الرئيسية | فكر ونقد | حول كتاب “الشعر العربي الحديث ” لمحمد بنيس | عبد الواحد مفتاح

حول كتاب “الشعر العربي الحديث ” لمحمد بنيس | عبد الواحد مفتاح

عبد الواحد مفتاح

 

لا مُغالاة إن نحن قلنا إنا سؤال الشعر هو نفسه سؤال الثقافة العربية، ومِحورها، ولا نتهيب إذ نحن أقصينا هذا المحور أو ذاك في المعرفة، أو خارجها من أجل إعلان هذا الامتياز. مراحل القراءة هي التي قادتنا إلى ذلك لأن الشعر تَجمهرت فيه وحوله قضايا ثقافة ومجتمع يبحث عن لحظة الانفلات من الهيمنة. تلك عذابات والجروح المتآزرة في مدار الشعر العربي، تدمي باسم الدين أو الإنسان أو التقنية، لا فرق. الكلام هذا وغيره غير قليل، ما شدني وأنا أتابع الدراسة الأنيقة، والمستفيضة التي خص بها محمد بنيس الشعر العربي، في كتابه الذي جاء في أربع أجزاء تذكرنا بمنجز النقاد العرب القدماء وصرامتهم، من حيث الدقة والعمق والإسهاب. الكتاب الذي وسمه ب”الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاته” وهو كتاب / دراسة مقترب يسعى لإعادة بناء الشعرية العربية الحديثة، بأسس نظرية وأدوات منهجية، تستقي لمعانها من همٍ معرفي وقاد، يخترق التحليل النصي عبر تأملات وتحليلات تطالب القراءة بخرق حدود النهاية، وهي تُشَغِّل طبقاتها المأهولة بما لا نتوقعه دائما.

للشعر كما ترصد الدراسة، قضايا تمس تعدد المركب داخله، مفتوحة على اللانهائي. أما بالنسبة للتفرعات النظرية التي اشتغل بها، سعيا لمسائلة حداثته. فستقدم ضرورة معالجتها من خطوات التحليل والتنظير، التي لم يمر صدورها، عن حقيقة بها تحاكم القراءة.

اتخذت الدراسة لشكلِيَتِها أربع أقسام، عالجت فيها مفاهيم وتصورات اللغة الواصفة انطلاقا من قراءة استكشافية ونقدية في آن، لها القديم العربي والحديث الأوروبي، باتخاذ الغزو المزدوج نموذجا أساسا، واختراق التحليل النصي مسارا، وبذلك اختارت الحوار مع الشعرية العربية بعيدا عن المقدس والمدنس، في سعي نحو التفكيك الذي هو هَمّها المسترسل، لتنتقل من الوصف والتحليل إلى التنظير الملازم للمسائلة.

ركزت في المراحل الثلاثة الأولى، على المفاهيم والتصورات الخاصة بالعناصر والبنيات المخصوصة للشعر العربي الحديث، والمعطيات المشتركة فيه، أما الجزء الرابع فقد استلزم التنظير داخل نسقيته، استقصاء ومساءلة عناصر نصية وخارج نصية تستحوذ على أسئلة حدائقه وأسئلة لانهائية أفقه.

 محمد بنيس يختار المغامرة كما هي عادته. من غير اشتراط الوصول إلى الضفة المضيئة، كمسكن للحقيقة الكلية. فالشعرية المفتوحة كما يجترح للمفهوم، تتنكر لكل انغلاق معرفي ومنهجي داخل الدراسة، وهي لا تهادن في نقديتها جغرافيا رحيلها، كما لا تستسلم للخرائط المتواضع عليها.

إبدالات معرفية متعددة ما يركبها محمد بنيس سريرة لبحثه الموسوم، بالتعدد، واختلاف مسالك القبض على جمرة الممكن الذي تحجبه العادة، في الأمكنة المخالفة لما تَعوّد عليه البحت الجمالي أن يجد داخله الخرائط الموضوعة رهن إشارة المسافرين، وجرأة تتوثب أدواتها بتشطيب كل إذعان يرضي الجماعة.

دراسة كنت أنصت لفعاليتها، والشعر موضوعها، لأُصاحِب اللقاء السعيد الذي جمع بينهما، فالعناية الوارفة التي خص بها هذا الشاعر بحثه – بنيس يظل بمنظوري شاعر رغم صرامة الناقد الأكاديمي وأدواته الكاملة التي استعارها أتناء هذه الدراسة – كما عَودنا دائما خَصيصة سنده، فهو شاعر تمايز رفقة أدونيس، صبحي حديدي، شربل داغر، وقلائل من شديدي الإخلاص لجمرة الشعر، وما يضيئها في التماس يختبر مجهول المعرفة، وينعشه الوعي بحدود الذات القارئة، لهذا تجده يعدد مسالك اختباراتها المتأنية عن صرامة المسائلة والتقصي، من خارج المعمم والمستهلك دائما.

تأتي هذه الدراسة في زمن الاضطراب الأكيد، زمن كل شيء فيه مهدد بنقيضه، أو ما لا قدرة لنا على تبَينِه (وهنا ضرورتها) على حد إمضاء محمد بنيس نفسه، وقد كان لتنوع واختلاف هذه الدراسة، مدخلا لحرية يتطلبها البحث، كما تتطلبها المسائلة، وإن كانت هذه الحرية ليست مجرد إعلان يؤدي حتما وفورا إلى النزول ضيفا على معرفة نقدية، ففعل الحرية الذي شَغَّلهُ بنيس وهو يُؤثث لبحثه فعل مضاعف لتوضيح الأسس الأبستمولوجية الضرورية وتعددا لأمكنة القراءة.

إنها دراسة صادرة عن السؤال، (وهذا ما يجعل لها أفقا بهيا وسط الدراسات العربية الوازنة والرصينة)وتعثرت في رحلتها بالسؤال، بذلك استَوَت وتوسَعت إلى غير ما يفضي إليه الاطمئنان في انتماء إلى اللانهائي. فالقراءة المغايرة تُقَلب الأساسيات لتأخذ الحداثة داخلها سؤالا منافيا لمفهوم التقدم، أو للمفاهيم المصاحبة له، فالحداثة مواجهة من أجل ماء النص، به يتسمى الزمن الشخصي، في نص لا يتكرر ولا يُلغى، وبه تتجدد الحداثة في لا نهائيتها عبر الأزمنة كلها، هناك على حدود الخلق يكون القلق سيدا والسؤال صاحبا، فلا شيء يسكن مدار غبطة السؤال.

 الخلاف الحاصل الذي وَتَّرَتْ به هذه الدراسة بحثها، هو حضور المحيط الشعري، الذي ظل لسنوات مُغيبا والمتمثل له بنموذج المغرب، بعد أن انحصرت الدراسات عامة عن الشعر العربي في ما ظل يسمى بالمركز الثقافي، (مصر، لبنان، سوريا) مما أكسب هذا المركز سلطت تعيين الحقيقة، وتوزيع وظائفها مما جعل هذا المحيط الشعري يمتهن وضعية اللامفكرفيه. وبهذا الحضور له هنا توسع الدراسة مُقترَبها، وتخط انفتاحها الرحيم، ليكون لحضور المغرب الذي طالما عانى شعراءه من ضيم نقدي كامل، إمضاءا لسؤال شعري لم نواجه بعد.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.