عبد الله بن ناجي (المغرب):
الاشتغال على الشعر وبالشعر هوس داخلي يتولد بالموهبة، وينمو بالاجتهاد في التمرس على آلياته. الشعر صيغة في الحياة والموت؛ الشعر عِلّة وجود بالنسبة إليّ، ولا يمكنني الانزياح عن الكتابة الشعرية إلا بمقدار ما يسمح بالعودة إليها أكثر عمقا وتوهجا، ومهما قيل عن أفول زمن الشعر، وعن صعود زمن الرواية أو غيرها من أشكال التعبير الفني، في تقديري يبقى الشعر سيد القول في فن الكلام. بل وأعتقد جازما أن الشعر قد غزا مختلف أشكال الكتابة، فالرواية اليوم لا تكتسب قيمتها إلا بحضور النفَس الشعري ومقوماته، وكذلك القصة لم تعد محكومة بالمكونات السردية وحسب، إنما ميسمها اليومَ الإيقاعُ والإيحاء والعُدول وتكثيف الصور الشعرية؛ وواقع كهذا ينحو بنا نحو مقولة النص الأدبي، وانتفاء الحدود بن الأجناس الأدبية؛ لكنالقصيدة تبقى خزّان كينونة العالم، وهي القادرة على منحه الأبعاد الجمالية التي تتطلبها الحياة، إذ المعبر إليها هو عمق الفكرة وتفكيك سيرورة التحول وتجلياته. أرى والرؤية ليست ملزمة أن كتابة قصيدة شعرية هو معادل لكتابة الذات على الورق.. مهما تلبّستِ النصوص بالمُتخيّل تبقى ذات الشاعر حاضرة ومحيطه متواريا خلف تراكيبالكلمات وصيغته في القول، بل إن إيقاع النص يتموج بتموجات النفس، لذلك لا انفصام بين النص وكاتبه حتى وإن بدا أنني شيء وما أكتبه وأقوله شيء آخر، وحين أتحدث عن القصيدة أتحدث عن الشكل الإبداعي الذي ارتضيته للتعبير عما يجوب في الداخل من انعكاسات خارجة عنّي؛ أنا لستُ كاتبا مُهاجرا، منذ البدء وأنا أتلمس طريقي في القصيدة، أسعى لخوض التجربة بكامل اليقين في الشعر، معطفي مليء بالثقوب، لكنه نسيج يديّ من خيوط غزلتُها بكامل الأصالة في الكتابة؛ لم أحمل حقائبي مسافرا إلى القصة القصيرة جدا كما فعل شواعر وشعراء كثيرون انسياقا مع مدّ حضورها اللافت الآن؛ أي نعم أنا أومن بمقولة النص الأدبي التي تختزن الشعر والنثر معا، لكن رؤايَ في الموضوع لم تكتمل ملامحهابعدُ، لذلك لا يمكنني الخوض في تجربة لم يكتمل تصورها في الذهن، ولو من باب التجريب، لأن للتجريب قواعدَ وأسساً ينبغي الانضباط لشروطها.قد يبدو التمسك بالنص الشعري في زمن التكنولوجيا والتغيرات المتسارعة للحياة ضربا من الوهم والانسداد، غير أن واقع الحال يقول إننا في أمس الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى الشعر، لأن العودة إلى الذات ومساءلة الواقع لا تتم إلا بالكتابة، بل إن التكنولوجيا ذاتها صناعة تقوم في جزء كبير منها على المُتخيل الذي يُعدّ ساحة معترك الكتابة. وفي العمق أنا أكتبُ لأتخلص من سطوة الآلة ونمطية الخطو في المشي، أنا أكتبُ لأمارس رغبتي القُصوى في الاختلاف، والاختلاف سيد علامات التميّز في الإبداع، والإبداع إلى الآن في رؤيايَ قصيدة شعرية أسعى جاهدا لجعلها مختلفة إيقاعا ومعنًى، تليق بجو الاحترام المتبادل الذي يسود بيني وبين الكتابة؛ لستُ اكتُبُ لأغيّر لون السماء أو شكل الأرض، بل فقط للحفاظ على المعنى العميق وقيم الجمال من التلاشي، لأن تلاشيها معناه ضياع هذه الذات التي تحملني في زوبعة التهافت نحو قيم الاستهلاك والمجانية والسطحية والابتذال؛ أنا أكتبُ الشعرَ لأنّ الحياة في الحياة تتطلب قدرا من الجمال كي تستمر الحياة؛ أنا أكتبُ الشعر لأن الشعرَ صديقُ العالم الوحيدُ.