الرئيسية | سرديات | نسيان: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

نسيان: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

أصيبت جدتي  الرائعة عيشة حدو بمرض الزهايمر سنوات قبل وفاتها. نسيت أبنائها وبناتها ونسيت اسم جدي لكنها تذكرت كل حكاياتها وهي بنت في بيت أبيها في العشرينات من القرن الماضي. تذكرت أشعار تلك المرحلة، الأغاني التي كانت تغنيها مع صويحباتها عند السقي والحطب وتنظيف المنازل. كانت متعتها هي أن تصدح ونحن مجتمعون بأغان جنسية تغنى للبنت ليلة زفافها. أغان تعلم البنت كيف تمنح نفسها للزوج وكيف تنهي وصلة الفض بأقل خسائر وفي أقل وقت ممكن.

كانت متعتنا أن نتحلق حولها ونسمع حكاياتها، حكاية زواجها الأول في سن الثالثة عشرة وكيف قفزت من النافذة هربا من زوجها الذي دخل في موجة غضب عارمة لأنه لم يأخذ بكارتها بعدما دفع فيها صداقا وخسر ماله في عرس كبير. رفضت جدتي العودة إلى بيت الزوج. كانت البنت الوحيدة لأبيها وكانت مدللة ودافع عنه أبوها ضدا على إرادة أخويها.

كانت جدتي تحكي عن شاب من القرية. كان يشتغل بالمدينة ويعود خلال العيد الكبير. كانت تسترق النظر إليه من نافذة تاناماست. لم يبادلها النظرات لأنه لم يراها لكنه ظل معششا في قلبها سبعين سنة وكلما حكت عنه لاحظنا اضطرابها وحمرة وجنتيها. حكت في أواخر حياتها أن ذلك الشاب تقدم لخطبتها بعد موت جدي حين كانت قد جاوزت السبعين سنة. كنا نقول لها أنها lا زالت جميلة ويمكنها الزواج في الثمانين.  كانت بيضاء البشرة، محمرة الخدين وشقراء الشعر. كانت تسمى في القرية بالإسبانية.  كانت جميلة في شبابها  ووديعة في جنون آخر العمر. كان الزهايمر فرصتها الوحيدة لأن تتحرر وتتحدث عن الحب والجنس.

كانت من سخريتها تلحن القرآن فتتلو ” أعوذ بالناس يا الناس، ملك الناس يا الناس إلى آخر الآية. تلتقط أية آنية وتلحن الآيات.

لم نكن نعلق عليها وعلى إضافاتها الطريفة إلى أن أتى قريب ملتح لزيارتها. كانت عمة أمه. جلس قبالتها وهو يتجنب النظر إلينا. أرادت أن تخفف عنه بعض التجهم فقرأت له الناس يا الناس. قام بعصبية ونهرها وقال لها أنها ستذهب إلى النار لأنها تختلق قرآنا من عندها وأنه لن يعود إلى زيارتها في بيت الكفر.

كانت امرأة فقدت كل شيء حياتها وعقلها. كنا نريدها أن تموت وهي ضاحكة تغني وترتل ما تشاء دون أن تضغط عليها الذكريات الحزينة وحياة الشقاء التي عاشتها مع جدي. هي أيضا وجدت وسيلة في الزهايمر لتعيش بعض الحرية، أن تنسى الحلو والمر وتولد كل يوم بدون ذاكرة امرأة فيها الكثير من الألم والحرمان وضنك العيش.

أفسد علينا ذلك القريب فرحتنا بقفشات جدتي. جعلنا نسائل أنفسنا : هل تنفع الحياة بدون نسيان؟ هل يتدخل الرب ليمنع الإنسان من النسيان؟ هل يريدنا أن ندخل إلى الأبدية ونحن مثقلون بذاكرة الألم؟ هل يتدخل ليحرم من نسى من التغني والطرب بآياته؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.