الرئيسية | فكر ونقد | الجنون عبر الرواية: في رواية “قبل الجنون بقليل” | محمد يوب

الجنون عبر الرواية: في رواية “قبل الجنون بقليل” | محمد يوب

محمد يوب:

 

قبل الجنون بقليلتنهض رواية (قبل الجنون بقليل) للأديب عبد الغفور خوى وتنمو على تفعيل الإطار السردي المقاماتي بسقفيه العلوي الذي يبدأ بمقام الرحيل والسفلي الذي ينتهي بمقام الرجوع؛ بغض النظر عن المقام الأخير الذي أضافه الكاتب والمعنون بمقام (ما قبل الجنون بقليل)؛ وبين مقام الرحيل ومقام الرجوع؛ هناك مناورات سردية في محطات مختلفة في المساحة/المسافة الروائية بدون حدود واضحة؛ عمتها فوضى الأفكار والسياحة في العوالم الفكرية والفلسفية وصراع الأيديولوجيات؛ لتنعطف وتعود من حين إلى آخر إلى العالم السفلي الغارق في الرذيلة والاستغلال بكل أشكاله؛ استغلال أصحاب الفكر الضلالي للشباب ودفعهم إلى الانتحار في سبيل حياة وهمية واهية من صنع الخيال؛ أو استغلالهم في أعمال يدوية مرحقة تدمي الأيادي وتهدُّ الأكتاف؛ أو استغلال الجسد الأنثوي لتفريغ المكبوتات.

إن الرواية لا تكون رواية بدون شخصيات؛ والشخصيات لا تكون شخصيات دون صفات تحددها ظاهريا وباطنيا؛ والملفت للانتباه في هذه الرواية هو هيمنة شخصية واحدة هي شخصية (صابر الصالحي) على فضاء المروي هيمنة تكاد تكون كلية أفقيا وعموديا؛ فهو السارد العالم الذي يدير دفة الحكي ويغير مساره من حين إلى آخر؛ أي أنه السارد المركزي الذي يتسيد السرد ويقود زمام المبادرة السردية؛ بحسب ما تفترضه مجريات أحداث الرواية؛ مما يساعد على خلق فضاء واسع من الإيهام؛ يخلخل السرد التقليدي ويدخلنا في سرد يزعزع يقين المتلقي؛ ويظهر هذا  منذ لقائه في الحافلة المتوجهة إلى (المنصورة) مع الرجل الملتحي والدخول معه في حوار عميق؛ حول السؤال الجوهري؛ ما السبيل إلى الخروج من تخلفنا؟ بين رأي يحث على العودة إلى عهد الخلافة الراشدية؛ ورأي يؤكد على ضرورة التخلص من عقدة الانبهار بالماضي وضرورة الانفتاح على الآخر؛ وهو حوار بين فيه السارد ضحالة الفكر المُقلد السطحي ونضج الفكر الحداثي ( هكذا حاولت إنهاء النقاش مع هذا الرجل لما رأيت أن صدره لا يتسع لرأي غير رأيه)[1]؛ ثم مرورا باشتغاله مع صديقه سعيد في إحدى مقاولات البناء؛ و اشتغاله بأحد الملاهي الليلية؛ إلى التقائه بعُلية في (البورديل) وإعجابه بها واتفاقه معها على الزواج؛ إلى أن غابت عنه في ليلة مقمرة وتأسفه عن فراقها عندما رفض الزواج بها ( رحلت علية في غفلة مني؛ انسحبت من حزني مثل حلم كان يتماها مع نفسي في ليلة مقمرة ثم اختفى على حين غرة تاركا أطيافا وهواجس تعكر صفاء مزاجي)[2] نادما في النهاية على فراقها  حد الجنون ( ألم يقل شكسبير: ما الحب إلا جنون؟)[3] وعودته إلى قريته الصغيرة (ناداني صوت فطري قادم من مكان مجهول: غادر هذه المدينة المخضبة بالغواية وعد إلى قريتك الصغيرة؛ فأنت لم تخلق لتدور في سديمية التفاهة)[4]  مما يدل على أن الرواية لعبت على تقنية السرد الدائري باعتباره علامة روائية لافتة للانتباه؛ والدليل على ذلك عودة الأحداث بطريقة دائرية إلى البداية بعد بلوغ النهاية.

ولا يضاهي الشخصية البطلة في الرواية سوى المكان؛ وتحرك الشخصية البطلة أعطى للقارئ فرصة السياحة في كثير من الأمكنة المعدة ميدانيا لأحداث المسار السردي؛ وتعدد الأمكنة هنا ساهم في شد انتباه القارئ وحثه على متابعة الفعل القرائي؛ وتعدد الأمكنة لم يشتت انتباه القارئ لأن السارد أخضع هذه الأمكنة بشكل بؤري لاستنارة مجموعة من الإشارات السميائية ( داهمتنا رائحة الأطعمة الشهية ممزوجة برائحة مياه الصرف الصحي وروائح أخرى شممتها للمرة الأولى)[5] وهي إشارة إلى أنه يسكن في منزل قصديري (بابه أصفر فاقع؛ رُسمت عليه باللون الأحمر علامة تجارية لشركة”شال”)[6] وفي المقابل يقدم السارد بؤرة مكان مضاد (بعد أن شربنا القهوة ودخَّنا وتحدثنا حول العديد من المواضيع قادني سعيد عبر الشارع الواسع؛ الجدران والبنايات البيضاء تبدو أكثر أناقة…المتاجر ذات الواجهات الزجاجية واللوحات الاشهارية تعج بالبشر)[7] وبذلك يظهر المكان المضاد في مساحة العمل الروائي مواجها للمكان الأليف ومستودعا للأسرار وخفاياه.

 وهكذا ينهض المكان وينمو على لعبة استفزاز المتخيل السردي الذي يقتات من طبق القلق والاضطراب والمعاناة؛ لكنه لا يستحضر إلا ما يثير غضب صابر وحنقه على المكان؛ ليعود هاربا من لفحة المدينة وقسوتها؛ معلنا فشله في خوض تجربة الهجرة إلى المدينة ؛ وفشله في إيجاد عمل يليق بشهادته العليا؛ ويفشل أخيرا في الزواج من عُلية التي ضيعها كما ضيع العشاق معشوقاتهن (أنا مجنون؛ ألم يقل صمويل بيكيت إن الجميع يولدون مجانين؟)[8] . وهذا يؤكد بالملموس كيف تتحلل شخصية الإنسان المضغوط نفسيا واجتماعيا واقتصاديا؛ حين يتعرض لتجربة حياتية يكون حينها وجها لوجه أمام الواقع المعيش ومتغيراته؛ وكانت النهاية هي الاستسلام.

ليختفي البطل كما اختفى كثير من المجانين وتاهوا في رحابة الأرض دون معرفة مصيرهم؛ لتنتهي الرواية نهاية مستفزة شيئا ما لمشاعر القارئ؛ وهي أن وزارة التربية والتعليم فطنت إلى أن هناك عاطلا جامعيا مرميا في أقصى الأرض في قرية نائية؛  تحتاجه الآن بطريقة مستعجلة للعمل ضمن أسلاكها بسبب الخصاص الذي يعرفه هذا الميدان.

*ناقد مغربي

[1] الرواية؛ ص16

[2] الرواية؛ ص80

[3] الرواية ؛ ص84

[4] الرواية؛ ص102

[5] الرواية؛ ص25

[6] الرواية؛ ص25

[7] الرواية؛ ص24

[8] الرواية؛ ص84

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.