الرئيسية | فكر ونقد | المثقفون المغاربة ورهان التغيير (2) | فريد لمريني

المثقفون المغاربة ورهان التغيير (2) | فريد لمريني

فريد  لمريني

 

 2-  المثقفون المغاربة كمنتج تاريخي

هناك معايير سوسيولوجية  كثيرة في التحديد الدقيق لمفهوم النخبة والنخب ، وهذا يسمح لنا في العادة بالحديث عن أنماط لا حد لها من النخب، وبالتالي تحليلها من زوايا نظر متباينة ،عادة ما يغني بعضها البعض الآخر .وليس هناك على الإطلاق تحديدات قاطعة ومعايير ثابتة،  حتى حين تبلغ درجة عالية من التحليل النظري والمعاينة العملية والتنظيم المنهجي الدقيق .وبعبارة واحدة،ففي مسالة المثقفين ومنتجي الأفكار، لا يوجد براديكم  مفصلي حول الموضوع.

     هذا المعيار الذي نحاول من خلاله أجرأة مفهوم النخبة المثقفة في نسخته وتجسيداته المغربية المتميزة،  وتصنيفه إلى فئات اجتماعية مختلفة، يعتمد منهجية التصنيف بمعيار الانتماء الثقافي للمثقفين. كما أن هذا المعيار يفترض أن الانتماء إلى طبقة اجتماعية ليس عاملا حاسما في تفسير التكتلات التي تحدث بين المثقفين، وبالتالي تفسير تضامنهم الروحي والمهني . والأكيد،كما يلاحظ ذلك جيرارد لوكليرك

أن صعوبات منهجية كثيرة تطرح على عالم الاجتماع حين يكون باحثا عن فرز سوسيولوجي واقعي للمثقفين داخل المجتمع، لأن هؤلاء لا يشكلون على الإطلاق مجموعة اجتماعية متجانسة تماما،فبالأحرى أن يكونوا طبقة محددة وواضحة المعالم[1]. وفي هذه الحالة، يبدو لنا المعيار الثقافي في بحثنا عن أنماط المثقفين المغاربة، معيارا مقبولا إلى حد كبير. غير أنه من اللازم الانتباه إلى أن أي تصنيف للمثقفين، وتلك دعوة جيرارد لكلير نفسه،لا ينبغي أن يكون فقط مهتما بالأسماء الكبيرة منها.ونحن نعتقد أن الدرس الأقوى عند أنطونيو غرامشي في هذا السياق، تشديده القوي على أن الثقافة توجد حاضرة في كل فعل اجتماعي كيفما كان نوعه، بمعنى أنها لا توجد فقط في الأوساط الأكاديمية الراقية .

    اعتمادا على معاينتنا الدقيقة،يمكن القول أن هناك المثقف المحترف صاحب الثقافة العالية والأكاديمية الذي ينتمي إلى الحقل الثقافي بصفته المهنية تلك. وهي التي تجعل منه مبتكرا وناشرا لأفكار في قلب الحقل الاجتماعي، بمعنى خبيرا ثقافيا أو فكريا، قادرا أن يجعل من ثقافته الخاصة، خطابا فكريا متماسكا ومنظما بشكل برهاني ومنطقي. وهناك ٌالمثقف بالمعنى الأنتروبلوجي ، كمنتج للثقافة والعمل الفني وللعرض الفرجوي ، أو لنظام من القيم والرموز المتميزة عن رموز أخرى، أو حتى كمناصر لفلسفة خاصة في الحياة ولنمط خاص في العيش بصفة علنية وعلى نطاق واسع . هنا بالذات يكبر الحيز السوسيولوجي الذي تتواجد فيه النخبة الثقافية ، على أساس أن العامل الثقافي بهذا المعنى المركب، يوجد وراء كل السلوكيات الشعورية واللاشعورية للفاعلين الاجتماعيين أينما وجدوا وكيف ما كان انتماؤهم الطبقي .

     هناك معيارا آخر يسترشد به هذا التصنيف، هو الاحتكام إلى طبيعة القضية التي تحدد مجالات اهتمام وتدخلات النخبة المثقفة، إضافة إلى المرجعية اللسانية المشتركة التي تكون في العادة، تجسيدا لوحدة المرجعية الثقافية. وعادة ما يمكن القول أن قضية محددة، هي التي تصنع التضامن الروحي بين مجموعة من المثقفين، وبالتالي ذلك التكتل الشعوري واللاشعوري الذي يجعل منهم قوة اجتماعية، موحدة  الأحلام والتصورات والمصالح والأهداف.

     يمكننا  في الوقت الراهن على مستوى الأجرأة المنهجية والتحليلية لمفهوم النخبة المثقفة المغربية، تصنيفها إلى مجموعات تبدو إلى حد ما وبنسب متغيرة، متماسكة على مستوى المرجعية الفكرية والسلوكية، غير أن هذا التماسك على مستوى التجليات السوسيولوجية للفعل الاجتماعي، تتميز بالكثير من الهشاشة، ولا ترقى إلى حد الآن إلى مستوى الفعل الاستراتيجي الاستشرافي، الذي يتطور بناء على منطق موضوعي فيه حد أدنى من المعقولية على الأقل. لهذا نجد هذا الفعل متقلب المزاج الفكري، ولا يستطيع الحفاظ على تماسكه بشكل مستمر، إلا في الحالات النادرة. وهنا بالذات تزداد صعوبة التصنيف. أضف إلى ذلك أنه لا توجد في الغالب خطوط تماس أيديولوجي قارة وواضحة المعالم بين هذه النخب المثقفة، إلا في سياقات فكرية قليلة، رغم أن تصوراتها للعالم، قد تبدو لنا على مستوى الخطاب الذي يتم ترويجه، متباينة أو متباعدة عن بعضها البعض.

     إن مسؤولية النخبة المثقفة المغربية في التقدم الاجتماعي لا غبار عليها. غير أن المعاينة الموضوعية لمواقعها الاجتماعية ليس من البداهة في شيء، على الأقل بالنظر إلى عامل جوهري، هو ظاهرة عدم استقلالية الحقل الثقافي الذي يفترض أن المثقف يشتغل بداخله.

    إذا كانت ًالنخبة المغربية التي يمكن نعتها بالنخبة المخزنيةً الحاكمة في مغرب القرن التاسع عشر، وهي صاحبة الأصول السوسيولوجية القارة، وصاحبة التقاليد الاجتماعية العريقة في تاريخ المغرب، غير حاملة لخصائص موضوعية ثابتة ودالة على الانسجام الكامل بين مكوناتها [2]، فكيف يمكن أن نقرر ببساطة، في وضوح الخصائص الاجتماعية للنخبة المثقفة وهي حديثة العهد بهذه الصفة من التحليل؟

     يعتبر النفوذ الاجتماعي للفاعل الثقافي في تاريخ المغرب إلى يومنا هذا، نفوذا ضعيفا وهشا. وربما أمكن القول أن هذا الأخير ما زال يترقب ويتوجس في الكثير من الحالات، من انتماءه الإيديولوجي إلى أولائك الذين سماهم جان لوي مييج، في تحليله للحياة السياسية المغربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ب: التحديثيين، وأولئك الذين تم اعتبارهم: محافظين، أو خائفين على مصالحهم الشخصية من التغيير[3] .

      سبق أن عالجت أبحاث أكاديمية تاريخية وسوسيولوجية جادة ورصينة،  أوضاع النخبة المغربية المثقفة في بداية القرن العشرين، وخلال فترة الاستعمار بصفة عامة، بمعنى إلى حدود نهاية النصف الأول منه .وقد ساهمت هذه الأبحاث إلى حد كبير في توضيح الرؤية حول التحولات السوسيولوجية وتحولات المرجعية الثقافية لدى هذه الفئة المتميزة من النخب، كما ساهم بعضها في رصد المواقف الفكرية المبكرة لبعض <المثقفين > المغاربة اللامعين في ذلك الوقت، من الأصداء الأولى للحداثة الأوروبية في أرض المغرب، وساهم بعضها الآخر في تفسير بعض التغييرات التي طرأت آنذاك في حقل النخب المغربية غداة اللقاء التاريخي الصعب  بأوروبا الحديثة وبالرأسمالية العالمية الكاسحة ، [4]. ومما لا شك فيه أن تشكل المعالم الأولية للحركة الوطنية المغربية في ثلاثينيات القرن العشرين، كان حدثا بارزا في اختمار وإنضاج هذه التحولات المشار إليها في الحقل الثقافي المغربي .

     يميز عبد الله العروي في الحياة السياسية والثقافية المغربية بين نمطين من الوطنية  :

Nationalisme tactique-  -الوطنية التكتيكية

 Nationalisme historique- – الوطنية التاريخية

    كتب صاحب هذه الفرضية في نطاق توضيحها قائلا :

ٌ لقد بدا لنا ضروريا أن نميز بين ما نسميه بشكل عام ً وطنيةًٌ ، وهي تعني حركة سياسية محددة من خلال إطار كولنيالي ، وبين الرحم التاريخي الذي يستطيع وحده أن يمنحها قدرتها الانتشارية وقوتها في التجذر ٌ [5]

     إن الوطنية المغربية بالمعنى التاريخي، وبالاستناد إلى وعائها الروحي والرمزي: تعكس بنية اجتماعية ليست أبدا راهنة، إذ يمكن لكل الطبقات في لحظة تاريخية محددة، أن ترى فيها ذاتها (إذ أنها بهذا المعنى) ليست إيديولوجيا من بين إيديولوجيات أخرى، بل إنها الايدولوجيا بالذات ٌ [6]

     وإذا أضفنا إلى ذلك أن الحركة الوطنية المغربية لم تحصل عل عقد ميلادها الرسمي الشرعي إلا بالالتحام الكلي بالخلفية الفكرية السلفية  [7] عبر التعاقد الإيديولوجي مع الدولة المخزنية ، أمكن لنا أن نفهم كثيرا من مسارات التطور التاريخي الموضوعي للحقل الثقافي المغربي ولمسارات تشكل المثقفين وصعودهم السياسي إلى مربع الريادة الاجتماعية .

     يتحدث الزعيم السياسي عبد الله إبراهيم عن الثقافة المغربية خلال فترة الحماية قائلا:

ً كنا في المغرب بعيدين جدا عن الشروط التي يمكن أن يترعرع وينمو فيها مثقف بالمعنى الحقيقي للكلمة.ولذلك فالمطالب هي مطالب مثقفين متوسطين يمثلون النخبة. وكانت اهتماماتهم إما عملية محضة، وإما للدفاع عن الهوية المغربية التي تتمثل في كل ما كتب عن احترام اللغة العربية والدين الخ ..ٌ [8]

     كان هذا الاقتران التاريخي القوي بين الحركة الوطنية المغربية من جهة والفكر السلفي من جهة أخرى، دلالة بارزة على الصعوبات السوسيولوجية الموضوعية التي ستعترض في مراحل تاريخية لاحقة، الاستقلالية الفكرية للمثقف المغربي، وبالتالي إمكانية تحوله إلى سلطة نوعية مستقلة عن سلطة الحقل السياسي .

     كتب الزعيم الكاريزمي للحركة الوطنية المغربية علال الفاسي، مزهوا ومحتفلا بهذا الاقتران التاريخي الاستثنائي في تاريخ الحركات الوطنية العربية والإسلامية،كلاما بليغا بهذا المعنى المشار إليه  قائلا :

”  من الحق أن نؤكد أن امتزاج الدعوة السلفية بالدعوة الوطنية ، كان ذا فائدة مزدوجة في المغرب الأقصى على السلفية وعلى الوطنية معا .

ومن الحق أن نؤكد أن الأسلوب الذي أتبع في المغرب أدى إلى نجاح السلفية، بدرجة لم تحصل عليها حتى في بلاد محمد عبده وجمال الدين . “[9]

    هكذا ترسخت  الملامح العميقة لهوية  الحقل الثقافي المغربي في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، بعد رحيل الحماية الأجنبية غداة الحصول على الاستقلال السياسي . وفي هذا السياق بالذات، تشكلت الثوابت العقائدية والإيديولوجية الرسمية للنخب الثقافية المغربية ، حتى بالنسبة للنخب المثقفة الحداثية أو الفرنكوفونية التي كان لا شعورها الثقافي مقبلا و متجها بشهية رمزية بالغة ولافتة للنظر، صوب الثقافة الأوروبية الحديثة والحياة الاجتماعية المعاصرة .

     كان ذلك النزاع السياسي الشهير والمثير للانتباه في قلب كتلة العمل الوطني في أربعينيات القرن العشرين، بين السياسي الفقيه السلفي المتنور علال الفاسي ، صاحب الشخصية الكاريزمية القوية، وغريمه في المعركة السياسية آنذاك، المثقف الليبرالي المتفتح على الأفكار السياسية الحديثة محمد بلحسن الوزاني ، بغض النظر عن دوافعه الذاتية أو الموضوعية ، وبالكيفية التي انتهى بها لصالح الأول ، مجسدا بعمق تفوق المرجعية الإيديولوجية المشار إليها في الحقلين السياسي والثقافي في آن واحد. ومما لا شك فيه أن ملامح هذا المشهد الرمزي العميق، ما زالت بادية على المرجعية الإيديولوجية للمثقفين المغاربة اليوم، وعلى ملامحهم وشخصيتهم الفكرية والسلوكية ، ومازالت هذه الواقعة التاريخية قادرة على تفسير الكثير من توجهات ومسارات الفعل الاجتماعي ، أو بعبارة أدق ، تفسير الفعل المدني للنخبة المثقفة المغربية ، حتى في نسختها  الفرنكوفونية الأكثر انفتاحا وتعلقا وولعا بالحداثة الأوروبية، أو نسختها التيكنوقراطية الأكثر مطالبة بالتحديث والعصرنة ، أو تشكيلتها السياسية التي ترفع بصوت عال ، شعارات الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية والسياسية .

     لعل الحمولة الرمزية العميقة لهذه الواقعة التاريخية، ما زالت تثقل على كاهل المشهد الثقافي المغربي الراهن، وهي تفسر بشكل عميق، في تقديرنا الشخصي، الكثير من ألغاز الوضع الاجتماعي الملتبس للمثقفين في مغرب اليوم.

 

 -[1]  -Gérard Leclerc, Sociologie des intellectuels, « Que sis-je ? », Puf, Paris 2003

[2]  -كتب المؤرخ مصطفى الشابي في هذا الإطار قائلا:

 ٌ هل كانت للعائلات المخزنية في القرن التاسع عشر خصائص ثابتة ؟

كانت بنية خدام المخزن لا تتصف بالانسجام في جميع الحالات، فأصولهم الجغرافية و الاجتماعية كانت متنوعة(….) ثم إن هذه البنية لم تكن قارة باختلاف الظروف، بل كانت تتعرض للتغيير من عهد إلى عهد ، وقليلة هي الأسر التي استطاعت أن تتوارث الحكم والسلطة طوال القرن التاسع عشر (…) ويوحي التأمل في الأصول الجغرافية لهؤلاء الخدام بأن المخزن كان ينهج سياسة توازن ذكي في اختياراته ولاسيما بين المدن والبوادي .

ولعل الميزتين السابقتين ساهمتا في واقع تمثل في كون العائلات المخزنية لم تشكل في يوم ما جبهة متراصة في مواقفها السياسية ، بل كانت باستمرار منقسمة على نفسها طوائف وأحزابا بحسب انتماءاتها القرابية والجهوية ، فهي لم تكن تظهر بمظهر ً طبقة حاكمة ً بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم .ٌ

– النخبة المخزنية في مغرب القرن التاسع عشر ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، 1995

[3] -Jean Louis Miège, Le Maroc et l’Europe (1830-1894) – les difficultés, PUF, Paris 1962, pp. 109/111

[4]  -على سبيل المثال الأطروحات الجامعية الآتية:

– عبد السلام الطاهري، نشأة خطاب السلفية المغربية(1757-1894)، رسالة جامعية، كلية الآداب بالرباط، 1989- 1990

– عثمان أشقرا، سوسيولوجيا الخطاب الإصلاحي بالمغرب (1907-1937) رسالة جامعية في علم الاجتماع ، غير منشورة، كلية الآداب بالرباط 1985-1986

– محمد معروف الدفالي حزب الشورى والاستقلال ودوره في الحركة الوطنية ( 1946-1959 ) ن رسالة جامعية، كلية الآداب بالرباط، 1988-1989

– عبد الإله بلقزيز، الخطاب الإصلاحي في المغرب : التكوين والمصادر (1844-1918) رسالة جامعية ، كلية الآداب بالرباط، ( 1993 -1994 )

– عبد السلام حيمر، إشكالية التحديث في الفكر الاجتماعي المغربي ( 1844- 1912 ) ، رسالة جامعية، كلية الآداب بالرباط، 1991

– فريد لمريني، الحداثة والتحديث السياسي: الفكرة الليبرالية في المغرب ، أطروحة دكتوراه الدولة ، كلية الآداب بالرباط ، 2003

-[5] Abdallah Laroui, Esquisses historiques, centre culturel arabe, Casablanca 1992, p.131

[6] – Ibid, p.132

[7] -سعيد بنسعيد العلوي ، الاجتهاد والتحديث : دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، مركز دراسات العالم الإسلامي ، مالطة 1992.

 [8] – عبد الله إبراهيم ، حوار ً الحركة الوطنية والعمل الثقافي ً  ملف الثقافة في المغرب،  في مجلة الكرمل ، العدد 11، 1984 ، ص. 124

[9] – علال الفاسي ، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي ن مطبعة النجاح الجديدة ، الطبعة الخامسة ، الدار البيضاء 1993 ، ص. 154

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.