أنس علوي
قال أرسطو:”إنّ الرجل الحكيم لا يبحث عن اللذة، ولكن عن التحرّر من الألم والهمّ”. وإنّ هذا لَحَقّ. فلئن سَعَى الإنسان وراء مِرْطِ السعادة، وشمّر عن ساعدَيْهِ لبلوغ ذُؤابِها، وثَنَى إليها العزائم لا يلوي على شيء، وما يَعُوجُ عن أمر من الأمور إلاّ ما يُحقّق له الظّفر بها، وكَدَّسَ الأموال ظنّاً منه أنه بذلك قد بَلَغَ مَطْمَحَهُ منها. بيد أنّها كلّما تَجَلَّتْ سُرعان ما انقشعَتْ، وأينما بانَتْ مَخَايِلُها طُوِيَتْ، ولا رأى منها هذا المسكين -الإنسان- غير سراباً مَأفوكاً. فأُسقِطَ في يده من أمرِ هذه السعادة حتى تَغاضَى عنها، ومَنَحَ جَنْبَهُ غيرها، وكم هو في حاجةٍ إلى ما يُفَرّجُ كُربتهُ، ويُنسِيهِ شُؤُونَهُ.
فحالُنَا اليوم كما قال إروين إدمان:”إنّنا نعمل من أجل الفراغ، ونندفع من أجل السَلام، وليس العمل حُلْواً ولا السّعيُ هادئاً، وإنَّ إِضْعَافَ الحيوِيَّة يَفُلُّ أجنحة الشباب، كما يَعُوقُ القوّة والنّماء. وحَضْرَةُ الثُّقَلاءِ تبعث السأم في الحديث وتجعله ممجوحاً. وإنّ قبحَ شوارعنا وبيوتنا ومدننا لهو إعاقة واقعِيّة لما يجب أنْ يكون مَسَرَّةً وبهجةً دائمة لو شئنا الكلام على النّحو المثالي”.
وأرى أنَّ حَلَّ ذلك في هذا العصر، أنْ يعود الإنسان إلى فطرة اللّهوِ، وغريزة الضّحِكِ التي لاَقَى فيها ما يُشفِي غمومه، ويُذوِي همومه. وإنّ عبارة غريزة تستوحشها قلوب البعض، وما تستسيغها آذانهم لِمَا يبدو لهم فيها من الرجوع إلى العصور القهقرى، وما تحمله من معاني البدائِيَّةِ والبداوة. وَلْيَعْلَمْ هؤلاء أنّ الله ما {أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ} إلاّ لتنعموا بها. فكانت غرائز الإنسان أسمى من التي عند الحيوان، أسْنَعَ فَضْلاً، وأَنْفَعَ طائلاً. وهذه الغريزة –غريزة المرح والهرج والمرج، والظّرافة والتفكّه، إنّما هي كما قال الشاعر:
لَوْ عَدِمَ اللُّطْفُ بِهَا سَاعَةً ** لَعَادَ صَفْوُ العَيْشِ مِنْهُ كَدَرْ
وافعل ما قاله آخر:
أَفِدْ طَبْعَكَ المَكْدُودَ بِالجِدِّ رَاحَةً ** يَجِمُّ، وَعَلِّلْهُ بِشَيْءٍ مِنَ المَزْحِ
وَلَكِنْ إِذَا أَعْطَيْتَهُ المَزْحَ، فَلْيَكُنْ ** بِمِقْدَارِ مَا يُعْطَى للطَّعَامِ مِنَ المِلْحِ
وخذ إليك بما يدعوك إليه ثالِثٌ:
أَمَا لَدَيْكَ حَلاَوَهْ؛ ** أَمَا عَلَيْكَ طَلاَوَهْ؟
طَايِبْ وَدَاعِبْ وَلاَعِبْ ** وَدَعْ سَجَايَا البَدَاوَهْ
فَإِنَّ أَوْحَشَ شَيْءٍ ** جَسَاوَةٌ فِي غَبَاوَهْ
وإنْ وجدتَنِي مستشهداً بالشعر، مكثرا للأمثلة، فليس المأرب من ذلك الإمتاع وحسب، وإنّما ليكون مَوْلِجاً مستطاباً لما نحن بصدد التكلّم والخوض فيه. ألاَ وهو الأدب الفُكاهيّ؛ فإنْ عادَ الإنسان إلى فطرة اللّهو والمرح والضّحك، فعليه أن يصنع لنفسه ما يُحقّق له بُغيته، ولا رَأَى خَيْراً من الأدب يجعله كذلك، وسمّاه الأدب الفكاهي، وهو ما يدخُلُ في طوقه الملهاة والطرفة والنكتة الأدبية والملحة والنادرة…إلخ. فوجد في هذا الأدب مبتغاه ونَوَالَهُ، ووجد فيه ما يَسلِكُ به في مُرادِهِ المَسَالِكَ القريبة، ويختصر عليه الطريق، ويُلخّصُ له ما تَرومُهُ نفسُهُ من أسباب المرح والتشويق.
رغم ذلك، فإنَّ لهذا الصنف من الأدب منتقدون، وإنْ صحّ القول إنّما هم بالمعادين، وليسوا بالمنتقدين. وحسبُنا من كلامهم أن نقرأ قول “لامرتين” (Lamartine)، إذ يقول:”إنَّ شعباً جادّاً لا يؤسس شعره على الهزل، والجديّة في كلّ شيء جزء من الجمال، الإنسانية ليست ضرباً من التهريج”.
وإنّما بعضُ العكس فيما قلته هو الصحيح يا “لامرتين” لو كنتَ تقلّب الأمور شتّى المقالِبِ، وتنظر إليها من مختلف زواياها، فإنّ أشَدّ الأمراض العُضَالِ، والآفاتِ العُقَامِ، الجدّ المُفرط فيه، والتّعبيس وجَلد الذّات، وتمضية نفائِسِ الأوقات في الأنِينِ على كُلُومِ القَدرِ، والثّكَلِ على نَوَائِبِ الدّهرِ. ولو ألقى “لامرتين” نظرة خلفه لَوَجَدَ هَرَمَ الأدب الفكاهيّ شامخاً باذخاً، أثِيلَ الجذُورِ، عَمِيقَ المَرمَى، إلى جانب سائر أنواع الفنون والآداب. وممّن شيّدوا هذا الهرم موليير من بني جلدته، وسبقه الجاحظ من بني جلدتنا نحن. وإنّ هؤلاء هم مَن بلغوا ذروة هذا الهرم الذي وضع أسسه وركائزه الأولى الإغريق والرومان، وقد قال أبوليوس في مدونته:”…لقد جمعكم في المسرح حِرْصٌ محمود… إذا ما عَرَضَ عليكم فنّان لوحات إيمائيّة ضحكتم. وإذا رقص بهلوانيّ فوق حبله ارتعدت فرائصكم خوفا عليه. وإذا ما شاهدتم كوميديا هزلية صفّقتم. وإذا حاضركم فيلسوف، تثقّفتم”.
أترى أنهم ينزلون الجدّ منازله، ويضعون الهزل مواضعه؟ إنّ إطلاق “لامرتين” حُكْمَهُ المتسرّع البارد:”إنّ الإنسان لم يُخْلَقْ للضّحك.” يتنافَى والفطرة الإنسانية التي فَطَرَ الله النّاس عليها {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} (أو وهبته إيّاها الطبيعة لو شئتَ أيها الملحد) فأنَّى له أنْ يَهْجُرَ فطرته تلك، وغريزته التي تستروح بها نفسه، إذْ وجد الدعابة المضحكة عِلاجاً ناجعاً يبدّد هواجسه، ويَلِجُ به جوّاً مِلْؤُهُ اللهو والعبث واللاوقعيّة، فتغدو آلامنا وتباريحنا إنْ هِيَ إلاّ أضغاث أحلام.
فالأدب الفكاهيّ إذن، يقوم بوظيفة تطهيريّة؛ إذ ينزع عن النفس أدران الإحباط الذي يَغْشَاهَا، ويَحْدِرُ عن القلوب الرّان الذي يَعْرَاهَا. ويؤكّد التوحيدي على أهمية الضحك حيث يقول:”إيّاك أنْ تَعافَ سماعَ هذه الأشياء المضروبة بالهزل، الجارية على السُّخف؛ فإنّك لو أضربت عنها جُملةً لَنَقُصَ فَهْمُكْ، وتَبَلَّدَ طبعك، واِجعل الإسترسال لها ذريعة إلى إحماضك، والإنبساط فيها سِلْماً على جِدِّك؛ فإنّك ما لَمْ تُذِقْ نفسك فرح الهزل، كَرَبَهَا غَمُّ الجدّ، وقد طُبِعَتْ في أصل تركيبها على الترجيح بين الأمور المتفاوتة؛ فلا تحمل من الأشياء عليها، فتكون في ذلك مسيئاً إليها”.
إنّ الأدب الفكاهيّ لا يقتصر على الإضحاك والضحك، والغرض منه إمتاع النفوس، وتفريج الأحزان. وإنّما التهذيب والإصلاح، والنّقد المُلَطّفُ الرّفيق، النقد الذي لا يخدش كما الهِجاء والتقريض. يرى الرومانتيكيّون -من أمثال شوبنهور ولامرتين- أنّ في الألم والوجد الإحسَاسَ الذي يُوَائِمُ النفوس السامية، ويَدْرَأُ بها عن سفاسف الأمور، ومن هنا وضعوا الحزن والكآبة -في الأدب- في مرتبة العمق. ولستُ أخالفهم في ذلك كُلّ الخِلاف، ولكنني أرى أنّ الضحك والأدب الفكاهيّ أكثر عدلاً من أدب المآسي والمِحَنِ والملاحم. لأنّ أحياناً، مأساة شخص ما -وإن يكن متخيَّلاً- قد لا يدرك المتلقّي مَدَى عمقها، وأغوارَ غَيَاهِبِهَا، لأنه لم يَبْلُو تلك النّازلة، ولا تعرّض لمثلها قطّ. إذ كيف للغنيّ المُتْرَف أنْ يُحِسَّ بمأساة الفقير النّقير في قصة من القَصص، وهو لم يخرج من قِمْطِ غناه مرّةً، ولا رَمَقَ من الفاقة والمَترَبَة ذَرَّةً، كما تُرى الحباحِبُ في اللّيالي الدّامسات؟ وكيف لمَنْ يَنْعَمُ بالتفاف الأهل عليه، ونمنمة العيال حوله، أنْ يُدرِكَ خوالِجَ اليَتِيمِ؟! وأنّى لمَنْ عاشَ مٌستغلِقَ الفؤادِ، متبلّد القلب، أنْ يُحِسَّ بمَن خَبَلَ الحُبُّ عقله، وتَيَّمَ روحه؟!
بَيْدَ أنّ الأدب الفكاهيّ يستهوي الجمهور، وإنّ مَرَدَّ ذلك إلى بداهة المواقف، وبساطة القصص، التي تجعل الفكاهة -رغم بساطتها- تصل إلى أغوار الفِكْرِ والمشاعر المتضادّة المتباينة، حيث تخلِقُ وئاماً شاملاً بين أناس تفاوتَتْ طبقاتهم، وتباينت مآربُهُمْ، وتقارعت مصالحهم، واحتدم بينهم الخِصَامُ في أمور السياسة والأخلاق.
ولكن ما يدفع المتلقّي إلى الضّحك؟ هكذا يفسّره شوبنهور:
“الضحك بوجه عام حالة من حالات السرور، فإدراكنا الناقص بين الفكرة والإدراك الحسّيّ يَسُرُّنا ويُمتِعُنا، ولذلك نسترسل في الضحك، ويحتوينا السرور الذي يثيره هذا الإدراك، وسبب ذلك أنّه في هذه المعركة الفجائية بين ما أدركناه بالحِسِّ، وما كَوَّنَّا عنه فكرة يعقد النّصر للإدراك الحسّيّ… وهذا الإنتصار الذي تناله المعرفة الحِسّيّة على الفِكْرِ يَمْلَأُ نَفْسَنَا سُروراً.”
سبب الضحك السّار عند شوبنهور هو انتقام البداهة من التفكير المجرّد. ولكن حُقَّ للمرء أنْ يسأل: أليس العقل هو سلاحنا الذي نرتع به في هذه الحياة، ونعتمد على أحكامه، ونثق ببياناته، ونتشبّث بعُروَتِهِ؟ فكيفَ لنا أن نطمئِنَّ ونحن نَشْهَدُ مصرعَهُ وقد عُلِّقَ أَوْهَاقَ المنيّة، ولم يترك لنا سوى عيوبه وأخطائه وعجزه؟ هذا بالذات هو باعِثُ الأسى الذي يخالِجُ نفوسَنا، ويؤنّب ضمائرَنَا في السخرية والملهاة، والذي يبعث على الفكاهة الأدبية مَسحَةً من اليأس، فيتّضح لنا أنّ سبب الضحك وباعث السخرية هو ذلك الإزدواج في طبيعتنا بين الفكرة والبداهة، بين العقل والعاطفة، فسرورنا بانهزام العقل وانتصار العاطفة والحِسّ يُثير الضحك، ضحكٌ كئيبٌ:
ضَحِكْتُ فِيهَا وإنّي قدْ بَكَيْتُ بِهَا ** فَالجَهْلُ أَضْحَكَنِي وَالعَقْلُ أَبْكَانِي
وقول المعرّي: