الرئيسية | حوار | محمود الريماوي: أكتب بعيدا عن القوالب والأطر والمبدع الحقيقي هو الناقد الأدبي الأول لنفسه!
محمود الريماوي

محمود الريماوي: أكتب بعيدا عن القوالب والأطر والمبدع الحقيقي هو الناقد الأدبي الأول لنفسه!

حاوره عبد الوحد مفتاح

 

في هذا الحوار نطلع على جزء أساسي من قضايا تظل لازمة وملحة في منجز محمود الريماوي، هذا الكاتب الإشكالي والمتعدد، فبعدما فجر كامل طاقته الأدبية في فن القصة، الذي عرف بإخلاصه الحديدي له، إلى أن عدّ أحد رواد هذا الجنس الجمالي على مستوى الأردن، حيت توج بأكثر من جائزة أدبية لم تكن أخرها جائزة فلسطين للقصة. لينتقل بعدها للرواية التي حقق فيها إسهاما وازنا ومرموقا، جر روايته) من يؤنس السيدة  إلى قوائم جائزة البوكر مؤخرا، وهو إلى ذلك صحفي تواصل عطائه في مهنة المتاعب لما يربو عن أربع عقود، توجها بإطلاق منصة –قاب قوسين – الإلكترونية، أحد أهم المواقع الثقافية العربية على الانترنت، وأكثرها مصداقية، نظرا لما حققه من زخم نوعي وما عمل عليه من تعريف بعدد مهم من الكتاب الشباب الذين كان الموقع إطلالتهم الأولى للنشر في منبر مختص ورصين.  

 

كبداية لهذا الحوار، ما فاتحة النص الذي ورطك في عالم الكتابة؟ خبرنا قليلا عن البدايات؟

 من أثار لدي الرغبة في الكتابة هو جبران خليل جبران الذي  شرعت بقراته في سن مبكرة في الثانية عشرة من عمري، والذي كانت كتبه متوفرة في مكتبة المدر  نزعة التأمل مع الروح المحلقة لدى جبران  أثارت فيّ الشهية، والشهوة للكتابة. لا أجرؤ الآن على إعادة قراءته. أودّ أن احتفظ  بتأثيره السحري علي.

ــ لديك رغبة عارمة في الكتابة، ما يوضحه غزارة إنتاجك؟ ماذا عن طقوسك الكتابية ؟

4 لدي رغبة في الكتابة، ولا أعرف إن كانت عارمة أم لا،  يمكنني القول إنها رغبة قوية لا فكاك منها..دعني أوضّح: مع التقدم في التجربة  الكتابية  والحياتية، فإن الكتابة تتحول لدى صاحبها الى حاجة  حيوية أساسي تعادل الحياة برمّتها. يكتشف الكاتب انه لا يبقى منه سوى كتابته، وأن إبداعه هو أعمق تعبير عن شخصه. وأنه بغير الكتابة فإن توازنه الذهني والعاطفي والروحي يختل، ويتسلل اليه الشعور بالخواء  حتى لو كان يعيش على الأرض في جنات النعيم. ذلك أن الكتابة تتحول ليس إلى مجرد قيمة معنوية مًضافة إلى صاحبها،  بل الى ما يشبه غريزة إضافية مثل غرائز الطعام والشراب والجنس والنوم والضحك. ولا بد من  إشباع غريزة الكتابة ليس بالطبع بالاندفاع إلى كتابة روتينية، بل بالإصغاء إلى ايقاعات الروح  والتقاط التشكلات في الذهن، والسير وراء كلمات أو عبارات، تنبثق من اللاوعي وتقود إلى ما ورائها.

خلافاً لما يثيره السؤال من انطباع فأنا اعتبر نفسي مُقِلا في الكتابة. لأني أتشدد مع نفسي في شروط الكتابة، ولأني غير متفرغ بصورة تامة للأدب..  ولأن فعل الكتابة مؤلم، فأنت تخرج من جلدك حين تكتب. ولهذا أهرب منها أحيانا إلى القراءة.والكاتبات النساء يشبّهن الأمر بعملية ولادة. وكان الرسام  سلفادور دالي يقول: ان الفنان هو امرأة في حالة حمل دائمة!.

 لو كان بوسعي الاختيار بين القراءة والكتابة، لاخترت الأولى، مع  التمتع بفسحة كبيرة  للتأمل. انا كثير التأمل  والكدح الذهني، آلة التفكير تعمل لدي بلا توقف،وهذا ليس بيدي. أشعر أني أمضي ساعات نومي في التفكير، وليس في الاسترخاء!.

أما عن طقوسي في الكتابة فهي فقيرة!، وتتلخص بكلمة واحدة: الصمت. رأسي مليء بالأصوات ، ولهذا لا أحتمل سماع أي صوت خلال فترة الكتابة ، بما في ذلك الموسيقى، ولهذا اكتب في  وقت السكون التام، في الليل المتأخر، مع فنجان قهوة كبير وماء وفير. ومع السجائر التي  انقطعتُ عنها عدة مرات وعادت إليّ!. لكن يمكنني تصحيح  المسودّات في النهار.

ــ  ما الذي حدا بك لكتابة قصصعم تبحث عن مراكش؟

  القصة الأولى في الكتاب والتي تحمل اسم المجموعة،  استقيتها من تجربة حياتية وذكريات شخصية، مع قدر كبير من التحوير واللعب بالوقائع.  مشهد الملك محمد الخامس وهو  يزور  أريحا في سيارة مكشوفة الى جانب الملك حسين، هذا المشهد الذي رأيته من قرب، بقي في ذاكرتي،  وربما كان هو المحفز  الأول على كتابة هذا الكتاب.وهذه القصة تجيب عن سؤالك.علما بأني كتبت القصص بعد زيارة أولى للمدينة الحمراء استغرقت أربعة أيام فقط!. لم أكتب أدب رحلات ولا انطباعات زائر سائح ، ولم يكن يعنيني في ذلك العمل تجسيد مظاهر الحياة في المدينة.حاولت الكتابة عما  وراء المدينة، وما هو تحت سطحها ، وما يرتسم في أفقها، وبشحنات من التأمل غير المنفصل عن الدراما.

  هذا فضلا عن ان اسم مراكش كان يعني لي في سنوات الصبا : المغرب ككل. والملك محمد الخامس كان يوصف بأنه ملك مراكش. وأنا أحب المغرب( والمغاربة)، وقد وقعت في حبها منذ أول زيارة لي  عام 1981  على ما أذكر.

ــ  لديك تجربة سردية سابقة في اكتشاف مكنونات المكان في روايةحلم حقيقيالتي ذهبت فيها الى بلد اسيوي.هل امضيت أيضاً  في دكا عاصمة بنغلادش بضعة أيام قبل الكتابة كما حدث مع مراكش؟

3 نعم، الاهتمام بالمكان أخذ يزداد لدي. بينما في السابق كان الاحتفاء به قليل في ما اكتب. بالنسبة لرواية “حلم حقيقي” فواقع الأمر اني لم أزر دكا ، لم تطأها قدماي. ومع ذلك فإني لم اكتب رواية عن بنغلادش، بل رواية بنغالية أبطالها من ذلك البلد!. ربما كانت تجربة جديدة في الرواية العربية. تثيرني الكتابة عما “أجهله”،  عن الغامض، كي اكتشفه خلال الكتابة.   بطبيعة الحال استعنتُ بالانترنت للتزود بمزيد من المعلومات والصور والأفلام عن هذا البلد، والذي كانت لدي فكرة مسبقة عنه. السيء في الأمر أن الرواية لم تُترجم كي يقرأها البنغال!.

ــ مجموعة من النقاد تقع في حيرة من أمرها في تصنيف قصصك، فأنت كاتب كثير التجريب والتنويع في الأساليب والموتيفات، أين يصنف محمود الريماوي نفسه كقاص؟ لماذا يُطالب الكاتب ان يصنف نفسه؟ 

لا عدل في هذه المطالبة.سأجيبك عن السؤال بايجاز: مهما تنوعت الأساليب لدي أي كاتب، فإنه يبقى هو نفسه. وعلى الدارسين ان يكتشفوه، لا أن يكون الكاتب  مدعواً لاكتشاف نفسه، او الكشف عنها مرتين: مرة  في الابداع، ومرة في التصنيف النقدي.

 أكتب بعيدا عن  القوالب والأطر، بما فيها أطر الحداثة المعهودة، والأخيرة( الحداثة) تعني لي المرونة الفائقة ( أفضّل هذه الكلمة على الحرية، فالحرية كشرط للكتابة ومدخل لها أمرٌ بديهي). هذه المرونة قد تؤدي وأدت معي الى التنوع في طرائق التعبير.  وبصراحة يضجرني أن اكتب على منوال واحد، علماً اني لا أتعمد ذلك.علاوة على التعدد في داخل الذات، وأنا أمين على هذا التعدد وأحاول أن أعكسه ، وبالأحرى لا أمنع نفسي  ان أعكسه. لهذا يصعب وضعي في قالب. هنيئاً لبعض النقاد بقوالبهم. لقد كتبتُ على سبيل المثال القصة القصيرة جداً في أواخر ستينات القرن الماضي (نشر عدد منها في مجلة “مواقف” التي كان يصدرها ويترأس تحريرها الشاعر ادونيس)، ولم يكن هذا اللون التعبيري معروفا أو شائعاً. لكني لم اعتبر أني قمتُ بفتحٍ مبين، بل أتحت لنفسي المبدعة  الذهاب على هواها ومع أهوائها بحُريّة ومرونة فائقة، وحيث يجد النص شكله ومبناه، وبدون قولبة مسبقة.. والطريف أن بعض النقاد في المغرب  يتحدثون عن القصة القصيرة جدا، ولا يشيرون الى تجربتي المبكرة جدا في هذا المجال، ولا لتجربة محمود شقير الذي أخلص لفن القصيرة جدا في وقت مبكر.

ــ تُرجمت قصصك إلى الإنجليزية والفرنسية إضافة، إلى زخم من الكتابات والدراسات النقدية حول منجزك، فهل أنت كاتب مرتاح نقديا بهذا المعطى؟

تُرجمت قصص لي في كتاب الى البلغارية وكتاب اخر الى الايطالية، اما الى الانجليزية والفرنسية فتمّت ترجمة قصص مفردة اليهما. هناك متابعات نقدية لكتبي القصصية، لكن ما كُتب عن مُجمل تجربتي قليل.  وهي فرصة لأن أشكر بعض النقاد الذين اهتموا بمجمل التجربة ومنهم الناقد د. ابراهيم خليل، والناقدة د. مريم جبر.

ــ عملت من خلال رئاستك تحرير موقعقاب قوسينعلى التعريف بالكثير من الطاقات الإبداعية الشابة، وفتح الباب أمامهم دون السقوط في مأزق الترويج للرداءة، كيف ترى للتجربة بعدما اجتازت كامل هذه المدة بالموقع؟

 تجربة مُضنية. فبعد خبرة في الصحافة الورقية تناهز  اربعة عقود، فقد سعيت الى نقل خبرتي المتواضعة هذه الى الموقع الثقافي الالكتروني ، وهو أول موقع ثقافي يظهر في الأردن، وبالمناسبة فإن “قاب قوسين” توشك ان تتم عامها السادس.

 لا أتخيل نفسي  أدير موقعا  ثقافيا ، بغير الاهتمام بتحرير المواد وتدقيقها بما في ذلك العناوين والصور. لا أؤمن على الإطلاق بالنشر الأوتوماتيكي حتى لأدباء كبار، وأعني بغير تدقيق موادهم. فلا صحافة بدون تحرير.

 كان وما زال من دواعي سروري ان “قاب قوسين” لقيت إقبالا  ملحوظاً من طرف الزملاء الأدباء في المغرب.ثمة اسماء شقت طريقها عبر موقعنا ،  مثل الشاعر فتح الله بوعزة والأديبة سعيدة تاقي والأديب عبدالله المتقي، ومن تونس القاصة بسمة الشوالي، وآخرون كثر لا تحضرني أسماؤهم. ثمة حرص على مستوى المواد ، مع السعي إلى أن  لا يكون الموقع نخبوياً ، بالمعنى الفئوي للكلمة. لكن أن تعمل  منفرداً لوحدك .. فإنه لعمل شاق حقا،  ويغدو الأمر مثاراً للتأمل حين يضطر المشرف على الموقع للإنفاق عليه أيضاً، إنه عمل يكاد يكون انتحارياً!. لكن لا بأس . لقد كسبت أصدقاء جدد ، وفتحت  “قاب قوسين” المجال للمئات  من الكتّاب العرب، وملأت فراغاً في الصحافة الثقافية.

النشر الإلكتروني عامل ساهم على ظهور عدد من الكتاب، وانتشار كتابتهم، كفاعل في الميدان، كيف ترى للمحاذير الأساسية على الكتاب الشباب في التعامل مع هذه التكنولوجيا الحديثة؟

المحذور الأساسي هو أن الكاتب/ة الشاب/ة بدأ الكتابة والنشر معاً. أيام جيلنا كان الكاتب يبدأ الكتابة ويحاول صقل أدواته،  ثم ينتقل بعدئذ إلى النشر. كاتب اليوم لا يمر في مرحلة الاختمار هذه ، وذلك لما يوفره الانترنت من فرصة النشر الفوري.

 المحذور الثاني  ويتصل بالأول هو : استسهال الكتابة، فما دام كل ما يُكتب يجد طريقه إلى النشر،  إذن فلا حاجة للمكابدة والتجويدّ. أعرف أديبا له مكانته أباح لأصدقائه انه بعث لمجلة أدبية في مطلع حياته 15 قصة قصيرة،  لم تنشر المجلة واحدة منها. لكن ابتداء من القصة السادسة عشر بدأ نتاجه يجد طريقه إلى النشر. والمقصود هنا الإشارة إلى المواظبة التي كان يتمتع بها جيل سابق.

محذور ثالث هو غياب النقاد الا عدد محدود منهم، عن مواكبة النتاج المنشور. علما بأنه يصعب في لوقت نفسه  على أي ناقد حتى لو كان متفرغا تماما للنقد، ان يواكب هذا الفيض مما ينشر. أديب اليوم  يكتب بغير متابعة نقدية.

 وأكثر ما يحزنني أن أرى كاتبا في مطلع حياته الإبداعية  يبدو عاجزا  كلياً عن التقييم الذاتي لما يكتبه، ويُلِح على سماع رأي الآخرين. حسناً.. الاستئناس برأي  أدباء جيد  ومفيد،  لكن اذا لم يستطع المبدع ان يقيّم بنفسه مستوى ما يكتبه، فتلك مشكلة كبيرة، وسببها أن  الأديب الشاب لا يقرأ في النقد الأدبي إلا لماماً. ولا يدرك ان المبدع هو الناقد الأول لنفسه.شريطة ان يكون ناقدا  واعياً وصارماُ، ويحفز الطموح لدى المبدع.

ـ ما الذي يشغلك هذه الأيام؟

انشغل بإتمام كتاب قصصي جديد، كتبته جميعه بنبرة واحدة كما لو أني اكتب رواية.

 أما ما يؤرقني فهو أن يتعرض شعب عربي لحملة إبادة واستئصال وهو الشعب السوري، ولا يجد تضامناً يُذكر من طرف المثقفين العرب. السوريون يتعرضون لما هو أسوأ وأقسى بعشرات المرات، مما تعرضوا له أيام الاستعمار الفرنسي.  فقد “حظي” السوريون بنظامٍ فريد لم يتوقف ساعة واحدة عن إطلاق النار على شعبه منذ 66 شهراً،  وحتى أيام الناس هذه.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.