الرئيسية | ترجمة | إيمك | إمبولو ميبى Imbolo Mbue | تقديم وترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

إيمك | إمبولو ميبى Imbolo Mbue | تقديم وترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

إمبولو ميبى  

تقديم وترجمة : د. محمد عبد الحليم غنيم

 

مقدمة :

 إمبولو ميبى / Imbolo Mbue، كاتبة أمريكية من أصل إفريقى فى الرابعة والثلاثين من عمرها هى الآن مصدر حديث المنتديات والمواقع الأدبية فى أمريكا وباريس على السواء، حيث صدرت روايتها الأولى (ها هم الحالمون)  Behold The Dreamers، فى الثالث والعشرين من أغسطس الماضى، باللغتين الانجليزية والفرنسية فى ذات الوقت، ومنذ ذلك اليوم والمراجعات والتحليلات للرواية لم تنقطع، وكذلك المقابلات مع الكاتبة الشابة إمبولو ميبى، والتى أنشأت فى يوم صدور الرواية  صفحة شحصية لها على موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك لأول مرة، والمثير أيضا أن الكاتبة تعاقدت على نشر الرواية منذ عامين مع دار النشر الشهيرة راندوم هاووس مقابل مليون دولار، ولعل هذا ما لفت الانتباه اليها فى بلدها الفقير الكاميرون فأصبحت حديث الصحف ليس فى الكاميرون فحسب يل فى معظم البلدان الإفريقية، أما موضوع الرواية الرئيسى فيتناول حياة أسرة فقيرة من الكاميرون (جيند جونجا و زوجته نينى وابنهما الصغير)  تهاجر الأسرة إلى امريكا لتحقيق الحلم الأمريكى، فى مقابل أسرة امريكية أصلية حققت بالفعل الحلم الأمريكى (السيد كلارك إدواردز و زوجته سيندى)، لكن تأتى الأزمة المالية العالمية عام 2008 لتحطم أمل الأسرتين معا فى الحلم الأمريكى. ليس هذا هو المهم فالرواية على الرغم من أن موضوعها هو موضوع الساعة أى الهجرة  (بقطع النظر إلى امريكا أو إلى أوربا)  إلا انها وهذا هو الأكثر أهمية  تتميز بقوة الأسلوب وإحكام البناء واستخدام لغة راقية وحوار متميز، كما أنها تعيد كتابة الواقعية السحرية باسلوب جديد كما تشير بعض التحليلات النقدية للرواية، ونقدم هنا (إيمك)  القصة القصيرة الوحيدة التى نشرتها الكاتبة فى العام الماضى، والقارىء لهذه القصة يلحظ  تمكن الكاتبة من فن القص واستخدام لغة مجازية راقية، على الرغم من أن هذه هى القصة الأولى لها، ولعل قراءة القصة يؤكد ما ذهبنا إليه.  

 

  إيمك

    قال له الطبيب إنه مرض الدم

    لم يسأل كثيراً، إنه يعرف عن المرض أكثر من بعض هؤلاء الذي حضروا لعلاجة. يعرف أن ذلك الدم بمثابة النهر للجسد . وكون ذلك الدم ملوثاً فإن جسده سيذبل سريعاً جداً ويموت مثل نباتات على ضفة نهر جافة . يعرف هذه  الحقيقة، لكنه لم يبد حزناً كبيراً لتلك الأخبار، ليس سوى تفاؤل ضعيف. بقيت أنا و بولاو إلى جواره فى تلك الأيام الأولى نراقب، بينما جاء الإخصائيون الكبار، دخلوا مثنى و ثلاث  وفى بعض الأوقات بما يكفى لتشكيل هلال حوله . طرحوا عليه بعض الأسئلة، عن شهيته ونومه وإخراج فضلاته، قرأوا ملاحظات مدونة فى ملفه الطبى، أنصتوا إلى نبضات جسده، همسوا إلى بعضهم البعض وغادروا الحجرة ورؤوسهم منكسة.  الدواء، الذى أدخلته الممرضات فى أوردة ذراعيه وظهره جعله ينام، لكن نومه كان خفيفاً . وقد انتهى تماماً عندما استيفظ ساخناً وغارقاً فى العرق، إثر كوابيس تغذت على المواد الكميائية التى  تم ضخها فى جسده . بعد أن يجفف نفسه بالمنشفة يمكن أن يحكى لنا الكوابيس، فى واحد منها كان قد قدم إليه كأس من الدم من يد بدون جسد وسئل بصوت طفل أن يشربها كلها فى جرعة واحدة ، و فى حلم كابوسى آخر شاهد رأسه فوق صينية وهى تضحك منه . على مدى أسابيع قليلة أصبح هزيلاً، ثم هيكلاً عظمياً،انهارت نفوس أصدقاؤه، و احتفظ هو بمعنوياته مرتفعة، ثم رفع من معنوياتهم أيضاً . عندما تركناه بكينا، لأننا قد رأينا على ذلك السرير رجلاً عقله وروحه بخير، لكن جسده قد فقد نصف محتوياته .

    وضع قاعدة  لكل من حضر لزيارته، لا بكاء . لأجل ما ماذا تبكون ؟  يسألنا مع ضحكة صغيرة .  نعم، لأجل ماذا تبكى، سألنا أنفسنا . هذا، وبعد كل شئ، كان إيمك . كان يمكن أن يكون معالجاً للأخرين ؟ لماذا لا يعالج نفسه ؟ أراد أن يصبح طبيباً لأنه كان على ثقة أن منح رجل صحة جيدة يوفر له  حياة تستحق البقاء .  الصحة الجيدة حق للجميع، يقول ذلك دائماً . إنها أكثر ما نحتاج إليه فى أفريقيا . يسليه الحديث عن مستقبل أفريقيا اعتماداً على المؤسسات  الديمقراطية المثالية . هذه الأيدولوجيات الغربية الخيالية لن تترسح أبداً بين أبناء شعوبنا، يقول ذلك دائماً . بالنسة لى، ليس كل الرجال متساويين فى الوزن . لذلك لايجب أن تتساوى جميع الأصوات الانتخابية فى الوزن . لأن العجوز أكثر حكمة من الشاب، لابد إذن أن تمنح أصواتهم للأكبر وزناً، و لأن الأغنياء أكثر نفوذاً من الفقراء،لابد أن تكون أصواتهم على قدر نفوذهم . لا ينبغى أن يكون كل هذا مسلما به و مجدولا، هكذا كان يجادل. وماذا عن العصبيات القبيلية التى تجرى عبر الأقطار الأفريقية الصغيرة جداً تتحكم فيهم  جميعاً ؟ مثل هذه العصبيات تدفع الناخبين إلى اختيار المرشحين ليس لميزة عقولهم لكن للاعتقاد بأن اختيار واحد من زعماء القبائل، يعد وسيلة مؤكدة للحصول على الطرق المسفلتة المؤدية إلى قرى الأجداد، ومن لا يريد ذلك ؟ نفاق الغرب، يسخر فى أى كوكب يتساوى كل الرجال ؟ حتى فى أمريكا هذا البلد العظيم. بلد الديمقراطية المثالية، الغنى يترفع على القفير والشاب تجاوزه الدهر، لذلك لا، يحب أن يقول، ما نحتاج إليه مرة أخرى لوطننا ليست الافكار الحكومة العبثية المستوردة الأفكار،  لكن فرصة العيش فى صحة جيدة و أن نحكم أنفسنا بالطريقة التى تناسبنا .

    أوه إيمك، إيمك الرائع

    لن نعرف الحياة بدونه قريبا، قلنا لأنفسنا. وأقنعنا بعضنا البعض أن مرضه كان مجرد انحراف شاذ. وقد أقنع هو نفسه والديه بذلك، قال لهم أن عليهم أن يبقوا فى الوطن وينتظروا زيارته قريباً جداً بعد أن يخرج من المستشفى . وربما بسبب الأمل الذى لدى الآباء فقط ،على أمل أن ذريتهم ستحافظ على نسلهم، أو ربما بسبب ثقتهما فيه، بقيا فى أفريقيا وقد فقدا فرصة مشاهدته وهو يقاوم هذا المرض الحقير .

    لكننى لم أستطع أن أفقد أية فرصة .

    كنت معه فى كل أوقات فراغى، جلست فوق المقعد على يساره وحدقت فى وجهه وهو نائم، انتظر حتى يفتح عينيه مرة أخرى. عندما فتحهما قلت من الذى حضر لرؤيته وما الأمنيات و الهدايا التى أحضروها له. فى أكثر الأوقات يومئ برأسه فقط ثم يعود إلى النوم، إلى ميدان الأحلام المرعبة، فى الأيام التى ظل  فيها متيقظاً، تحدثنا همسا  فى موضوعات تافهة : الحذاء الأرجوانى الذى كان يلبسه أحد الأطباء، طعام المستشفى الذى لا طعم له، قصة شعر بولاو الجديدة، مرضى الذى رقد بيننا، مثل حرائق الغابات فى أغسطس التى لا تتوقف . مع كل نظرة إليه يتسع قلبى، يستوعب جماله حتى فى حالته البشعة.  أتوق لخطفه والإمساك به وأطلب منه أن يأخذنى معه إن كان لا بد أن يرحل . فى أوقات أخرى أتوق أن أهرب بجسده المنكمش وأعالجه بالطريقة التى أؤمن بها . دائماً ما تمنيت أن يرانى جالسة بجوار سريره، وأن يشعر بشئ ما مختلف نحوى – شئ ما قريب مما أشعر به نحوه – لكننى استطعت أن أرى حتى فى عينيه المغلقتين ،أن ليس لذلك وجود . لم يكن لى حق المطالبة به . المرأة التى يمكن أن يكون لها حق المطالبة ، كل ما تستطيعه، أن تجلس فى سيراليون وتنتظر أخبار شفائه.

    لن تكون هناك مثل هذه الأخبار لأنه مات وهو نائم ذات ليلة ممطرة

    لقد استيقظت ذلك الصباح وأنا أرتجف من حلم لن أتذكره أبداً. أركب حافلة من المدرسة لى العمل ومن العمل إلى المستشفى ،شاهدت المطر يهطل فى اطئنان .  عندما دخلت إلى غرفته لم يكن هناك، للحظة قصيرة فكرت أننى رأيته يحلق فوق سريره، لكن فى اللحظة التالية لم يعد هناك، وبينما كنت أمشى نحو قسم  الممرضات لأسأل إحداهن أين يمكن أن يكون،  رأيت بولاو يركض فى الممر، يداه فوق رأسه وفمه مفتوحاً على أقصى اتساعه.

     رحل ! رحل !

    ماذا ؟ ماذا تقصد  يا بولاو ؟

     إيمك رحل عنا ! إيمك مات .

    بعد مرور عام مازلت أراه فى أحلامى ، يقولى لى ما تمنيت أن يقوله له فى حياتى . يمسكنى بالطريقة التى أرغب أن يمسكنى بها . فى نهاية كل حلم يغادرنى ليبدأ رحلة نحو بلاد، حيث كل شئ فيها مصنوع من الماء، أرى البلاد بعيدة، تتدفق إلى الأبد، جربت وراءه لكنه تحول إلى ماء ابتلعته البلاد . أصحو من هذه الأحلام وسريرى مبتل، أبكى لكن بدموع ليست صافية كالدموع التى بكيتها يوم رأيته فى نعش مزين فى مؤسسة تجهيز الجنازات  فى هارلم ،كانت تلك فرصتى الأخيرة للإمساك به ،لكن كل استطعت أن أعمله أننى نزلت على ركبتى .

     حضر والده لكى يأخذ جثته إلى قرية أجداده على بعد خمسين ميلا خارج العاصمة فريتاون، ذهبنا أنا وبولاو معه إلى المطار. فى الجزء الخلفى لعربة مؤسسة تجهيز الجنازات  يرقد إيمك متجمداً، و هو يبتسم . يرتدى البدلة التى لم يتخيرها أبداً لنفسه، معبأً فى صندوق وسط الثلج لرحلة بخمسة أرجل. أردت أن أمسك بيد بولاو وأبكى عليهما، كلما سرنا مبتعدين عن المكان الذى زرناه مع إيمك. لكن كل ما استطعت أن أعمله أن أمسح عينى و أنفى فى ذيل سترتى.

   على يمينى جلس والد إيمك يبدو شارداً مثل جدى كما كان فى ذلك اليوم على المحيط عندما دفن عمى . أردت أن أحكى لوالد إيمك عن جدى الذى بقى على قيد الحياة بعد دفن ابنه الوحيد، أردت أن أحكى له لكى أؤكد له أيضاً أنه سيحيى بعد موت إيمك لكننى لم أفعل . يتمزق القلب بطرق مختلفة و تختلف طريقة العلاج من إنسان إلى إنسان. فى بعض الأحيان ليس من الممكن أن تبقى على قيد الحياة فى مثل هذه المعاناة.

انتهت .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.