجثت، غير أن الزير هنا هو الكاتب الذي يتقن لذة القتل والتنكيل بجثت شخصياته، وكتم أنفاسها، هو الكاتب  الحاذق الذي يغير أدوات كتابته في كل تجربة جديدة حتى لا يلقى حتف شخصياته، لهذا فجرائم الموت في المجموعة تنزاح عن صورها النمطية لتمتد إلى الإبداع باعتباره معاناة ومكابدة ورديفا للقتل في التعبير الدارج أي شدة إتقان الشيء،والإبداع في قصة ” زير الجثت” ينبع من قدرة ملفتة في التصوير والتخييل والمغايرة، وفي الخروج عن النمط السائد الذي يؤدي إلى إفلاس المبدع حين يصيبه فقر الإبداع، من هنا جاءت القصة لتقابل بين الكاتب المحترف والقاتل المحترف الذي لا يترك آثار جريمته على ضحيته، علما أن فعل القتل مجسد على أرض الواقع يدفعنا للبحث عن الكيفية والطريقة والأداة التي تمت بها جريمة القتل/الكتابة، يقول السارد” لأن القاتل المحترف هو الأسلوب. وفي هذا الأسلوب بالتحديد، تكمن فلسفته في التنفيذ والآثار الدالة على جريمته المنقضية، أو ربما القادمة” ص60

2-الشخصيات:

تقدم المجموعة شخصيات منهوكة، مصمتة الداخل، كتل لحمية جامدة الحركة والروح كما هو الشأن في قصة” مونتاج خشن”، يقول السارد” تبين لي بأنني لا أحيا سوى بمعدل يوم واحد كل أسبوع”ص46، أو حين اكتشف السيد(س) في قصة” ثلاثة أحجار صغيرة في قاع النهر” اكتشفت منذ زمن طويل أنني ميت” ص39.

وتخلق المجموعة شخصيات فصامية كما هو حال قصة” الشركة المغربية لنقل الأموات”، يقول السارد” لكن، لا يجوز أن أكون ميتا وأنا أتنفس وأعي جيدا ما يدور حولي”ص21

ونجد سارد قصة” يوم زائد بين الاثنين والثلاثاء” لا يختلف كثيرا عن باقي شخصيات المجموعة المسربلة بغلائل الموت الرمزي، يقول” تجولت بقدمي رجل ميت في شوارع فارغة وافتراضية لمدينة منسوخة بحذافيرها” ص35. وفي مقابل الموت الذي يخيم على شخصيات المجموعة، ويخنق أنفاسها، نجدها كذلك شخصيات عاجزة ويائسة، ولا تستطيع الإفلات من جحيم الواقع الذي يطاردها، وبإلقاء نظرة خاطفة عن بعض حركاتها ورغباتها نجدها مكبلة بقيود لا تترك لها حرية الفكاك والخلاص، يقول السارد في قصة” الشركة المغربية لنقل الأموات”” بيد أنني كنت عاجزا كياطر سفينة غارقة” ص20، ويقول سارد قصة” اليوم الأول بعد الموت”” أسقط في يدي، فتقهقرت إلى شقتي ضائعا مثل عقرب وحيد في ساعة” ص29،ولا نجد سارد قصة” يوم زائد بين الاثنين والثلاثاء يخرج عن سابقيه، يقول” ولما جربت أن أعود بها القهقرى علني.. وجدتني كمن يضرب وحيدا أعزل في صحراء عاتية” ص34، ونختم بسارد قصة” ثلاثة أحجار صغيرة في قاع النهر”، يقول” وفي داخل مقهى شعبي صغير أجلس وحيدا ومبتورا عن كل ما يحيط بي كصوت المغني في شريط عتيق” ص38.

تقدم المجموعة القصصية إذن شخصيات  أو أبطال إشكاليين بتعبير جورج لوكاتش، تجابه واقعا أكبر منها، ولا تملك إزاءه إلا إظهار العجز والفشل، فكل محاولاتها تصطدم بحاجز وبقوى معاكسة تمنعها من تحقيق رغباتها، فيكون نصيبها التقهقر والتراجع خلفا، أو التقوقع والتحصن بدائرة الصمت والتمسك بالعزلة القاتلة، ومن جماليات التصوير الذي أضفاه القاص على شخصياته، شحنها بتشابيه مغرقة في السلبية، تشابيه تغرف من مناهل اليأس والإحباط، ولا تبشر بأي بصيص أمل، يساعدها على الخروج من شرنقة الضعف ، أو ينتشلها من وهاد الغرق، فهي مطوقة ومحاصرة كما يحاصر” السوار المعصم”، وهي عاجزة عن إنقاذ نفسها من الغرق في جحيم الحياة” كياطر سفينة غارقة”، وهي عزلاء تعانق وحدتها” كصوت المغني في شريط عتيق”، وهي ضائعة في سديم مظلم كما يضيع” عقرب وحيد في ساعة”.

  1. الكتابة أفقا للتجريب:

الكتابة القصصية عند أنيس الرافعي هوس وعشق وجنون، تدفعه للغوص عميقا بحثا عن النص الغائب؛ النص الذي لم ينكتب بعد، لا يكاد يتوقف في تجريب وتقليب أدوات اشتغاله، وفي مشاكسة المتلقي باجتراح تسميات تأبى على التجنيس، فجنون التجريب والبحث عن منظورات مغايرة ليس مسألة موضة أو بحثا عن الخروج عن الإجماع القصصي، بل ضرورة تفرضها رؤية القاص واستراتيجيته في معانقة الأسئلة على مستوى الشكل والمضمون، وبالتالي دفع المتلقي ورجرجة وعيه لتقبل جديده القائم على الغرابة المكسرة للمألوف، والتي تخفي جماليات إبداعية تثير الفضول المعرفي.

 يختار القاص في مجموعته تناول موضوعة الموت، لكن بمنظور جديد ومستفز، فليس الهدف من الكتابة الحديث عن الموت أو القدر الذي يلاحق الذات مهما استبد بها عشق الحياة، فذاك موضوع منذور للابتذال، ولكن رؤية المبدع وتصوره الجديد لما يخفى عن الذوات، وأقصد الاستثمار في الجثت ورسملة الموت هو ما يغري بالقراءة، ويخلق متعة الانزياح الدلالي، فبين قلوب مفجعة مكلومة، تنتصب شركات تتعيش على أنقاض الجثت وتقتات من الفجائع الإنسانية تستثمر أسهمها في عمليات الدفن وتقديم العزاء، وما يستتبع ذلك من طقوس الموت. من هنا تنبع جمالية الكتابة ،وهي تسعى لخلخلة الأنساق الثابتة وتحريك المياه الراكدة؛كتابة تقض مضجع المتلقي، وتوخزه بإبرها السامة كي توقظ فيه متعة التلقي، ولذة الإحساس بالمغايرة في طريقة تتناول موضوعة الموت، وفي فضح وانتقاد مظاهر الثراء الفاحش الذي يدوس كل القيم الإنسانية، فحين تغيب الأخلاق والفضائل تنهار القيم، وتنتصب شريعة الجشع والقتل؛ قتل غرائز الإحساس بمعاناة الآخرين.

بإلقاء نظرة سريعة على بعض عناوين المجموعة، نجدها تفي بوعدها، وتخلص لموضوعها” سبع أرواح”،زير الجثث“،” اليوم الأول بعد الموت“،” الشركة المغربية لنقلالأموات”،صانع الجنازات“، وبموازاة تيمة الموت التي تلقي بظلالها على المجموعة، نجد القاص يشكل عالما موازيا لها: عالم الجذبة واستحضار طقوس كناوة بتفاصيلها الدقيقة قصد تقديم معرفة ضافية للقارئ.

يتشكل النسيج السردي في مجموعة” الشركة المغربية لنقل الأموات” من خطين متوازيين يسيران وفق استراتيجية قصدية وواعية بجدوى المزج بين عالم الموت وعالم الجذبة، أ ليست الجذبة موتا رمزيا يشل حركات الجسد، ويسمو بها إلى سماوات اللاوعي؟، حيث تستسلم الذات طائعة للحال، منساقة ومتناغمة مع الايقاع الموسيقي الذي يعلو وينخفض تجاوبا مع أهواء المجذوب والمسكون بهوس “الحال” أو شارب لعفو.

إن إدراج نصيين متوازيين ضمن نسيج السرد جزء من منظومة التجريب التي دأب القاص على تشغيلها في كل مجموعة ، فبدأً من المناص(طقس قصصي) وصولا إلى توزيع طقوس كناوة بعاداتها الأربع ومحلاتها السبع، ساهم كل هذا في تشكيل نص قصصي مغاير ومتوازن وغني بالإفادة، نص يفتح أفق القراءة الاحتمالي على تجربتين سرديتين تكملان بعضهما البعض، ولا تقفان حائلا أما انسيابية السرد الذي يمتح من حياض الموت، فحين ينتهي القاص من  سرد إحدى قصص الموت بمعناه الرمزي، يبدأ طقس من طقوس كناوة بلون متفرد، واللون عنصر حاسم في تمييز محطات الليلة الكناوية، وينضاف إلى اللون في تأثيث عالم الجذبة أسماء ملوك الجان التي يتم استحضارها والمناداة عليها، كل ذلك يثير رعبا ودهشة لدى المتلقي، فما يكاد ينتهي من قصة موت حتى يلج سردابا معتما من سراديب كناوة إلى أن ينتهي به المطاف في المرحلة الأخيرة من مراحلها(الحنش الأسود)، وهي المحطة التي تقود إلى الموت الرمزي الذي يغيب فيه الوعي عن الجسد لعدة دقائق بفعل ايقاع موسيقي مدروس يتصاعد تدريجيا وأي” خطأ مهني جسيم في مخاطبة الأرواح يعرض صاحبه إلى الوفاة المفاجئة” ص64.

إن القاص لا يفتأ في تجريب كل الأشكال والأنواع وإدماجها في نسيجه السردي إغناءً لتجربته وتطويرا لها، ما يجعلها بعيدة عن الصدإ الإبداعي، ومنزاحة عن التجارب التقليدية الآيلة للزوال والاندثار.

تركيب:

لا يرتبط التجريب عند القاص أنيس الرافعي بأدوات الكتابة وتنويع طرائق السرد، ولكن باختيار الموضوع الذي يطرقه، والاشتغال عليه بحذق ومهارة متناهيين، حيث نجده يسخر كل امكانياته بما في ذلك سخريته السوداء المرة الجارحة، وهو يؤطر موضوعة الموت،الذي يتحول إلى بضاعة رائجة، وتتحول القيم إلى مراكز استثمارية في الجثث، بل وصل القاص حد تسفيه الموت وتتفيهه عبر صوغ حواري ومونولوغات داخلية تستبطن دواخل الشخصيات،ولعل قصة” الوطواط” تلخص كل شيء، وتكشف عن فئة اجتماعية تعيش خارج مدار الزمن وأفلاك الواقع.

إن مجموعة أنيس الرافعي تحفر وتغرف من خيال خلاق جعل تخييله عن الموت أصدق من حقيقة الموت ذاته، ودفعنا لتصديق الميثاق التخييلي والثقة به أكثر من الواقع” إننا نعتقد أن مبدأ الحقيقة يستمد قيمته من العالم الواقعي،أما مبدأ الثقة فيستمد قيمته من العوالم السردية[v]

تستطيع عوالم التخييل الممكنة التفوق على الواقع والانتصار عليه من خلال قدرتها على إعادة تركيبه، ودفع القارئ إلى فعل الشك والارتياب في حقيقة ما يروى” ولهذا فإن عملا تخييليا ما يمكن أن يكون أقوى من الحياة، يتعلق الأمر بقدرتنا على بناء الحياة باعتبارها محكيا”[vi]

إنها كتابة تفضح رسملة الموت، وتدين المتاجرة فيه من طرف شركات  تجعل له أسهما رابحة في بورصة النخاسة  الجديدة ،التي تحَصِّلُ أرباحها على أنقاض الجثث البشرية.

 

 

i-ديوان أبي الطيب المتنبي، شرح عبد الرحمان البرقوقي،دار الكتب العلمية ،بيروت، الطبعة الأولى 2001.

ii-محمود درويش، جدارية، رياض الريس،الطبعة الأولى 2000، ص53.

iii-لويس-فانسان توماس، الموت، ترجمة مروان بطش،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،الطبعة الأولى 2012،ص42.

iv-PH . ARIES ,l’homme devant la mort,ED ,seuil ,T2,Paris,1977 ,p 278/279. 

v-أمبرتو ايكو،ست نزهات في غابة السرد،ترجمة سعيد بنكراد،مرجع سابق،ص144.

vi-أمبرتو ايكو،ص204.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.