الرئيسية | فكر ونقد | أنيس الرافعي: نموذج التجريب في القصة القصيرة المغربية | أحمد لطف الله

أنيس الرافعي: نموذج التجريب في القصة القصيرة المغربية | أحمد لطف الله

أحمد لطف الله:

د. أحمد لطف الله

د. أحمد لطف الله

يرتبط اسم أنيس الرافعي في ذاكرة القصة القصيرة المغربية دائما ب”التجريب القصصي”، بذلك التذمر الفاضح للجاهز من الأشكال الأدبية، والانبهار الواضح بالمخلخِل للسائد منها، وهو الانبهار المشفوع بالبحث الدؤوب عن فرص تحيين الأدب القصصي، وهكذا كان من أبرز الملامح التي يمكن للمخيلة رسمُها للقاص أنيس، مُقته البالغ للسباحة في النهر مرات ومرات، وولعه بالتدفق مع مياه نهر الإبداع، ومداعبة الصخور العاتية للغة القصصية، والانهمار مع شلالات الرؤى الفنية. وأعتقد أن أعلى مراحل النضج الإبداعي في هذا الطريق الذي اختطه لنفسه تتجلى في عمله الموسوم: “اعتقال الغابة في زجاجة”، الصادر في طبعته الثانية سنة 2009.

الشركة المغربيةوليثبت أن فعل الكتابة أقوى من مفاهيم النقد والتنظير، فعل الكتابة الذي يعني الحياة، أصدر سنة 2011 مجموعته القصصية “الشركة المغربية للأموات”، وهي النصوص الهادية لمسلكه العميق في التأمل. ومنذ عبارة الإهداء، فإننا نزكي تصورنا المسبق عن معالجة موضوعة الموت الواردة في العنوان، يقول: “إلى أبي، المصطفى الرافعي.. الطائر الهائل الذي لم تمتلك الحياة الهواء اللازم لجناحيه”.

إذا لم تكن لدينا معرفة بهذا الرجل، فإننا حتما نحس هول الفاجعة التي شعر بها ابنه أنيس من جراء التباعد القاسي ما بين الرغبة والواقع. إنه الموت الرمزي، أخطر أنواع الموت، إن كانت للموت أنواع. وقد تحسَّس الرافعي الإبن رائحة شماتة الموت، فقاومه ولا يزال بفعل الكتابة الأدبية التي تمنح الحياة أريجا متألقا.

حقا، هناك أشخاص يأتون للحياة مبكرين، يصلون قبل أزمنتهم، فيحملون حداثتهم المرتقبة، فنية كانت أم غير ذلك، ويتيهون في حياة لا توفر لهم الهواء اللازم لرئة الفكر، وجناح الخيال، وحدوس الإبداع، وهؤلاء إما أن يكونوا ردَّة على حياتهم، أو نكوصا إلى أدغال ذواتهم.

أقول هذا، وأنا أجهل مصير المصطفى الرافعي، لأدخل بصحبة كناوة رقصة الموت، في هذه المجموعة القصصية.

في قصة “ثلاثة أحجار صغيرة في قاع النهر”، يحاول السارد الميت أو “المتظاهر بالحياة”، أن يستبدل نفسه بشخصية نص سردي يتعلق ب”يوميات السيد س”، وذلك بعد تردد طويل. في البداية، أدرك السارد أنه يتماهى إلى حد بعيد وبروفايل “السيد س” الذي يقوم برحلة سيزيفية يومية من مقر سكناه إلى مقرعمله، ويعلم السارد أنه شخص آخر غير السيد سين، لكن وطأة تشابه واقعه مع واقع السيد سين تجعل صاحبنا يتقمصه، ويحل محله على حين غرة، يقول: «ألفيتني ـ ولسبب لا يمكن تفسيره ـ كما لو أن كياني أصبح موصولا مباشرة بكيانه بواسطة قابس روحي، أحتل كل ميلمتر من جسده، وأستأنف الركض عوضا عنه»1. هكذا يترنح السارد في حلبة الواقع، هروبا من الموت الذي تغص به مظاهر الحياة. فيجد في التسلل إلى السطور، والحياة في السرد ملاذا وحشيا، يحشره مع “الملوك الغابويين”. فحياة الحافلة الكريهة والجسد المهزوم، والعمل الذي يدعوه السيد س “جريمة النهار”، وكل ما يمكنه أن يبعد الإنسان عن الحياة، جعل السارد شبحا وحيدا في الكون يركض دون تحديد وجهة ما، ولا حقيقة على كتفيه.

أما في نص “صحراء في الطابق الأخير”، وهو نص يحمل بنية دائرية، حيث يعود السارد أدراجه في نهاية النص للبداية، متلفعا معطفه الشتوي، ممسكا مظلته المشرعة اتقاء مطر يعزف أنشودته السيابية بغزارة، فإن سؤال الموت يُطرق بحدة حواس السارد وأفعاله. إنه سؤال فوري، ولحظوي. دائم وسريع التردد، لذلك فهو يمتزج مرة أخرى بالحياة، فالسارد يحيا ويموت في كل دقيقة. وتنتهي القصة، وقد مات السارد في غرفة الفندق بين سريرين، وغادر الفندق في الآن نفسه.

تؤكد هذه النصوص على علاقة الكاتب بالموت، وهي علاقة ذات منحى إبداعي، قد يسعى الكاتب من خلالها إلى تصفية أناه لصالح “أنا” ثقافي أكثر تألقا، أو يروم تقصي حقيقة هذه القضية الكونية المتعلقة بالحياة. أو لعله الولع بتدمير أساليب الكتابة القصصية المستهلكة، وقتلها عبر المحاورة الفكرية للموت. ولعل هذا الولع ما يزال يراود الرافعي، ويفتنه. ففي هذه المراوحة بين الأشكال القصصية المتباينة، يتجلى تداخل حس المغامرة الأدبية، بملكة الاحتراف في الكتابة. ويصدق على الرافعي هنا ما كانت تقوله العرب من أن فلانا “أصابته حرفة الأدب”.

إذا كان الموت هو ثمن الخطيئة، كما يقول كارل رانر، «فهذا لا يعني حتما أن الإنسان كان بإمكانه أن يحقق خلوده في الجنة. لأنه لولا الخطيئة، لَتطابق فعل الكمال الخلقي للإنسان مع موته، بعبارة أخرى، لن يكون الموت قطيعة، بل استهلاكا، ونضجا خالصا من الداخل للإنسان»2. فالموت إذن موازي للنقص، ومن هنا منبع الصراع الوجودي للمبدع معه. والكتابة الأدبية عموما، وفي أقصى حالاتها، سعي إلى سدٍّ ما ينقص العالم، من لبنات الكمال. وهي المحاولة السيزيفية، وعبثا يقترفها المبدع، واستمراءً منهُ يَدخُل لعبتها الممتعة.

هكذا كان القاص أنيس الرافعي، يحاول في هذه النصوص أن يجيب عن سؤال: “لماذا يحدث لي هذا؟”، وهو سؤال يستطيع السحر أن يجيب عنه أكثر مما يستطيعه العلم. لا بدّ من طقوس، وبخور وولوج عوالم روحانية، حتى يستطيع المرء أن يجيب عن هذا السؤال الضخم المفضي إلى الموت. فالقصة في هذه المجموعة لا تتقدم إلاّ مسنودة بعادات الملوك الكناويين، ومغموسة في دماء حالات انفصال الروح عن الجسد، أو تعاليها عنه.

أريج البستانولأن هذه الطقوس الروحانية، وما تثيره عوالمها الغريبة من غواية استثمارها حكائيا، فإن أنيس الرافعي واصل تنقيبه المثمر عن كائنات ترغب في مغادرة برزخها، كاشفة عن كل ما يستر عورتها، وهي تقدم لنا حكايتها وسيرة حياتها، هكذا أخرج أنيس من معطفه الإبداعي “دليلا حكائيا متخيلا”، موسوما ب”أريج البستان في تصاريف العميان”، سنة 2013. وتضم هذه المجموعة القصصية سبع قصص، لكل قصة باب يحمل اسما، ويفضي إلى سماء معينة. ويمكن اعتبار الباب هنا عنوانا رئيسا للقصة، كما أن السماء هي الفضاء العام المحايث لأحداث النصوص القصصية، ليأتي بعد ذلك العنوان المباشر للقصة. وتتلاءم هذه العناصر مجتمعة لتدعو القارئ إلى اصطحاب السارد في هذه الرحلة المراكشية المائزة. فباب “القطط” مثلا يولج القارئ إلى سماء من دخان، سماء لم تستوِ بعدُ، يلفها الدخان مثل عقل “عباس” الذي تلفه “ضبابة عمياء بسبب الحشيش”. وتزداد كثافة الدخان وحلكة الموقف في نص “مينوش” هذا، حينما يُقتل هذا القط الذي كان المؤنس الوحيد ل”عباس” الذي ليس سوى الفنان التشكيلي المغربي الراحل “عباس صلادي”، كما يشير السند المعرفي الذي وضعه الكاتب للقصة، وقد ذيّل جميع نصوص هذه المجموعة بأسانيد معرفية، تُنبئنا بالحياة الأدبية والفنية لبعض الأدباء والمصورين، أمثال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، والفنان الفرنسي جاك ماجوريل، مما يجعل قصص “الأريج” هاته تنخرط حتما ضمن القصة/البحث، والتي اجترحتها أقلام بعض القصاصين المغاربة منذ عقود، أمثال القاص أحمد زيادي، تأسيا بما أنتجته الرواية/البحث في التربة السردية الغربية.

لكن أنيس الرافعي لا يقدم هنا هامشا للبحث، بقدر ما يقدم الوجه الحقيقيي للحكاية، أو الحكاية الأصل للفضاء القصصي المتخيَل. إنه يريد في هذه القصص أن يُغامر بالانتقال من سماء إلى سماء، وهو يتبين مواقع قدمه حتى لا تزل، لذلك ينسج من قصص الفنانين والأدباء ما يجعلنا نغوص في أعماق تلك الذوات المبدعة، والشخصيات الفذة. ويتزود لهذه الغيبة بما يلزم من الرقيات والطلاسم لتحصين التأثير المرجو من القراءة. هكذا نشعر بلوعة الغربة التي كان يعيشها هؤلاء سواء في حياتهم الخاصة، أو داخل نصوص الرافعي، ف«الفنان الذي يعيش الصدق، ولا يملك التخلي عنه يعيش الغربة، وتزداد الغربة قسوة، عندما يحس بمعاول التخريب تدك كل ما يتصل بالحقيقة»3.

تتألق الكتابة السردية في هذه القصص، منبئة عن تمرس لغوي متمكن من إدماج الصورة الشعرية في البنية السردية للجملة، بسلاسة تضمن بهاء السرد، وجمال الشعر معا. يقول السارد في نص “ميت العصر/باب الآخرة” متحدثا عن شخصية “بن لحسن” طبيب الأسنان في الأسواق الشعبية: «بعد أن بارت حرفته وخذلته الأصابع التي كان ينزع بها الألم»4.

كما أن السرد في هذه النصوص يَخلق ببراعة، تبادلا جماليا للأدوار بين أهم أركان القصة، وهما الزمن والمكان، حيث يحتل الثاني مكانة الأول نظرا للقوة التعبيرية التي يحملها. فنجد السارد مثلا يفتتح نص “مينوش” هكذا: «سبب اللقاء الأول، نبش الفضلات وسد الرمق. ومنذ تلك المزبلة العمومية الواقعة على أطراف مدينة مراكش لم يفترقا أبدا»5.

إن مستوى النضج الفني في هذا المؤلف القصصي، يجعلنا منفتحين على استشراف المُقبل من أعمال الكاتب أنيس الرافعي، وكأنه هنا يشبه السندباد البحري الذي قال عنه عبد الفتاح كيليطو في كتابه “الأدب والغرابة”:«حج السندباد سبع مرات ثم جلس في منزله يحكي مغامراته. وبعد سبعة أيام لم يبق له ما يحكيه ولم يبق لشهرزاد ما تحكيه عنه، فيتوقف كل شيء ويتحجر الأشخاص في انتظار الموت»6. لكني أعتقد أن أنيس الرافعي بعد هذه الرحلة المراكشية، قد مرق من باب ثامن، وهو “باب خاطئ” مادام أنه «للمنازل العتيقة في مراكش بابان، الأول أمامي، للساكن، وهو صحيح، والثاني خلفي، للزائر، وهو خاطئ»7. ومن هذا الباب أتوقع أنه سيلج عوالم أخرى، وسيتحول إلى سندباد آخر يحمل كيسا جديدا من الحكايا. لأنه، وبتعبير كيليطو دائما: «ليس في الأفق ما يُنبئ بأن عهد “السنادبة” قد انتهى»8.

ثم ها هو القاص الرائع أنيس الرافعي يدعونا مرة أخرى لنتحلق حوله، ونستعرض شيق الحديث حول تجربته في حرفة الأدب، وقد فعل فعلته مرة أخرى بإصدار ما أسماه فوتوغرام-حكائي، وهو عبارة عن نصوص سردية تتجنّس في خانة القصة القصيرة، التي أدمن عشقها أنيس، دون أن يسقط في حبال أوهام التخصص. وكلما اقترحنا عليه داخل جوقة الأصدقاء استغلال طاقاته الحكائية في كتابة رواية، إلاّ وَأومأ لنا برأسه موافقا وقابلا للاقتراح، على الرغم من أن إيماءته تشي بعدم الاقتناع، فلا نكاد نلتقي مرة أخرى حتى يجيب أنيس على مقترحنا بغلاف مجموعة قصصية يبعثه لنا عبر صفحات الفيسبوك.

هكذا تطلع علينا هذه المرة مجموعته القصصية “مصحة الدمى”، في طبعة مصرية أنيقة، ورشيقة، تمسك بها فتبدو خفيفة على اللسان، يمكن أن تقرأها في سفر قصير بين مدينتين داخل أرض الوطن، لكنها ثقيلة في ميزان النقد الأدبي والفني كذلك، على أساس أنها من النصوص المجسدة للعلاقة بين السرد والفنون، وعلى الأخص فن الفوتوغرافيا.

مصحة الدمىوأن تدخل “مصحة الدمى” يعني أن تتعلم “لغة البكماوات”، فتصبح قديسا صامتا يتعمَّد كل ليلة في أرخبيل الوحدة، لتستطيع أن تتبع الخيطان الأساسيان في نسيج حكايات الدمى، وهما خيط الصورة، وخيط الإيهام الساحر. وهي عملية يسيرة نظرا لما يحمله الأسلوب القصصي من متعة اكتشاف عوالم سردية وفنية مختلفة، فالقصة القصيرة، نصيرة أنيس الرافعي ترحل به بعيدا في الأعماق الإنسانية، فيغدو لكل حركة أو نأمة ألف حساب. ولعل هذا ما يعطيني دائما انطباعا بأن كتابة أنيس تسير نحو كهوف المجهول، هي لا ترتد على أعقابها نحو الواقع، الواقع لا يعني شيئا بالنسبة لقاص يستطيع أن يدخل دُمية ويتحدث بدلا عنها، بل وقد ينهض جسد الدمية بفعل حركة القاص، وقد تصيبه عاهة أو ينشطر، فتصبح أجزاء منه في الدمية وأجزاء أخرى في جسد القاص، ولعل هذا الأخير يستمرئ كل تلك الحالات الرهيبة التي تحدث له، ويتلذذ بوجود جسدين له على السرير، ينهض الواحد منهما ويتأمل الآخر المستلقي والغارق في نومه.

لذا فإذا قررت دخول مصحة الدمى، فتأكد أنك لن تتمكن من الخروج بسهولة، ستعلق في حبائلها لا محالة، وقد تتحسس أطرافك لتستيقن أنها في أماكنها أم أنها بُترت في غفلة من جسدك، ستجد بها نصوصا مروية بضمير المخاطب، وستجد فيها نسخا كثيرة لكاتب أرجنتيني يُدعى أنيس الرافعي، وقاص آخر كولومبي اسمه أنيس الرافعي، وآخر مصري، وهكذا، وبالكاد قد تعثر على الكاتب المغربي أنيس، تائها في مصحة بين ركام أشلاء الدمى يبحث عن جسده الثاني. أقول هذا لأن أنيس كاتب رحالة، يُدمن الأسفار، أو هو كاتب “بحار” على حد تعبير الروائي المصري محمد الفخراني في كلمته على ظهر غلاف “مصحة الدمى”. وهو أيضا يعرف كيف يستفيد من أسفاره، إنه لا يُدون، بل هو يُرتق ذاكرته بالحكايا، ويجنح بها نحو أقاصي الغرابة.

 

1. أنيس الرافعي، الشركة المغربية للأموات، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى 2011، ص: 41.
2. قول كارل رانر هو من كتابه “علم لاهوت الموت”، مأخوذ من: قراءة في الرواية، للدكتور حسن المنيعي، مطبعة سندي مكناس، 1996، ص: 104.
3. حسن سليمان، حرية الفنان، هلا للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2002، ص: 24.
4. أنيس الرافعي، أريج البستان، دار العين للنشر، الطبعة الأولى 2013، ص:99.
5. أريج البستان، ص: 27.
6. عبد الفتاح كيليطو، الأدب والغرابة، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1997، ص: 98.
7. أريج البستان، ص: 95.
8. الأدب والغرابة، مرجع سابق، ص: 107.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.