الرئيسية | فكر ونقد | المثقف والسلطة من سقراط إلى إدوارد سعيد. | سعيدة بنسليمان

المثقف والسلطة من سقراط إلى إدوارد سعيد. | سعيدة بنسليمان

سعيدة بنسليمان:

 

المعرفة سلطة – م. فوكو
إن دور المثقف إزعاج السلطة – سارتر

قد تكون الإشكالية التي نحاول معالجتها في نصنا هذه تختصر في سؤالين اثنين: ما هو المثقف؟ وما هو دوره؟ إلا إننا قد نتجاوزهما قليلا إجابة عن أسئلة أخرى ضمنية، وأخرى ستفرض نفسها داخل السياق.

فإن ذهب ابن خلدون إلى الاستهزاء من “المثقف” المستقل عن السلطة الذي لا يجد من يطلب منه العلم أو النصيحة. غير محدد وظيفته بل دوره حسب مسافته من السلطة. ففي القرن التاسع عشر والقرن العشرين، كانت الأسئلة تدور حول السؤالين أعلاه. يقول الدكتور الباحث محمد الشيخ في كتابه (المثقف والسلطة…) أنه: “تجمع كل الأبحاث الاجتماعية والتاريخية على أم مفهوم “المثقف” l’intellectuel نشأ أو ما نشأ بفرنسا مع انفجار قضية دريفوس [ذلك القائد البحري اليهودي]. وهذا لا يعني مطلقا أم مضمون هذا المفهوم كان غائبا فيما قبل. فقضية سقراط وقضية فولتير… تحميلان دلالة هامة في هذا الصدد، وتقدمان نموذدا واضحا عن مفهوم المفكر أو الفيلسوف أو رجل الآداب الذي لا تشغله همومه المعرفية وتأمملاته الفلسفية عن الاهتمام المدنية والنزول إلى الساحة العمومية l’agora صادعاً باسم “الحق” و”العدل” و”الخير” ومدافعل عن القيم الإنسانية العامة المجردة التي يلخصها شيشرون في “حب النوع البشري”.

إن كانت قضية سقراط وذلك المواطن اليوناني، وقضية فولتير التي اشتهرت بقضية Callas، وقد ألف فيها فولتير كتابه المدوي “محاولة في التسامح” الذي دفع إلى إعادة فتح الملف من جديد. “أعتبرتا في تاريخ الفكر الغربي نموذجا لسلوك المثقف في مواجهة طغيان السلطة وسلطة الطغيان”. فقضية دريفس قد شكلت منعطفا هاما في العلاقة بين المثقف والسلطة والدفاع عن العامة، وإحداث هذا المفهوم داخل السياق التاريخي، إذ أتهم هذا القائد البحري بالخيانة، في الفترة التي كان يعاني فيها اليهود اضطهاد وتنامي الكراهية لهم بفرنسا، خرج مجموعة من المثقفين ودكاترة سيربون إلى الساحة العامة تُسمي نفسها بجماعة “المثقفين” ، مُصدرة “بيان المثقفين” (من تحرير: إميل زولا، وليون بلوم، ومارسيل بروست، وأناتول فرانس… وغيرهم). لتبدأ مرحلة جديدة، يتكون فيها المثقف مدافعا عن القضايا العامة، وصوتا لها..

فقد تغير موقع المثقف اليوم عما كان عليه في الماضي، فالمثقف اليوم ليس ذلك الذي «يفك» الحرف في مجتمع تغلب عليه الأمية، وليس ذلك الذي يقرزم الشعر في المناسبات، وليس ذاك الصوفي المعزول في برج عاجي، مهمته أن يتأمل ويستنبط من أجل الوصول إلى «الحقيقة» المطلقة فيخرج بها على لناس بعد طول غياب، المثقف اليوم هو الذي يعي روح العصر، ويندمج في تياره ويساهم عن طريق الكلمة والفكر من أجل زيادة معارف الناس وصقل وجدانهم وجعلهم أكثر إنسانية لكونه يشكل شريحة متميزة داخل المجتمع بسلوكه وأفكاره وذوقه، يسعى باستمرار إلى تعديل القيم الثابتة وإلى العمل أحيانا كجماعة ضغط معنوي من أجل مبدأ أو قضية ما. فيذهب “أنطوان غرامشي” إلى الإتيان بمفهوم المثقف العضوي، فهذا المفهوم لا يختزل فهما وتعريفا في ذلك المثقف المرتبط بالجماهير فحسب، الراغب في التغيير والذي يعمل أوعليه أن يعمل من أجله. “المثقف العضوي” في فكر غرامشي هو صاحب مشروع ثقافي يتمثل في “الإصلاح الثقافي والأخلاقي” سعيا وراء تحقيق الهيمنة الثقافية للطبقة العاملة بصفة خاصة وللكتلة التاريخية بصفة عامة ككتلة تتألف في الحالة الإيطالية لعشرينات القرن العشرين (وغرامشي يفكر من داخل السجن) من العمال بالشمال والفلاحين بالجنوب و”المثقفين العضويين” الذين لهم قدرة صياغة مشروع “إصلاح ثقافي وأخلاقي” وإرادة هزم الكتلة التاريخية القديمة المؤلفة من برجوازية الشمال وإقطاع الجنوب و”المثقفين التقليديين” أصحاب المشروع الفكري المحافظ والإيديولوجيا السياسية اليمينية المرتبطين بالكنيسة والإقطاع.

وقد تأثر المفكر الفلسطيني-الأمريكي “إدوارد سعيد” بما جاء به غرامشي. يقول حاتم الشّلغمي: يحدد ادوارد سعيد المثقف أو المفكر بتعريفين يتسمان “بالتعارض الأساسي” حول هذه المسألة، وهما من أشهر تعريفات القرن العشرين: الأول للمناضل الايطالي الماركسي والصحفي والفيلسوف السياسي انطونيو غرامشي حيث يقول “إن جميع الناس مفكرون” ويضيف “ولكن وظيفة المثقف أو المفكِّر في المجتمع لا يقوم بها كلُّ الناس”.
وهنا يحاول غرامشي تبيين من يقومون بوظيفة المثقَّف أو المفكِّر فيقسمهم إلى قسمين: المثقَّفون التقليديون حيث يضمُّ الأول الكهنة، المعلِّمين والإداريين… الذين – حسب غرامشي – يقومون بنفس وظيفة التفكير يومًا بعد يوم وعامًا بعد عام وجيلاً بعد جيل، بمعنى وظيفة التفكير غير متجدِّدة. أمَّا الثاني فيسمِّيهم المثقَّفين المنسِّقين والذين يرى غرامشي أنَّهم مرتبطون ارتباطًا مباشرًا بالطبقات التي تستخدم المثقّفين في تنظيم مصالحها واكتساب مزيد من السلطة والرقابة.

أمَّا التعريف الثاني، وهو التعريف الأشهر، الذي وضعه جوليان بندا في كتابه خيانة المثقفين وهو يعتبر هجومًا لاذعًا على المثقَّفين. إذ يعتبر بندا إنَّ المثقَّفين “عصبة ضئيلة من الملوك الفلاسفة من ذوي القدرات أو المواهب الفائقة والأخلاق الرفيعة”، ويضيف أنهم -أي المثقَّفين- يشكِّلون “طبقة العلماء والمتعلِّمين البالغي الندرة نظرًا لما ينادون به ويدافعون عنه من قضايا الحقِّ والعدل”.

فنجدنا –هنا- أمام شبه تقاطع مع ما داء به الفيلسوف الفرنسي ج. بول سارتر فيما جاء به من مفهوم “المثقف الملتزم”: هو المثقف الذي يتخذ مواقف واضحة من القضايا المعاصرة وعليه أن يشارك فيها ويلتزم بتبعات هذه المشاركة. لا يجب أن تكون هذه المواقف ثابتة وجامدة ولكن يجب أن يشعر المثقف بمسئوليته تجاه الواقع من حوله. في المقابل هنا رؤى ترى أن المثقف ليس مطلوبا منه المشاركة في النشاطات الحركية ويكفيه دور الناقد والقارئ والمفكر. سارتر هو صاحب مفهوم المثقف الملتزم والذي أصبح شعارا له خصوصا في الفترة الأخيرة من حياته. لم يكن لسارتر نشاط سياسي مهم في الثلاثينات والأربعينات. في منتصف الأربعينات حدث تحول في موقف سارتر من الواقع حيث انتقل من دور المنظر المراقب إلى دور المشارك المباشر.

فبالتالي: إنَّ المثقَّف الحقَّ هو ذلك الذي يمثِّل المسكوت عنه وكلَّ أمر مصيره النسيان، التجاهل والإخفاء، لأنَّ المثقَّف الحقَّ لا يمثِّل أحدًا بل يمثِّل مبادئ كونية مشتركة لا تنازل عنها، فهو يمثِّل نبض الجماهير وهو الذي “لا يقبل أبدًا بأنصاف حلول أو أنصاف الحقيقة”، هو الشخص الذي يواجه القوَّة بخطاب الحقِّ ويصرُّ على أنَّ وظيفته هي أن يجبر نفسه ومريديه بالحقيقة، هو المثقَّف “المقاوم”، يقاوم بفكره ونشاطه هيمنة السلطة السائدة بمختلف أنماطها المادية والاجتماعية والسياسية التي تحتكر البنية الفوقية للمجتمع والسياسة.

غير أننا نطرح سؤالا ختاميا، نفتح به التفكير لمقال آخر: ماذا صار يعني مفهوم المثقف ودوره في ظل ما نعرفه اليوم من تطور معلوماتي وتقني رهيب، وما باتت تلعبه التقنية من جمع ونقل وتحليل للمعلومة؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.