الرئيسية | سرديات | من أجل طفل | فريدة العاطفي – فرنسا

من أجل طفل | فريدة العاطفي – فرنسا

فريدة العاطفي – فرنسا

 

الطفل، لم أعد أتذكر إسمه جيدا. كان إسما آسيويا مركبا. لكن الرحلة أتذكرها بأدق تفاصيلها.

الطائرة باتجاه الصين… وعلينا أن نتدبر أمرنا للوصول إلى التبت.

نحن ذاهبون لإنقاذ طفل قيل للجميع إن روح بوذا حلت فيه. أخبرتنا الجهات التي أشرفت على تنظيم هذه الرحلة: بأن الطفل وضع في قصر ليعيش سجينا لكن مقدسا، كل ما يصدر عنه يقدسه الناس معتقدين أن العصافير والأقمار وربما كائنات الكواكب الأخرى بدورها تقدسه.

وكلما أغلقت نوافذ الروح أبوابها في وجوههم، يحمل الناس أحزانهم ويحجون إليه في ذلك القصر، رغم أن بوذا هرب من القصور فاتحا صدره للريح والأزهار، ويقال لعب في طفولته بما يكفيه لكي يمتلئ بالحلم والتأمل، إذ ثمة غصن زيتون بين الحلم والحكمة لا يراه سوى الأطفال.

بجانبي في الطائرة تجلس آن جو بسمرتها الأخاذة، وشعرها الأسود الطويل الذي يجعلها تبدو كما لو كانت خارجة لتوها من أحداث فيلم هندي رومانسي. عيناها سوداوان ومشرعتان  على سحب تسير بهدوء إلى قدرها لتصبح مطرا. كانت هي من جذبني إلى ممارسة اليوغا و السوفرولوجي، وأغرتني غير ما مرة بلقاء الدلايلاما.

تلتفت إلي آن جو عاتبة وتقول: ” لا تذهبي معهم أرجوك. الطفل حلت فيه روح بوذا، وسيكون شعاعنا في المستقبل. لا أفهم لماذا تريدون إنقاذه ؟ ومن ماذا ؟ “

ميكائيل أيضا صرخ في وجهي قبل سفري: ” لا أفهم  كيف تريدون إنقاذ طفل يعيش مقدسا في قصر ؟؟؟”

لأول مرة أحس أن ميكائيل لا يفهمني. لهفتي على هذا الطفل لا علاقة لها بالقصور والأكواخ. هي ببساطة دفاع عن اللعب.

تعال نلعب أنا وأنت بصخب عال… لن نؤذي أحدا، وحدهم الأطفال سيقلدوننا وسيلعبون بما يكفي لكي تشرق الشمس داخل أرواحهم الصغيرة.

اللعب هو تعبير عن بهجة الروح وطفولتها… هو افتتان بالحياة وتدرب عليها، فكيف نطلب من طفل أن يكون حكيما، وجماله في براءته، في شغبه، وركضه، وتمرغه في التراب وفي الحماقات الجميلة؟

تجاهل ميكائيل جوابي و سؤالي. صفق الباب خلفه، وتركني دون أن يصاحبني كعادته إلى المطار.

لكني مع ذلك سافرت ولم أكن وحدي…

الطائرة في سفرها…

 وكل منا في سفره الداخلي…

أنتبه هنا إلى من يرافقونني: السيد برونو ديفي فيلسوف راهب. راكيل هاجرت لكي تصبح راقصة باليه، فوجدت نفسها نادلة في بار رخيص. رضوان يحلم بإخراج فيلم منذ سنين، يبدو أن الفيلم لن يظهر للوجود، لكن ذلك لا يمنعه من الحلم. أندريه سانتالوف يريد أن يكون عارض أزياء، جسده وجاذبيته يساعدانه فعلا على ذلك. كان قد بدأ حلمه في روسيا، وحين وصل إلى هذا البلد انشغل بالتفكير في أمه، ونسي حلمه، رغم أن الحلم ظل يحاصره كل ليلة في نومه.

تليسفور يحلم بأشياء كثيرة… وحين تتداخل عليه الأحلام يتركها وينام.

 وآخرون…

وأنا أتأمل رفاق الرحلة واحدا… واحدا، انتبهت فجأة بأننا نختلف كثيرا في العمر والحلم والدين والثقافة لكن جرحنا واحد، هرب منا الحلم وترك كل واحد منا وحيدا أمام الجدار .

لماذ إذن هربت منا أحلامنا ؟ وهل جئنا إلى هنا عابرين كل هذه السماوات بحثا عن أحلام لم نعرف كيف نقبض عليها في بيوتنا؟ طرحت السؤال، فسمعت الكثير من الصراخ، وجلبة عالية، وطرقات كثيرة على أبواب صدورنا لأطفال مسجونين بداخلنا، تعبوا منا  ومن خيباتنا، قادونا يحيلة إلى قصر وطفل وجاءوا يطالبون بالحرية و الركض وراء الشمس والأحلام.

جئنا إذن …

نفتح أبواب القصر لذلك الطفل، ونفتح في نفس اللحظة أبواب صدورنا للطفل فينا… ليبوح بجراحات لم يقلها، حين كان صغيرا و ضعيفا وخائفا.

يخرج الطفل من القصر إلى الحرية، ويخرج من صدر كل واحد منا طفل مجروح وباك. نستمع إليه… نمسح دمعه… نحضنه عميقا…

 ثم …

نمسك بيده… ونبدأ الخطوة الأهم… في تحقيق أحلامنا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.