الرئيسية | فكر ونقد | معصية ســعد عايــد البــــدر – ميرفت علي / سورية

معصية ســعد عايــد البــــدر – ميرفت علي / سورية

ميرفت علي

 

معصية ( ســعد عايــد البــــدر ) تُعيد الاعتبار للسيرة الذاتية العربية 

تنتمي رواية ( معصية ليلى ) للروائي الكويتي الشاب ( سعد عايد البدر ) و الصادرة عن دار ( نوفابلس ) إلى فئة التراجم أو السِّير الذاتية . والسِّيرة الذاتية نثريَّةٌ تتلقف تطورات الحياة الشخصية لأحد الناس فتُبرزها في جانب من جوانبها الأكثر سطوعاً، في تلاقحٍ و تعَالقٍ حميمين ما بين الواقع الصرف و الواقع المتصرَّف به ( التخييل )، الذي يعدُّ عنصراً تشويقياً أثيراً و مرتكَزاً داعماً لرواية السيرة الذاتية.

( معصية ليلى ) … ما يُلفت الانتباه أولاً مهارة المؤلف في تدبُّر عنوان روايته الذي يعدُّ مُدخلاً موفقاً إلى فضائها المغزول بخيط من حقيقة و خيط من رَياء ، مؤسساً لعتبة بيت رحبة تُغري بالولوج. فالمعصية والإِثم، الذنب والخطيئة ، وأشباهُها مفرداتٌ مُمغنطة و محفِّزات ذهنية تثير شهية أو حفيظة القارئ في ارتهانهِ أو في شجبهِ للقيود الاجتماعية و العُرفية و لشرائط المجتمع و شُرعته . إذ أوهمَنا الراوي أن لبطلة روايته ( معصية ) من النوع المرتبط بمعاصي النساء، كتعدي الخطوط الحمر في العلاقة مع الرجل، أو كامتهان المهن المخلَّة بالشرف و بالآداب العامة، فجعلنا ننجرف كقرَّاء وراء غواية العنوان، ولا يطول بنا الأمر حتى نكتشف لعبة الاستدراج التي دعانا إليها حكَّاء واثق من خياراته و استهلالاته، عارفٌ بأفانين البِدع والحِيل اللفظية، فمعصية المراهقة البُوسنية  ( ليلى ) الهاربة من أتون الحرب الأهلية في ( يوغسلافيا ) سابقاً ، لا تتخطى عقدة ذنب لازمت يفَاعتها و نُضجها: (مخالفة رأي الأم في الهجرة و الزواج )، مما يقودنا إلى مُدخل ثانٍ تجلى في اختيار موضوعة الحرب سمة القرن الحادي و العشرين، قرن النزاعات الإقليمية و الأهلية الطائفية بامتياز . إذ تتصدر روايات الحروب قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، سيما في شَرقنا الأوسط أشدّ البؤر تأزُّماً و تراجيدية.

و يبدو مستغرباً اختيار الراوي لبيئة سياسية غير عربية كمادة لروايته ، و إبرازهِ لتداعيات حرب ( البوسنة و الهرسك ) ، إذ انتشلَ الضحية ( ليلى صفوت أليتش ) من مستنقع اللجوء السياسي ، وواكبَ حياتها الفنية و الاجتماعية بعد انتقالها بصفقة زواج جائرة للعيش في الخليج العربي حيث ذاعَ سِيطها بين مشاهير الغناء و الطرب . فأجاد المؤلف في لَحْظ ( البؤس النفسي ) و في استبطان السريرة القلقة لبطلة روايته ، و ما تجذَّرَ فيها من افتقاد للأمان واكبَ نمو ( ليلى ) الجسدي و الفيزيولوجي و السيكولوجي و الفني …و ضبطَ الكاتب إيقاعاته التعبيرية و ملفوظاتهِ و تراكيبه بما يتناغم و تفكير المرأة و ذهنيَّتها ، و بما يعكس (عُذريَّتها النفسية ) و سمُّوها الروحي و تعفُّفَها عن الماديات في سعيها لإدراك بر الأمان، رغم عقدة التأثيم المرتبطة بـ ( غضب الأم ) و هجرانها في أحلك الظروف ، و مواراة حقيقة مقتل الأشقاء الثلاثة في مذبحة جماعية نفذَها مسلحون متطرفون في (سراييفو ) مسقط رأس ( ليلى ) العاصية العاقـّة.

ويُضفي الكاتب على مُنجزه الأدبي نوعاً جديداً من التوابل و المنكِّهات إذ يُعلن من ضربة القلم الأولى أن روايته هي عمل توثيقي لجانب من جوانب الحرب في ( سراييفو ) ، بطلتُها مطربة ما تزال على قيد الحقيقة ، وقائعُها مستقاة من مذكراتها الشخصية التي أعادَ الراوي صياغتها بأنساق سردية متناوبة بين ( ما قِيل ) و ( ما يجدُر أن يُقال )، بأسلوب تقابلي تواجُهي صِدامي بين الحقائق و التلافيق ، مما أفسحَ للنقد و للمحاكمة العقلية حيزاً كافياً في ذهن المتلقي ليبني استنتاجاته بخصوص شخوص الرواية بجلاء و يُسر دونما وصاية أو تدخل من الراوي .

و الراوي في تقابُليَّته السردية و تناوبُاته الحدَثيَّة يقدم إضافة و ابتكاراً غير مسبوقين في إنشاء و تسطير السِّيَر الذاتية . يُنبئ بفذَاذته . مع لحظ أنه انحازَ لواقع سياسي و شخصي أوروبيين رغم ما ينوءُ به المجتمع العربي اليوم من هموم سياسية و أمنيَّة ، عامة و فردية …لكن سرعان ما يزول عتب ( مزمار الحي الذي لا يُطرب ) و مبرراتهِ أمام كفاءة ( سعد البدر ) في إعادة إحياء مآسي الحرب اليوغسلافية  الأهلية التي امتدت ما بين ( 1992 ــ 1995 ) و استحضارِها كأنما وقعت بالأمس القريب ، و رشاقة و يُسر الانتقال من الشأن اليوغسلافي العام ( وقائع التهجير و الإبادة ) إلى الشأن الفردي الخاص ( سيرورة حياة المغنية الشابة ليلى ، و تمَظهُراتها ) …ليُعيد دمج المصيرين الوطني و الشخصي معاً في بوتقة الانتماء الأصل و استرجاع الجذور .

و طرحَ الراوي نسَقاً من الثنائيات المتضادَّة : ( ظلم و عدالة ، حقيقة و زيف ، واقع و حلم ، جشع و قناعة ، شر و خير ، معصية و فضيلة ، خوف و أمان ، ثراء و فقر )

في موقف نقدي بَيِّن و جليّ لأخلاق الناس السائدة ، فأدانَ رعونة الحرب و سفالة تجَّارها ، و تكالُب الطفيليين /الذين أثروا من ورائها/ على الحياة ، و تضحيتهم بالغالي و بالنفيس لبلوغ موطئ قدم في عالم السلطة و المال. و عرَّى كارثة الانفصال على أسس طائفية و عرقية عن الوطن الأم ، و خيانة إخوة التراب و الدم . و ما خلفتهُ الحرب و خَبْطِها العشوائي من فجائع عائلية و فردية مُؤسية و مخزية ، فأحدثت الرواية تأثيراً بالغاً في وجدان القارئ ، و تعاطفاً نبيلاً مع شخوصها لا يبرأ منه أعتى الناس و أشدُّهم صلابة .

و من المواقف المشهودة التي أوردها الكاتب في تقصِّياته لمآسي ليلى و أفراد عائلتها ما يلي :

ـــ رصد اضطراب أمومة الوالدة في انتظارها العبثي لعودة أبنائها الشهداء إلى المخيم

ـــ توثيق صراع الفتاة اليافعة مع نفسها و تشظّيها بين إخبار أمها بالحقيقة و تحمُّل تَبعاتها ، و بين مُواراتها حرصاً على توازُنها النفسي

ـــ بيع المراهقة نفسها بصفقة زواج جحيميَّة طائشة ، هرباً من فجيعة التشرد و الجوع

ـــ رصد مأساوية اللقاء بين البطلة و أمها على فراش المرض ، و ما استدعاه من مكاشفات و مُطارحات أليمة ، و تثبيت لعقدة الذنب

ـــ رصد مأساوية اللقاء بين البطلة ووالدها ( محضَ صُدفة قدرية ساخرة ) ، و قد عادَ إلى تصعلُكه و تشرُّده و امتهانه مهنة مسح و تلميع الأحذية ، سيما حين ينكبُّ الأب بحماس أملاهُ عليه فقرهُ و جوعه على تلميع حذاء زوج ابنته ، دون أن يتعرف لا على ابنتهِ و لا على زوجها .

و تحفل الرواية بمآسٍ إنسانية و بمرارات في غيرِ مكان من تسلسُلاتها الحدثية ، بما لا يدعُ مجالاً للقارئ أن يلتزم الحياد تجاهَ ما يقرأ ، بل سيتأثر شاءَ أم أبى بالقُبح الاجتماعي و بدمامته ، و بالتقزُّم و التفسُّخ القِيَمي ، شاجباً الطمع و المادية و الحطّ من قيمة المرأة و منزلتها ، و تَسليعها و ابتزازها عاطفياً في عُمق أمومتها . إنها الرسالة الاجتماعية و الأخلاقية التي يبثُّها الراوي للمتلقي معيداً الأولوية لكرامة الإنسان و لحقّه في تقرير مصيره .

هذا على صعيد المضمون و المعنى

أما في الشكل و المَبنى

فنحنُ أمام منهج سردي يقود إلى ابتناء قصصي أصيل، و بُنيان حدَثي يطَّرد و يتنامى بعفوية متأرجحاً بين المُعلن و المَخفي ، و المفضوح و المستور …يتكئ على ( الاسترجاع الزمني ) فينطلق مسار الوقائع من نقطة زمنية جدُّ قريبة من الخاتمة ( الخطف خلفاً بلغة الفن السابع ) ، يضاف إليه غموض الخاتمة و مُراوغتها ، و انفتاحها على التكهنات و التأويلات الشخصية ، و التفنن في تعرية العالم الداخلي لبطلة الرواية ( ليلى ) ، و لحظ ذبذباتهِ و تَواتُراته ( تسلسلات الوقائع النفسية أو الاستبطان )

مُجمل ما تقدم يصنف في مُسمَّى ( الحداثة و التجريب و عَصرنة السرد)

أما اللغة ( حاملة السرد ) فتهادت رشيقة ، مِطواعة ، بعبارة أوضح : فُصِّلت لتخدم بأمانة منظومة الأفكار و الأحداث : لا شططَ فيها يستدعي الملل ، و لا نُقصان يُنبئ عن خلل .

خاتمة : و أخيراً …

إذا كانت رواية السيرة الذاتية في أبسط تعريفاتها هي ( حَكْيٌ استعاديٌّ نثريٌّ يُنبئ به شخص عن وجوده الخاص و تجلِّيات حياته الفردية ) و من أهم شرائطها : تصريح الكاتب بأنه يدون سيرة ذاتية ، و تركيزه على أبرز جوانبها ، و استخدامه لآلية السرد الاسترجاعي ، و استدعاء الذاكرة ، مع حتمية تدخل الخيال و اندفاق تياراته ، و السفر عبر الزمن رواحاً و مجيئاً .

فقد حققت ( معصية ليلى ) للروائي المقتدر ( سعد عايد البدر ) شروط نجاح ( السيرة الشخصية ) ، و ارتكزت على مقومات بُنيوية و تَخييليَّة فانتازية و فنية تُصنِّفها في طليعة الروايات الناجزة المائزة ، و انتماءُ مؤلِّفها إلى جيل الشباب يجعلُنا مطمئنين على حاضر الرواية العربية التي أضفى عليها الراوي اجتهادهُ الخاص ، و أعادَ إلى هذا اللون المَنسي في الأدب العربي الحديث وَميضهُ و بريقهُ و اعتباره .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.