الرئيسية | سرديات | مشهد مرعب | محمد الجباري

مشهد مرعب | محمد الجباري

محمد الجباري (هولندا):

 

 

على غير العادة وجدتني أستيقظ باكرا صباح هذا الأحد، شعرت و كأني قد اكتفيت تماما من النوم، حاولت دون جدوى أن أغمض عيني مرة أخرى، خصوصا طوال الاسبوع وبحكم العمل أستيقظ مع الفجر، يوم الأحد فيه أعوض هذا النقص المرعب من ساعات النوم، بقية الأيام أستيقظ بصعوبة قصوى، أستعين بمنبهين – الهاتف والساعة -، أغادر فراشي الدافئ بصعوبة كبيرة ! تجدني أخاطب نفسي بمرارة وغبن و رأسي تحت الوسادة: لقد هانت يوم الأحد سوف أنتقم منك أيها النوم اللعين اللذيذ… يأتي أخيرا هذا الأحد فأجد نفسي مستيقظا مع أولى صيحات الديك ! أي كساد أكبر من هذا ؟

نهضت، هيأت فنجان قهوة، وأنا ألعن حظي العاثر، شعرت برغبة الجلوس في الشرفة، لم يكن يستهويني الجلوس فيها لارتفاعها الشاهق، كان بيتي في الطابق العاشر، يُخيل إليك وأنت تطل من الشرفة كأنك تركب الطائرة !

وأنا أنظر بحذر إلى الأسفل رأيت الحديقة التي توجد أسفل العمارة شبه خالية إلا من فتاة تجلس و في يدها كأنه هاتفها الصغير … ثم وجدتني أشهق من هول ما رأيت !

طفل ربما في عامه الثالت يقترب من البحيرة التي توجد وسط الحديقة، كنت أعرف أن البحيرة عميقة قد تبتلعه لو أنه وضع قدمه الفتية فيها ! كان الطفل يجري ويلعب بمحاداتها … تحول بصري بسرعة إلى الفتاة الجالسة، كانت تتكلم في الهاتف … آه يا ربي ما أغباها ! أكيد أنها أمه أو مربيته، كيف لم تنتبه ؟ كيف يصبح هذا الجهاز الصغير الملعون أهم من طفلها ؟ تَراها الآن تتكلم في أمر تافه ! الطفل أراه يقترب أكثر إلى البحيرة و المرأة كأنها في عالم آخر منهمكة في دردشة فارغة، قد تكون الآن منتشية بالحديث والضحك مع صديقة تافهة مثلها بينما طفلها يقترب أكثر إلى الموت!

كنت أعلم أن صوتي لن يصل إليها من هذا الارتفاع الشاهق ومع ذلك أخذت أصرخ، وجدتني أتنقل بين جنبات الشرفة ذهابا وايابا لعلي أرى أحدا، لعلي أستطيع أن أفعل شيئا … وجدت أمامي المقعد الذي أجلس عليه في الشرفة، حملته ورميته بكل قوتي إلى الأسفل لعلي أثير انتباهها، لعلها تسمع صوت ارتطامه بالأرض فترفع بصرها حيث أنا، لكنها وكأنها في عالمها الآخر و كأن الدنيا اختصرتها فقط في هاتفها الصغير !

كان علي أن أتصرف بسرعة وأن أسابق الزمن، وقوفي هكذا في الشرفة أنتظر وقوع الكارثة كأنه مشاركة في هذه الجريمة ! أما المراهنة على أن المرأة قد تنتبه فهي مراهنة خاسرة بكل تأكيد

بح صوتي من الصراخ، قررت أن أنزل … كنت أعرف أن الأمر يتطلب مني حتى أصل إلى الطفل زمنا  ليس بالقصير، بخلاف الموت فإنه على بعد خطوة واحدة يخطوها الطفل المسكين إلى البحيرة ! إنه سباق غير عادل بيني وبين الوقت، حتى أنه سباق غير ممكن، فنقطة الوصول مختلفة ومغايرة، أنا أجري من أجل الحياة و هو يسرع من أجل الموت !

خرجت بمنامتي، طبعا من السداجة أن أنتظر حتى ألبس ملابس الخروج، وجدت المصعد ينتظرني في الطابق العاشر … رميت جسدي داخله، شعرت بأمل يكبر داخلي،لعل النوم الذي استعصى على جفوني.  ودخولي للشرفة رغم أني لا أحب الجلوس فيها و أخيرا المصعد على غير العادة عند بابي ينتظر قدومي،كلها بشائر تجعلني أعتقد كأن القدر معي في سباقي مع الزمن ! هذا ما خطر ببالي وأنا بالمصعد، كانت التواني التي قضيتها فيه أطول مما أستحمل، كنت أستعجل الوصول كطفل يجري الى دورة المياه ليفرغ متانته الممتلئة  لكنه عندما يصل يجدها مشغولة، فيصير يقفز في مكانه ينتظر !

دفعتُ الباب وخرجت أجري الى الحديقة، لاحظت بدهشة تواجد سيارات الاسعاف والشرطة والمطافئ كلها قرب الحديقة، دخلتُ أبحث عن الطفل قرب البحيرة … أخذت نفسا عميقا وحمدت الله أنه في أحضان رجل المطافئ، رأيت امرأة تهرول نحونا ما ان رأتْ الطفل حتى ارتمتْ تحتضنه وتقبله، تبكي وتقول :

– بحث عنك في كل مكان يا كبدي، كدت أجن عليك

تمسحُ دموعها وتريد أن تقبل يد الرجل الذي كان يحمل طفلها

– شكرا لك

ابتسم الرجل وقال :

من يستحق الشكر بالفعل، تلك المرأة الجالسة هناك، انها من أجل طفلك هاتفت كل المصالح الأمنية

ضحكَ وتابع قائلا : من أجله أقامت الدنيا و لم تقعدها

التفتنا حيث السيدة، وجدتها تلك الفتاة ربما في عقدها الثاني، نحيفة وشاحبة كانت تبتسم للطفل وتشير إليه بيدها، رأيت رجلا يقترب منها يقبلها في جبينها، تلفٌ يداها حول عنقه،فيحملها ثم يجلسها  في مقعد متحرك كان بجانبها ويغادرا الحديقة، رجل المطافئ يعلق قائلا :

– المسكينة تعاني من شلل نصفي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.