الرئيسية | فكر ونقد | في مديح الانتحار: داء الحياة | عزالدين بوركة

في مديح الانتحار: داء الحياة | عزالدين بوركة

عزالدين بوركة:

 

إن الحياة هي أقصى وأقسى العقوبات التي نُدان بها نحن بني الإنسان… إنها فعل تعسف على كل البشر. وفعل قهرٍ وعفس من لدن قوى الطبيعة علينا، فأنتَ لا تأتي بكامل إرادتك وحريتك، إنك إن جئت إليها تأتي صاغرا مجبرا بلا أي مقاومة.. بلا أي إرادة..

*****

إن الحياة هي ذاك المرض العضال الذي لا يفارق جنسنا، فعلينا التخلص منه بأي طريقة، إنه مرض نصاب به منذ ضربة الحظ الأولى، إذ ما نحن سوى احتمال صغير وقع بلا أدنى تدخل منا ولا أية موافقة. إننا نُجبر على أن نكون.. لهذا نحن منهوبو الإرادة..

علينا أن ننهي الأمر سريعا، علينا أن نتخلص من مرضنا المزمن: مرض الحياة. التخلص أي الرحيل بشجاعة، الرحيل إلى حيث اللاعودة، أن نعود كما كنا أول مرة، مجرد جزء من الاحتمال الأكبر الذي أصابنا بمرض الحياة، أن نصير ذرات وفقط لا غير، بلا أي أمل في العودة، نحن احتمال وقع وعلينا التخلص منه (منا)، نحن وباء وقع وعلينا القضاء عليه (علينا).

الانتحار وسيلتنا الفضلى لذلك، بل وسيلتنا الوحيدة لذلك، هو أملنا الوحيد للخلاص. الخلاص من أي شيء؟ من أنفسنا، من دائنا وشرورنا، من مرضنا ومنا. كم أحسد المنتحرين ! أبغض نفسي لأني لم تصل بعد الشجاعة بي مكملَ القوة للرحيل، قد أكون عقدت حبلا يوما ما لفعل ذلك، ولكن لسوء الحظ لم أحظ بفرصة الخلاص..

*****

هذه الأجساد التي نلبسها هي مرتع الشرور، هي مختبر الدمار الشامل، والسجن الذي نُحاكم به طيلة حياتنا. فلهذا علينا التخلص منه وجعله يعود إلى أصله الأول، إلى الاحتمال الذي جاء بنا إلى ها هنا. ها هنا أي الحياة أي الوجود، الوجود أي الألم. ما معنى الوجود؟ تبا ! لا معنى له… إنه الشيء الأكبر الذي لا معنى له… لهذا نوهِم أنفسنا بالفن، لنصطنع وجودا، أو لنستشعر وجودا، أو لنرسم ونسمع ونقول ونحس وجوداً. ثم ما الفن؟ لعله مجرد حبة أسبرين مؤقتة وقصيرة المدى والمدة، إنه فعل تناسي المرض العضال الذي نحن مصابون به: الحياة. ليس الفن خلاصا من شيء إنه فقط محاولة لصنع معنى، وكلما صنعنا معنى جديد نتوهم أننا وجدنا طعما للوجود.. فأي نعم نحن موجودون، ولو يصعب البرهنة عن ذلك أحيانا، إذ ومن يدري لعلنا مجرد صورة افتراضية لاحتمال رياضي في حاسوب خارق للعادة، أو ما أدراني لعل إلهً ما يُعاقبنا بالوجود. ثم ما الإله؟ كم يبدو هذا السؤال صعبا.. إنه الكائن الوحيد الذي يفعل ما يشاء في كامل السرية.. يُحدث من يشاء سريا، ينزل إلى الأرض سريا، يوجد في مكان سري، يفعل أشياء سريا، يخلق كائنات سرية، ويحدد مصائرنا سريا… كأننا مطاردون سريا، بل إننا فعلا مطاردون.. إننا فاقدو الإرادة… لهذا علينا التخلص من أي شيء يربطنا به، علينا الانتصار عليه، علينا أن نحرمه من التلذذ بمصائرنا، علينا أن نتركها في كامل وحدته: علينا أن ننتحر.

*****

الانتحار ليس علامة عن فشل ما أو خوف من شيء أو فقدان شيء، الأمل مثلا، فنحن لا نمتلك شيئا أصلا لنفقده. نحن معدومو الإرادة والفعل والمصير، إننا نوجد بلا أي شيء، نوجد فقط ليتمتع الإله بوجودنا، بحروبنا، بممارستنا للجنس، بآلامنا، بدعائنا له، إننا لا نوجد إلا لنمتع كائنا سريا، لعله يضحك عاليا كلما مات أحد منا أو لأقل كلما قتل أحدنا الآخر… لهذا الانتحار ليس فشلا بل هو خلاص من أن نكون دمى مصابة بمرض الحياة.. فمتى نعلن أن الانتحار واجب إنساني.. أن نعلن أنه فعل إنساني؟ بل هو أقصى الأفعال الإنسانية وأفضلها وأرحمها.

****

تبا !! إننا مدانون بالحياة. إننا نموت كل يوم كل ساعة كل دقيقة، بالإيمان بأشياء نحن نصنعها، نحن نهبها قداسة، ونهبها روحا ميتافيزيقية علية، ونهبها قوى خرافية خارقة، إننا نهب الحياة لأشياء لتهبنا هي بدورها الحياة.. نجعل أنفسنا رهيني تلك الأشياء… نجعل أنفسنا عبدة تلك الأشياء.. نجعل أنفسنا موتى ينتظرون الموت… والموت هي وسيلة الإله ليصير خالدا، إنها انتصاره علينا، ولأننا فانون وموتى جعلنا للإله الحق في الخلود ليهبنا الخلود. إنه خالد لأننا شئنا أن يكون كذلك، ونحن خالدون لأنه من سيهبنا الخلود الذي وهبناه إياه. فلهذا علينا أن نتخلص من وهم الخلود الذي نحن من خلقناه، علينا أن نتخلص منه نهائيا لنستريح، علينا أن ننتحر…

****

ثم ما هذا الانتحار الذي نتحدث عنه؟ بكل بساطة هو أبسط شيء وفعل يمكن أن نقوم به ونتحدث عنه..  لا يتطلب سوى جرعة زائدة من الشجاعة وقرار حكيم للتخلص من داء الحياة.. إنه الفعل الأكثر عقلانية من بين الأفعال التي يقوم بها البشر، بل هو أقصى درجات الاستيعاب والفكر والفلسفة… إنه وسيلتنا إلى العدم، إلى الراحة الأبدية من كل ما اقترفناه من آلهة وشرور ووجود..

*****

الانتحار: الموت بشرف تام.

الانتحار: التخلص من داء الحياة.

الانتحار: الانتقام من وجودنا التعسفي.

الانتحار: امتلاك إرادة نفتقدها.

*****

إننا نتناسل لنموت !

*****

الموت هي فكرة بشرية في الأصل تحولت إلى فكرة إلهية، ثم صارت سلاحا بيد الإله يهددنا به، بل إنها قوته الوحيدة لأنه أدرك -بعدما أملكناه كامل الإرادة-  أننا نخشى الموت، أننا لا نودّ أن نموت، إننا نريد الخلود، الخلود بهذا الجسد الذي نمتلكه، فكل من لا يحتمل جسده يود الموت ويرغب فيها -وليس بالضرورة الانتحار. فالانتحار ليس رغبة في الموت بل هو ممارسة الموت وفعل الموت قبل أن تتمكن الآلهة من ذلك.. قبل أن تتمكن من الانتصار… الانتصار علينا طبعا… لماذا؟ ليس لأي شيء، فقط لأننا لم نمتلك القدرة والاستطاعة والقوة للتغلب على الموت… ولم نمتلكه، تركناه في يد الآلهة، ليكون بابنا إلى الخلود الذي نطمع فيه بقوة، نرغب فيه.. ولا نرغب في الخلود إلا لنتلذذ بهذا الجسد… الجسد مكان كل شرورنا.. ولأننا لا نستطيع التخلص منها، فقط لأننا نحبها وحيا بها، ونستلذها.. نريد أن يظل هذا الجسد خالدا معنا لا يفنى، بل نريده في أقصى قوته الجنسية كامل الشباب والعضلات والطول، نتخيله كمحارب وفارس يستلذ بالقتل والجنس… لهذا نحن ننتظر الموت ونرغب فيها وأملكناها للآلهة لتهبنا الخلود والجسد… ولكن إننا نتوهم وعلينا أن نذرك ذلك، علينا أن نستوعب ذلك، أنه السماء زرقاء فقط وتعمّرها النجوم (مصنعنا) وأننا لا محالة ذاهبون إلى العدم.. العدم حتفنا الوحيد..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.