الرئيسية | فكر ونقد | محمد بنيس يكتب عن الشِّعْرُ والتَّصوُّفُ اليَوْم

محمد بنيس يكتب عن الشِّعْرُ والتَّصوُّفُ اليَوْم

ثمة اليوم سؤال مستعجَل هو : كيف نضعُ حداً لثقافة التعصب والكراهية والتكفير في العالم العربي ؟ ليس السؤال جديداً ولا الحيرة التي يعبر عنها عابرة. فهو ظهر على إثر حدَث الحادي عشر من سبتمبر، وكانت الولايات المتحدة هي التي بادرت إلى طرحه، لأنها كانت أول طرف معني بمواجهة التعصب الديني باسم الإسلام. ومنذ ذلك الحدَث أخذ السؤال يتسع ويتعقد، مع اتساع وتعقد واقع التعصب. وفي كل لحظة، من لحظات الأزمة، كانت الأجوبة عن السؤال تتراءى لهذا الطرف أو ذاك، دون أن تنطفئ نار الحيرة.
لا يعْنينا الآن أن نقوم بجرد لمختلف الأجوبة التي تبلورَتْ، ولا الأطراف التي سعَت إلى البحث عن الأجوبة. لكن الجواب العام، الذي يُوصي اليوم بضرورة نشر ثقافة التسامح والانفتاح، يقف على تخوم التصوُّف، لأنه يعثر فيه على الجواب المبحوث عنه. فالتصوف، بالنسبة لأنصاره، مبنيٌّ على التسامح مع الآخر ومنفتح عليه. بهذه الرؤية الفكرية، ذات النفحة الروحية، نجده في مختلف الثقافات والحضارات القديمة. وعندما نجح المتصوفة في المزج بين التجربة الصوفية والشعر استطاع التصوف أن يوصل رؤية التسامح والانفتاح، التي يقوم عليها، إلى فئات مختلفة.
2.
حقاً، نشأ التصوف على أساس أن الخطاب الديني استعارة في المقام الأول، وفي ضوئها يمارس المتصوف قراءته ويبني منظومته ورؤيته المفتوحة على اتساع التأويل. من هنا يكون التصوف ثقافة مخصوصة، على هامش ثقافة الفقهاء، كما يسميها ابن عربي، أي على هامش ثقافة الذين يفهمون الكلام الديني فهماً حرفياً. والتصوف، من ناحية ثانية، تجربة جسد حيّ، يختار حياة من الزهد في السير على الطريق نحو سماوات الروح والارتفاع إلى مقامات الكشف والتجلي، أو إلى مقامات الوقفة والمخاطبة مع ذات المطلق، حسب تسمياته في ثقافات. هذان العنصران، الاستعارة والتجربة الروحية، يفتحان التصوف على الشعر، مثلما يفتحانه على الموسيقى والرقص.
نعثر على العلاقة بين التصوف والشعر في الديانة البوذية، كما في الديانات الإبراهيمية الثلاث، مع اختلاف بينها في طبيعة التجربة. ولنا في الثقافة العربية ديوان شعري، كتبه متصوفة مسلمون عبر العصور، في مقدمتهم الحلاج (858 ـ 922) وابن عربي (1164 ـ 1240). وفي الفارسية هناك جلال الدين الرومي (1207 ـ 1273). وعلى غرار هؤلاء جميعاً نجد جان دولا كروا (1542 ـ 1591)، الإسباني في الثقافة المسيحية، باعتباره الشاعر المؤسس لتجربة استثنائية في الشعر الغربي. أما في الثقافة البوذية فلا شك أن الياباني باشُو (1644 ـ 1694) هو المعلم الأكبر.
كل واحد من هؤلاء المتصوفة له رؤية للوجود يستقل بها ضمن الديانة التي يعتنقها. على أنهم جميعا يلتقون في الميل إلى الوحدة، وغالباً ما يبتعدون عن أن يكون لهم مريدون أو أتباع. وما يؤالف بين الشعراء المسلمين ودولا كروا المسيحي هي فكرة الحب، الذي هو عند ابن عربي “مقام إلهي”، ويصل إلى مرتبة الدين عندما يكتب في أبياته الشهيرة “فالحب ديني وإيماني”. الحب هو مفتاح رؤية الوجود لديه، حيث تنتفي الحدود بين الديانات الإبراهيمية والوثنية على السواء. فلا يبقى في قاموس ابن عربي سوى كلمة واحدة هي الحب التي يخفق بها قلبه، “فما في الوجود إلاّ محبٌّ ومحبوب” كما كتب. وما نعرفه عن تجربة الحب لدى جلال الدين الرومي تخرج إلى المحال.
بانتخاب “الحب”، بما هو مفتاح الحياة وسر الوجود، أعطى التصوف للمجتمعات العربية والإسلامية مبادئ أخلاقية، تعالج من أمراض التعصب والحقد والكراهية. كلمة تطوف في فلكها أخلاقُ المودة والرحمة والكرم والألفة والوحدة، ومنها توقد مصابيحُ اليقين والإشارة والمعرفة والكشف والمجالسة. هي أخلاق سرَتْ في جسد المجتمع ووجهت، برفق ولين، سلوك الأفراد تجاه بعضهم البعض. لا أحد يتجرأ، في ضوء هذه المبادئ، على اتهام أحد في عقيدته أو إيمانه، كما لا أحد يفكر في القصاص ممن يمكن أن يأتي معصية.
3.
لا بد من الانتباه إلى أن التجربة الشعرية لدى الشاعر الفارسي جلال الدين الرومي، والشاعر الإسباني جان دولا كروا، والشاعر الياباني باشو، قائمة الذات، حيث التجربة الصوفية هي نفسها التجربة الشعرية. تطابق لا انفصال فيه بين التجربتيْن. هذا التطابق لا يتوفر في التصوف العربي. فجميع المتصوفة العرب، أو الذين كتبوا بالعربية، كان لديهم وضوح بأنهم ليسوا شعراء، ولكنهم يستعملون الشعر للتعبير عن تجربتهم (أو عن رؤيتهم) الصوفية. ووجود الفرق بينهما يعود إلى طبيعة ومكانة التجربة لدى كل من الشعراء والمتصوفة.
التجربة الشعرية عند العرب سابقة على الإسلام، متماهية مع اللغة، ويعيشها الشاعر كبحث لا نهاية له ولا قرار. ولم يغير الإسلام شيئاً من هذه الوضعية الخاصة بالشاعر. ومن مبادئ التصوف أن المتصوف يصدر عن اعتقاد راسخ في مبادئ الدين الإسلامي، ويسعى نحو الوصول إلى الله، المحجوب، الذي”هو الأول والآخر والظاهر والباطن”. تجربة المتصوف، من هنا، روحية خالصة، وسعيه هو السير على الطريق التي يكتشفها في هذه التجربة من أجل اللقاء والاتصال بالذات الإلهية.
نادراً ما يُفهَم الاختلاف في وضعية كل من الشعر والتصوف بين الثقافة العربية وبين غيرها من الثقافات. وهو ما يؤدي إلى الوقوع في التباسات لا نعرف كيف نعثر على مخرج من إغراءاتها. إن ابن عربي صاحب ديوان شعري، جمع فيه بين القصيدة والموشح، ومع ذلك لا يعتبر نفسه شاعراً، وفي الوقت نفسه لم يقم نقاد الشعر القدماء بتصنيف شعر المتصوفة ضمن المتن الشعري أو اعتباره مصدراً للشعرية العربية. هذا الموقف يصبح واضحاً عندما نقرأ الشعراء الكبار في العصر العباسي، أبو نواس وأبو تمام والمتنبي وأبو العلاء المعري ، أو عندما نقرأ أشهر كتب الثقافة الأدبية، في مقدمتها كتب الجاحظ والمبرد، أو كتب النقاد مثل قدامة بن جعفر وابن طباطبا والآمدي وابن رشيق، أو كتب تراجم الأدباء مثل “الأغاني” و”معجم الأدباء” لياقوت الحموي.
4.
انطلقت حركة النهضة بالتخلي عن الشعر الصوفي الذي كان سائداً في العالم الإسلامي، ولم يحتفظ أحمد شوقي من هذا الشعر إلا بقصيدة “البردة” للبوصيري التي قام بتقليدها. كانت العودة إلى الأصول لدى التقليديين ذات معنى سلفي، ينظر إلى التصوف والثقافة الصوفية نظرة ريبة، لأنها ثقافة الخيال التي تجانب العقل الشرعي.
لكن الثقافة الصوفية عادت إلى الثقافة العربية الحديثة، وإلى الشعر أساساً، من خلال شعراء الرابطة القلمية في أمريكا، وفي أعمال جبران خليل جبران أكثر من سواه. ففي أعمال هؤلاء الرومانسيين العرب عثر الشعر الصوفي على منفذ يسترجع من خلاله الحق في الحضور وفي التجربة الشعرية. في أعمال جبران تجاوبٌ وتكاملٌ بين مفهوم الحب في كل من الإسلام والمسيحية. ومن خلال هذه الشرارة الأولى أصبح للخطاب الصوفي وضعية تختلف عما كانت له في السابق، إذ تحوّل إلى تجربة أدبية، منفصلة عن بُعدها الديني. وفي أفق كهذا أصبح الشعر يبني لحمة منظور جديد للمجتمع العربي، ولتاريخه ومستقبله، من خلال أسبقية اللغة على الدين في بناء الخطاب الأدبي.
وبعد بداية انطفاء الحماسة للأسطورة اليونانية، أخذ الشعراء العرب المعاصرون يعيدون اكتشاف الخطاب الصوفي شيئاً فشيئاً. كان صلاح عبد الصبور ملتصقاً بالحلاج في قراءة سياسية، كما في ديوانه “مأساة الحلاج”، قراءة تقاوم الظلم والطغيان، ثم جاءت تجربة أدونيس، الذي اكتشف كتاب “المواقف” للنّـفّري، فتعامل مع خطابه النثري باعتباره “كتابة”، تمزج بين الأجناس، وقرأه في ضوء فهمه الخاص للتخييل؛ ثم تراجع عن ذلك كله عندما قرأ الصوفية العربية في ضوء السوريالية، التي لا صلة لها بمفهوم “الكتابة”. وبنفس عناية كل من صلاح عبد الصبور وأدونيس، اتجه عبد الوهاب البياتي، بعد يأسه من الحلم الشيوعي، إلى ابن عربي.
5.

علاقة “التصوف بالشعر” في القديم انتقلت مع العصر الحديث إلى علاقة “الشعر بالتصوف”. وهما متباينان من حيث الفكرة والنسق النظري. كان المتصوفة العرب القدماء يفيدون من الشعر، أما في العصر الحديث فإن الشعراء هم الذين عادوا للتصوف. ونحن إذا أردنا أن نبقى أوفياء للحدود المعرفية التي وضعها القدماء لكل من التصوف والشعر، لن يكون بوسعنا أن ننظر إلى المتصوفة باعتبارهم شعراء ولا إلى الشعراء باعتبارهم متصوفة. فالمتصوفة في القديم شكلوا جماعة تصدر عن مرجعية دينية، سواء لدى أصحاب الديانات الإبراهيمية أو البوذية، أما الشعراء الحديثون فقد اكتشفوا التصوف من منظور الحداثة الشعرية الأروبية، منذ غوته. والتصوف في هذه الحالة تجربة باطنية (حتى لا نحصرها في كونها تجربة روحية) تتجسد في الرؤيا، التي هي مرتكز اللغة الشعرية.
لن أسأل عن المكانة التي يوجد فيها التصوف لدى العرب اليوم. تلك مسألة أخرى. ما يشغلنا أكثر هو معرفة ما الذي يمكن أن يفيده الشعر اليوم من التصوف، وبأي معنى يمكن للشعر أن يحمل قيم التسامح مع الآخر والانفتاح عليه. هي ملاحظات هامشية، تنفذ من بين شقوق الكلام. وفي هذه الملاحظات ما يكفي من الإشارة إلى مخاطر اختزال مطلب سياسي إلى مطلب شعري، دون مراعاة الزمن الثقافي والوعي بخصائص الخطاب.
أظن أن الشعر الصوفي يملك انفتاحاً في المعنى نحتاج إليه في مقاومة الخطاب الديني، الذي أصر على المعنى الحرفي للقرآن والحديث، وها هو اليوم لا يدري كيف يتخلص من ثقافة التعصب والحقد والكراهية التي زرعها بنفسه. لكن إعطاء الاعتبار للشعر الصوفي قديماً لن يساعدنا في شيء إن نحن تناسينا الزمن الذي نعيش فيه. لا أقصد من هذا أن النص القديم محاصر بمعناه القديم. لا، بل القصد هو أن الشعر الصوفي القديم يحتاج إلى تأويل حديث، يعتمد المعارف الحديثة. أما الشعر الحديث فهو تجربة لغوية بالأساس، طريقها هو المجهول الذي تحافظ القصيدة عليه، من خلال ما يوجد على هامش ثقافة الاستهلاك والمنفعة. تلك رؤية نقدية، أفقها هو القادم، المستقبل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.