الرئيسية | أخبار | إيقاظ خلايا القصيدة قراءة في ” برشاقة أكروبات ” لسامح درويش | عبد الله المتقي

إيقاظ خلايا القصيدة قراءة في ” برشاقة أكروبات ” لسامح درويش | عبد الله المتقي

عبد الله المتقي

%d8%b3%d8%a7%d9%85%d8%ad-%d8%af%d8%b1%d9%88%d9%8a%d8%b4

 

” أكتب في غفلة مني ،

لكيلا أعكر مزاج القصيدة باستعارات فاسدة

سامح درويش

_____

بعد تجربة قصصية ” هباء خاص ” 1999 وثانية  روائية ” ألواح خنساسا”2004  ، يأتي الديوان الخامس لسامح درويش ” برشاقة أكروبات” 2015 ضمن منشورات الموكب الأدبي ، على امتداد 76 صفحة وتزين غلافه لوحة للتشكيلي اليزيد خرباش .

ويعد هذا الديوان لحظة شعرية مهمة في مسار هذا الشاعر الذي خبر جغرافية الكتابة وسقوف مجازاتها ، واحترقت أصابعه بما يكفي من نار القصيدة، مما استوجب الوقوف والإنصات إلى هذه التجربة التي عرفت امتدادا زمنيا في تاريخ الشعر المغربي والعربي ، وبذلك تكون قصائد الديوان تصورا متشعبا للفعل الكتابي، وحصيلة تأمل تحول إلى هاجس في الكتابة وإعادة الكتابة ، ومما يعضد هذا الهاجس فعل ” أكتب ” كلازمة تفتح شهية القارئ قي مفتتح كل قصيدة من الديوان ، والذي خبره سامح درويش في تجربته ، وبذلك يبني قصيدته  داخل القصيدة  في النص، ويكتب قصيدتين  في قصيدة  واحدة.

بهذا المعنى تفتح قصائد ديوان : برشاقة أكروبات” أزرار قميصها لبناء القصيدة داخل القصيدة ، وللقلق، والمتعة ، والسؤال ، والسخرية ، ومواجهة القدامة الشعرية المنغلقة بذخيرة حية من المجازات والاستعارات غير  المنتهية الصلاحية .

        اختار الشاعر ” برشاقة أكروبات ” عنوانا لهذه التجربة ، الذي تحيل مكوناته لغويا إلى الجمال والحسن والخفة والطرافة  ، كذا تحيل إلى اللعب الغريب  والإدهاش والحيل  ، وتلك نفسها الكتابة وعينها ، لعب وإدهاش واستفزاز إيجابي ، والشاعر  لن يعدو أن يكون لاعبا ماهرا  في أراضي الشعر ، وطفلا يلعب باللغة والخيال خارج السرب ،  وبداخل ورشة شريعتها الاهتمام بالقيم الجمالية والاهتمام الدقيق بالقصيدة ولغتها ،   بصورة تكاد تقشرها وتعيد طلاءها من جديد وكما ينبغي أن تكون لا كما هي كائنة ، وكل هذا بقصد إيقاظ الخلايا الشعرية النائمة ، يقول الشاعر :

” ” أستدرج قمرا في تمام الكمال ،

كي أكتب مدي وجزري في قصيدة عذراء .” ص 70

فما القصيدة التي يبحث عنها الشاعر ويلاحقها في هذه الباقة من القصائد ؟ أو بالأحرى ما هي عذابات المعنى في قصائد  “برشاقة أكروبات ” ؟

        إن المتتبع لتجربة سامح درويش يلفت انتباهه أنها خارج الانغلاق والتقوقع المعرفي ، كما أن خريطة طريقها الشعرية طريقتان، طريق افتضاض التصور التقليدي ، وهو نقد مطلوب وعاجل ، والثاني تشييد لخطاب غير مألوف ، وبذلك لا يكف الشاعر عن تأمل تجربته ومراجعتها عبر المحو ، يقول الشاعر :

” أكتب ببلاهة ،

فتلك مكيدتي في محو ما تبقى مني ،

وتلك إغماضاتي الواقيات

كي أتحاشى فراشات ترفرف حول بقع الدم” ص 6

يؤكد الشاعر في هذا المقطع الشعري الدال  بصوره الفنية أن الكتابة ” مكيدة ” ، وأنها ” محو” و”إغماضة”  ، ولا شك في أن هذه الدوال  تقول الشيء الكثير ، حيث الكتابة الشعرية لم تعد مقيدة ومنغلقة على نفسها  وفق شريعة نقدية ثابتة ، بل تنطوي على حساسية شعرية جديدة ، من رحمها ينبثق بوح إنساني يشير بألم جارح إلى الموت من خلال  ” أتحاشى ، الدم ” ، إنه بوح  يعري جراحات الروح من جهة ، كما يعري  صخب هذا العالم الذي أصبح محترفا في صناعة وعولمة  ثقافة العنف المادي والمعنوي  .

ويصاعد فعل المحو لنقرأ للشاعر :

” أكتب .. وأنسى ما كتبت ،

كأني الريح وكأن الحياة كثيب الخيال ،

أمر ولا أثر ” ص 59

بهذا تكون الكتابة عوالم للنسيان الذي يعني المحو ، وخروجا بالمعرفة من اليقين ”  ، من أجل قصيدة الولادات الجديدة ،  ولحظة هدم من أجل بناء أفضل ، و”خلاصا من الكفر “حسب نيتشه .

وإذا كان الحب بلسم الحياة، ويملأ الدنيا والخلق ويثري المخيلة ، فهو عند الشعراء نكهة متميزة ومتفردة ،  وعوالم ضخمة من المعاني، وآفاق بسعة أحلامهم ، إنه المحفز  على أجمل الاستعارات وأبهى المجازات ، وقد يتحول إلى كعبة وشريعة ، يقول الشاعر   :

” خطوي على رمل المجاز بالقلب أنجزه ،

 لكني بمحض هبوبي أتلفه ،

على دين العشق أمشي على نبضي ،

فلا أرى من خطوي سوى بوارق مولده ، ” ص 59

لا يتوقف الحب عند  حدود معينة أو صور محددة ، بل يتجاوز ذلك إلى شراكة وميثاق بين الحبيبة والذات الشاعرة ، وكذا تحويله إلى طاقة جديدة قادرة على فعل الإنجاب، في محاولة لجعله قمة في الجمال نقرأ للشاعر في ص 30:

” وأي شعر أدعيه ،

إن لم تصدق حبيبتي أنا شريكان فيه ،

ولم تصدق أن القمر ،

معا في ليلة صيف من قبلة أنجبناه ”  ص

وعلى الرغم من هذا اللعب والشغب الجميل مع قصيدته المسكونة …  ،  إلا أن الشاعر ريثما ينظر إليها  بكثير من الخوف عليها ، ساعيا إلى ضمان استمرارها في حياة النص كي يضمن لها الخلود ،  أمام هذه الرداءة الشعرية التي أصبحت متداولة  بعدد أنفاس الخلق ورقيا ورقميا :

” أكتب في غفلة مني ،

لكيلا أعكر مزاج القصيدة باستعارات فاسدة ،

ومجاز منتهى الصلاحية ،

لكيلا ألوث مجرى الفطرة في الكلمات ” ص 9

في هذا المقطع يجتهد الشاعر ويحرص على تجنيب قصيدته كل ما يمكن أن يمسخها إلى ما يشبه قصائد رداءة أحوال الطقس التي توحي بها كوكبة من التعبيرات ” أعكر مزاج القصيدة ، استعارات فاسدة ، مجاز منتهى الصلاحية ، ألوث ” ، ولعل هذه التعبيرات السالبة ما هي في الحقيقة الأمر سوى إعادة إخراج القصيدة ، وسقيها في كؤوس جديدة .

ويذهب الشاعر مرة أخرى إلى مقاربة فعل الكتابة الشعرية باعتباره قرينا للنور الذي يستخلصه من فداحة الظلمة كقول الشاعر :

” مغمض القلب ،

أكتب معصوب الأحاسيس،

حتى أني تعلمت

أن أقطر من الظلمة نوري

كي أرى ما بداخلي ..ليس أكثر” ص 5

حيث تمسي الكتابة  أشبه ما تكون بمختبر عبر الدال  ” أقطر” ، وكذا كشفا لأعماق وأغوار  الذات الشاعرة ” كي أرى ما بداخلي ” ، وبذلك يكون معنى الكتابة منقذا محتملا من فكرة الظلمات، وخروجا بالقصيدة إلى النور .

وبالنسبة للعب الشعري أو لنسميها خدعة اللعب ،  نقرأ  للشاعر :

” أكتب برشاقة أكروبات ،

أمشي على حبل المجاز بكل ثقة واتزان

وأنا ألاعب دوائر الكلمات ” ص 33

ينبع هذا اللعب من الشغب الجميل الذي يعكس ثقة الشاعر  ” ثقة وبما يكتب من مجازات واستعارات  ” أكتب على حبل المجاز بكل ثقة واتزان ” ، كما يعكس تلك الأناقة والرشاقة في مقابل الرداءة التي أصبحت تملأ الورقي والرقمي في زمن القمل الشعري ” أكتب برشاقة أكروبات ” .

أما قصيدة  ” ببراءة طفلة ”  فتنفتح على الطفولة ،  بيد أنها طفولة المغرب المهمشة   :

” أكتب ببراءة طفلة

تقف جنب الطريق بين المدينة والبلدة ،

تعرض للبيع لبن الماعز والأرانب ،

وتمنح الزبائن العابرين حبات نبق بالمجان ” ص 39

ولعل جملة ” أكتب ببراءة طفلة ” تشتغل في إطار تماهي فعل الكتابة لدى الشاعر مع براءة الطفولة بعيدا عن مكائد وفخاخ الكبار ، وتلك هي “القصيدة  طفولة ثانية ” حسب ” شارل بودلير”

وجملة القول، إن سامح درويش  مسكون بالقصيدة الباذخة ، يكتبها برشاقة وأناقة ، عبر الإنصات إليها، بالانسجام مع رهان الكتابة الجديدة التي تبني القصيدة بالقصيدة ، عبر تقشيرها وتلمظ قلقها المر، باعتماده زواجا أبيض بين اللعب الماكر والسخرية المتهكمة ، والمفارقة المستفزة إيجابيا ، وبناء القصيدة داخل القصيدة  وبمعاناة عمال مناجم الفحم :

أكتب بإصرار عامل بمنجم للفحم ،

خوذتي لغتي ،

وعلى جبيني أحمل حلمي شكلة مصباح ” ص 35

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.