الرئيسية | فكر ونقد | المتمرِّد بالكتابة على الكتابة! |محمد عيد إبراهيم

المتمرِّد بالكتابة على الكتابة! |محمد عيد إبراهيم

يُعدّ إدوار الخرّاط مثالاً نموذجيّاً على تلك العلاقة المركّبة ما بين العشق والكتابة، فهو صريع الكتابة، والكتابة صريعة الكاتب، وكلاهما صريع العشق الكامن بينهما، بين موجب وموجب، لا بين موجب وسالب، كما في معظم علاقات العشق العادية، فكلّما ازدان الكاتب للكتابة ازّيَّنَت له، فمنحته من نفسها الكثير، فهو يراودها تارةً، فتراوده تارةً، في دائرة لا تكتمل أبداً: الكاتب يشتدّ ويتكثّف، والكتابة تُقبل وتروغ من دون إدبار، بل تدعو وتُبحر، وهو يغوص في البحر، لا يهمّه الغرق، بل ينشُد الغرق، ففي ظلّ اسفكسيا الغرق، تنتشله الكتابة ليستروح أنفاسه من جديد، حتى تستمتع بما لدى المريد من طاقة، عليها وإليها.

لا يملك الخرّاط ناصية اللغة فحسب، بل ناصية السرد أيضاً، فهو يلعب بالرؤية محلّ الموضوع، بصورة لم يملكها إلا قليل، وهو كان، دائماً، على يسار الكتابة، مع أنه ظلّ شطراً كبيراً من حياته على يمين السلطة، لم يكن يوائم، لكنه لم يكن يناهض، بل يلعب لعبة فنّيّة رائقة، حيث يكتب، ويخزّن ما يكتب، إلى حين، فقد أصدر مجموعته الأولى «حيطان عالية» أواخر الخمسينيات، وبعدها، بسنين، مجموعته الثانية «ساعات الكبرياء»، حيث لم يكن يرى أن الوقت مواتٍ لطرح ما يطرح، فقد كان السرد الواضح، ومثاله المعلّم الأكبر «نجيب محفوظ»، مسيطراً، على الرغم من اضطهاد صاحبه أيضاً؛ فقد كان الزمن- ظاهرياً- لليسار، مع صمته وسكوته البليغ عن يمينية السلطة غالباً، بل وقهرها لكلّ من يملك الرأي المناهض.

لم يصدر الخرّاط أولى أعماله الفارقة «رامة والتنّين» إلا في أواخر السبعينيات، حيث ظهرت جماعات أدبية متمرِّدة نسبياً: (إضاءة)، و(أصوات)، فوجد الوقت مواتياً لطرح ما قد يبلع كثيراً من السرد الروائيّ حينها، وكان في قمّة سعادته، فعليّاً، حين نجحت الرواية في تلقّي الثناء، عليه وعليها، وأنا رأيته وقتها، وكان عرّاباً لجيل السبعينات، يراه، ويكلّمه، وينتقده، ويجلس معه، بل يوجّهه، أحياناً، في درب قد خَبِره من قبل، ويشجّع بعضاً منا على الخوض فيه إلى ما لا نهاية.

حلّ زمان، كان الخرّاط فيه السيّدَ في الرواية، والقصص، والترجمة، والنقد أيضاً، لكن الدروب تشعّبت فيما بعد، ولم يعد وحده مَنْ ينتهك اللغة والسرد والرؤية، بل صارت ثمّة أجنحة كثيرة، ضدّه، وهي دورة الزمن البليغة التي لا ينبغي أن نغفل عنها، لكلّ فترة سيدٌ يصول ويجول في الأدب، ثم تدور الدوائر، ويعود الأمر لمن يتجرّأ أكثر، ويغامر أبعد، ويطرح صروفاً من الإبداع مختلفة، ووسائل للخلق مبتدَعة وخليقة بأن تستمرّ إلى حين، حتى تغلبها إبداعات أخرى، وطرائق جدّ مختلفة، مختلقة عمّا سبق أن أقرّه المجتمع الأدبيّ السائد.

يقول الخرّاط في كتابه المهمّ «الحساسية الجديدة»: «الكتابة الإبداعية اختراق لا تقليد، استشكال لا مطابقة، إثارة للسؤال لا تقديم أجوبة، مهاجمة للمجهول لا رضى عن الذات بالعرفان»، لكنها، في طرح تقنيات «الحساسية الجديدة»، نراه يستوعب عدّة تقنيات شاعت في أوروبا وأميركا، من أواخر الخمسينات حتى الثمانينات، سواء من جماعة «الرواية الجديدة» في فرنسا، أو «البيت جينيريشن» في أميركا، أو السيرة الفاضحة أو الإيروسية، كما عند هنري ميللر وغيره، أو الكتابات المتشاعرة لدى بارت، وباتاي (وكان رائداً في الكتابة عنه والترجمة له عربياً، أواخر الخمسينيات، قبل أن يتوفّى باتاي)، ومَن بعدهما مِن نقّاد فرنسا وألمانيا، أو طروحات الناقد الأميركيّ من أصل مصريّ إيهاب حسن، في كتبه التي أنشأت ما أُطلِق عليه «ما بعد الحداثة».. إلخ. لقد كان واسع الثّقافة فعليّاً، لا أقول إنه كان مجرّد «ناقل»، بل هو مستوعب هاضم ومتمثّل، بدرجة عالية، بل مضيف- أيضاً- من (عنديّاته) الكثير، وقد أحدث هذا الكتاب دورات ورقرقات وتجلّيات في الوسطين الثّقافيّين: المصريّ، والعربيّ، فترةً، كعادة الزمن في تقليب كلّ شيء، ثم قلبه على وجهه، بعد حين.

لا ينبغي أن نغفل دور الفنون الجميلة كافّة في أعمال الخرّاط، سواء الإبداعية أو النقدية، فقد كتب في كلّ شيء، من واقع استيعابه لدور هذه الفنون في صناعة جملته أو (جميلته) الرشيقة، المنيرة، الحسّية، العالية، المشحونة بالخطاب المعرفيّ العليم، أو تقنيات الإيروسية غالباً، حتى لتجدك تستطعمها في فمك، أحياناً، بمذاق لا يروح سهلاً، أو الكتابة من روح مصرية خالصة، قبطية أحياناً، لكن، من دون طائفية.

كتب الخرّاط في الموسيقى وفي المسرح وفي الباليه و- طبعاً- في الفنّ التشكيليّ، كأنه يردّ الروح التي يكتب بها إلى أصولها، استمع إليه يقول: «تعصف الوحشة، ثقيلة مع ذلك، ولها وطأة، فهل تضمحلّ أبداً؟»، ويقول «هذا الصمت خيانة، أنت وحدك لا صوت لك، لا حبّ لك، وفي بؤرة هذا الحبّ نواة الخيانة المحتومة»، ثم يقول: «كنا نخدع قلوبنا بالرؤى حول الصخر الوحشيّ، الطّالع من أجواء الأنواء البحرية، وزَبَد الروح المتقلِّب»!

من غمرة الشعرية المموسقة في كتابات الخرّاط، قام، أواخر سنيّ إبداعه، بقصّ المقاطع الشعرية من رواياته، وأفرَدَها قصائد، نشرَها في دواوين، بعد غلبة قصيدة النثر على الأوساط الثّقافية، لا، بل تسيّدها غالباً، مهما رأينا من تهافت بعضٍ ممن يكتبونها، إلا أن ثمّة مجيدين يرونها صنماً جميلاً، يزدانون به. كذلك، كتب الخرّاط كتابين عن سيرته الشخصية، والإبداعية، في آن واحد، فلم يكن «غوركي»- مثلاً- ذا حياة شخصية خارقة، بل هو مبدع كبير، حياته من أدبه، وأدبه من حياته، والعشق للكتابة يتراوح، هنا مرّةً، وهناك مرّةً، بينه وبين المستحيل: كتب «مراودة المستحيل»، ثم نشر «مهاجمة المستحيل»، وكلاهما نمطان من السيرة الفكرية لصاحبها، كما رسم، في أواخر سنيّه الإبداعية، أو أبدع في فنّ الكولاج الذي لم يكن بعيداً عن طرائقه الإبداعية.

ثمّة أشكال وإشكاليات عدّة، في الكتابة عن إدوار الخرّاط، فقد ضرب بجناحيه في كلّ شيء: روايةً وشعراً وقصصاً وترجمةً ومسرحاً وتشكيلاً وسيرةً.. إلخ. كان عماده تلك الثّقافة المنوّعة الكثيفة، والتي تتبدّى في كلّ عمل، بل في كلّ كلمة راح يكتبها. يقول في سيرته: «كيف انطلقت، دون تورّع، مع جُماح هذا التمرّد؟ فالتمرّد، وهو أحد سمات الأدب الحداثيّ، أفضى بي إلى البحث عن حقيقة ملتبسة، ما زالت مطروحة للسعي، وللاكتشاف، ولمزيد من التمرّد».

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.