نمر سعدي/ فلسطين
السامريُّ أنا
السامريُّ أنا وأصرخُ: لا مساسَ، فكلُّ من أحببتهم خانوا يديَّ، وسمَّروا قلبي على خشبِ الصليبِ، وأفردوني في الخريفِ بلا بنفسجةٍ، وأهدوا آخرَ الدمعِ المفخَّخِ بالرصاصِ، إلى أغاني البدوِ، هل سيكونُ وقتٌ كي أعودَ من اشتعالِ الماءِ بالعشبِ المغطَّى في الضحى بنحيبِ لوركا؟ أو لأسحبَ زهرةَ الصُبَّارِ وهيَ تكادُ تغرقُ بينَ أظفارِ الجفافِ؟
وكي أُداوي قلبَ شاعرتي المصابةِ بالكآبةِ والفصامِ الشاعريِّ، وكلِّ أعراضِ القوافي؟
آهِ هل سيكونُ وقتٌ كي أُردِّدَ في الخريفِ لنسوةٍ زوَّجنَ ناياتي لقهرِ الزمهريرِ: اغمضنها بأبي – إذا أوديتُ مغتربَ الهوى – أنتنَّ أجفاني، لأسمعَ سقسقاتِ الطائرِ الدوريٍّ من حولي، وأُبصرَ ما يشعُّ على يدَيْ أنثايَ من ذهبِ القصائدِ، أو سماواتِ القطيفةِ والحمامِ؟
السامريُّ أنا وتلكَ نبوءتي الأولى، أقولُ لقُبلةٍ حجريَّةٍ في السورِ: كوني وردتي أو ماءَ صلصالي، ونارَ غوايتي البيضاءَ في وجعِ الرخامِ، السامريُّ أنا، وتلكَ أوابدي وطريقتي بتتبُّعِ الأشياءِ، أو برثائها الصوفيِّ والرعويِّ في ليلِ المنافي…
***
أرقُ أكتوبر
أكتوبرُ، الأرقُ النظيفُ، النايُ، رائحةُ الحنينِ، الظلُّ منشطراً إلى جسدينِ، ليمونُ التأمُّلِ، حسرةُ العشبِ المُغطَّى بانكسارِ الضوءِ، قوسُ ظهيرةٍ في الشرفةِ الزرقاءِ، صوتُ البرتقالِ، أوائلُ التكوينِ، آخرةُ القرنفلِ والسرابِ، المهدُ والماءُ المعذَّبُ، نزوةٌ عاديَّةٌ أكتوبرُ، النعناعُ والنمشُ الخفيفُ، أظافرُ الحنَّاءِ، مسقطُ دمعتي أكتوبرُ، الزيتونُ حينَ يصبُّ مثلَ أشعَّةٍ عطريَّةٍ في لمسةٍ امرأةٍ وفي العينينِ، معنى أن تصيرَ رؤايَ أوسعَ، والعبارةُ قُبلةً عمياءَ ضيِّقةً، وصلصالاً يعيدُ تشكَّلَ الأشياءِ في امرأةٍ وعاشقها…
***
لا زلتُ أخطئُ في التخاطبِ
لا زلتُ أُخطئُ في التخاطبِ بينَ مفردتينِ، بينَ قصيدةٍ بهشاشةِ الروحيِّ أو ولهِ الفراشاتِ العطاشِ بآخرِ المعنى، وبينَ صديقةٍ بصلابةِ الفولاذِ والحجَرِ الذي يمشي كمن في حلمهِ يطفو، أخطُّ قصيدةً بدمي وأُخطئُ، ثمَّ أنسى ما فعلتُ بجرَّةِ السهَرِ المؤرَّقِ أو بمرآةِ النداءِ النرجسيِّ إلى الوراءِ، تفتَّقتْ عن مقلتيَّ شقائقُ النسيانِ، قلتُ لعابراتِ القلبِ: هل يكفي لهاويةٍ من اللعناتِ خيطٌ واحدٌ ليجرَّها عني بعيداً؟ قلتُ للشجَرِ: انتظرني ريثما يغفو الرثاءُ الموسميُّ على الغصونِ، كأنهُ يبدو حقيقيَّاً أمامي حزنُ هذا الليلِ، لكن لن أُصدِّقَ غيرَ طلعِ الرملِ في ليلِ الذئابِ…
***
قمرٌ من الحنَّاء
كنْ يا نهارُ سفينةً لا تبرحُ المرسى، ويا ليلُ ابتعدْ لأراكَ وحدكَ في عباءاتِ النساءِ، وضوحُكَ الأبديُّ يُغريني لأنزلَ كالفتاةِ من الغموضِ الزئبقيِّ إلى الحديقة، قُلتُ للمنفيِّ: لا تحزنْ فقلبي قُلَّبٌ، وفتحتُ شبَّاكَ القصيدةِ كي تطيرَ أيائلُ المعنى بلا يأسٍ، فكنْ لي يا نهارُ محارةً من كيمياءِ الغيبِ، كنْ حجرَ الدموعِ على الضلوعِ، وشهقةَ الغجريَّةِ السمراءِ حينَ يصبُّ في خصلاتها قمرٌ من الحنَّاءِ، ينبتُ في دمي مطرٌ، ويا ظلُّ انكسرْ فوقَ المياهِ لكيْ أُلملمكَ، انكسرْ لتهبَّ مثلَ الأقحوانةِ، وانكسرْ حتى تُذرِّيكَ الرياحُ تهبُّ من أقصى اشتهائي…
*
مجاز
مجازاً تقولُ: إذا اكتظَّ رأسي بوردٍ شديدِ السوادِ سأُلقيهِ بينَ يديكَ..
مجازاً أقولُ: نسيتُ طعامَ النوارسِ في البيتِ، والماءَ في الغيمةِ الأنثويَّةِ، قمحَ السماءِ نسيتُ، وعصفورتي الذهبيَّةَ، كنتُ على عجَلٍ من حنيني، أُرمِّمُ تنهيدةً بشفاهي لأنجو بنفسيَ أو بقميصي الذي قُدَّ من قُبَلٍ والملطَّخِ بالتوتِ، كنتُ على أملٍ لم يجدْ بقعةً في القصائدِ واحدةً لمواراةِ يأسي، ومن دونِ قصدٍ تركتكِ نائمةً في القطارِ، كأنكِ سيِّدةٌ لستُ أعرفها وابتعدتُ.
*
عينان ساحرتان
عينانِ ساحرتانِ، زيتونيَّتانِ، حزينتانِ، عميقتانِ، تحدِّقانِ بكوكبٍ يهوي إلى عدَمٍ، كنرجستينِ فوقَ بحيرةٍ زرقاءَ مغمضتينِ، طافيتينِ في قلبي، مسمَّرتينِ فوقَ الماءِ والعسَلِ المملَّحِ، قلتُ: أنتِ ملأتِ جرحي بالندى والخلِّ، حينَ نضوتِ أزهارَ الثيابِ المخمليَّةِ عنكِ، هل أغويتني بالشوكِ أو نصفِ الدموعِ على عبيرِ البرتقالةِ عندما فسَّرتِ عاطفتي برائحةِ الغمامِ؟ وهل أخذتِ الطفلَ فيَّ لآخرِ الدنيا وأوَّلِ نزوةٍ بيضاءَ كالفرَحِ المجنَّحِ؟ يا ابنةَ العشبِ الشتائيِّ الظلامُ كأنهُ أعمى يقودُ دمي إلى معناهُ، أو شبحٌ يردِّدُ لي صدى ( عينانِ ساحرتانِ، زيتونيَّتانِ، حزينتانِ، عميقتانِ، تحدِّقانِ بكوكبٍ يهوي إلى عدَمٍ..)
*
نداءُ الملح
في ذلكَ الليلِ الشبيهِ بنشوةٍ مطويَّةٍ فوقَ السريرِ، وبالسواحلِ في بلادِ اللازوردِ، رأيتُ عاشقةً يمرِّرُ شاعرٌ يدَهُ على أوتارها، في حزنِ ريلكة كانَ، أو في شوقهِ الأبديِّ لامرأةٍ تخضِّبُ ظهرَها غيتارةٌ غجريَّةٌ، وينامُ فوقَ وسادها قمرانِ، كادتْ أن تهمَّ بهِ وكادَ يسلُّ منها الظبيةَ، الأفعى، الحمامةَ، والفراشةَ، والسحابةَ، لوعةَ النايِ، احتراقَ الماءِ في جسدِ الكمانِ، القطَّةَ الأحلى، ويطلقُ قلبَهُ في شكلِ قنديلِ البحارِ يطيرُ في أبدٍ، ليتبعَ عطرَها في ذلكَ الليلِ الغريبِ أو الشبيهِ بنشوةٍ مطويَّةٍ فوقَ السريرِ، كقبلةٍ منسيَّةٍ، كقصائدِ اللاندايِ، هل من خصلةٍ ورديَّةٍ، أم من نداءِ الملحِ في دمنا سينبلجُ النهار؟
*
قلبٌ مخرَّمٌ بالسفرجل
من كم خريفٍ شاعرٌ يبكي ويضحكُ في قصيدتهِ كسكِّيرٍ، يثرثرُ كالأراملِ، يستجنُّ كعاشقاتٍ غابَ عشَّاقٌ لهنَّ، فيشعلُ الماءَ الذي ينسابُ في المرآةِ، والليمونَ في امرأةٍ تسيِّجُ نهدَها بالوردِ أو بالعوسجِ البريِّ، لا هو حالمٌ كي يستفيقَ من الحياةِ ولا ترابيٌّ ليكملَ في التفاصيلِ الصغيرةِ دورةَ المعنى، يقولُ: سنلتقي عندَ انتهاءِ قصيدةٍ ما أو نهارٍ، شاعرٌ نزقٌ يربِّي ظلَّهُ عندَ التقاءِ النهرِ بالبركانِ، يصمتُ كلَّما قالتْ لهُ امرأةٌ يحدِّقُ في ابتسامتها المضاءةِ بالنحيبِ: السرُّ في عينيَّ، روحي فيهما طيرٌ يرفرفُ فوقَ أجملِ غابةٍ ليصبَّ فيكَ، كأنكَ الشمسُ الأخيرةُ في دمي، والعابرُ الأبديُّ في جسدي، كأنكَ شاعرٌ من كم خريفٍ يرتقُ القلبَ المخرَّمَ بالسفرجلِ والغناءِ العاطفيِّ سدىً، يقولُ: سنلتقي لو في مطالعِ أغنياتِ البدوِ كالغرباءِ، أو ننحلُّ في بعضٍ كآخرِ ذرَّتينِ من الهواءِ، وكانحلالِ ظلامِ ليلِ الشكِّ في نورِ اليقينْ.
*
كطعمِ الحُبِّ في أيلول
من ذلكَ الصيفِ البعيدِ كأنني ما زلتُ أحملُ صخرتي وحدي، وتطفو القهقهاتُ على خطايَ، أشمُّ رائحةً مشبَّعةً بنارنجٍ وغامضةً، كطعمِ الحُبِّ في أيلولَ، في نُزلٍ على نيلِ العجوزةِ، كانتْ امرأةٌ ترتِّبُ ليلَها الشفهيَّ في الضوضاءِ، توقدُ مزهريتها لقلبي كيْ ينامَ، غريبةٌ هيَ، أو أنا وحدي الغريبُ، ولم تكنْ عرَّافةً لتقولَ لي الأسرارَ، أو عذراءَ شاعرةً لتوقدَ مزهريَّتها ورغبتها على مرأى النجومِ، وآخرِ النسيانِ، أو لتعيدَ ترتيبَ الرهافةِ في الصباحِ على طريقتها، وتذهبَ مثلَ برقٍ شعَّ أو ظلٍّ توارى في السرابِ.
*
شمسُ الأغاني
قولي: (مساءُ الخيرِ) للشجَرِ الذي عرَّتهُ ريحُ الليلِ، للمطَرِ النهاريِّ الخفيفِ، لنزوةٍ يأتي بها نوفمبرُ القاسي / الحنونُ، لنأمةٍ فوقَ البحيرةِ أو على طرفِ الحديقةِ، لانتظارٍ كانتظارِ الشِعرِ ساعةَ لا يجيءُ، ولانكسارٍ لا يُفسَّرُ، للغناءِ الساحرِ المغناجِ، للرقصِ المدوَّرِ، للقرنفلِ في السريرِ وفي الكتابِ، لراقصاتٍ حافياتٍ فوقَ رملِ القلبِ، قولي للأصابعِ في الخضابِ، وللمساءِ، لأصدقائكِ، لي: (مساءُ الخيرِ)، صوتُكِ كانَ فاكهةَ الشتاءِ، الآسَ، خبزَ الحُبِّ، نعناعَ الجليلِ، وكانَ قلبي موجَعاً، ودمي كأوراقِ الخريفِ، ولم يكن ندمي معي وخطايَ كي أنسلَّ منكِ كآدمَ المسكينِ، كانَ الليلُ مكحلةً لعينيكِ، القصائدُ ذكرياتِ يديكِ في الفردوسِ، حنطتكِ التي تكفي شعوبَ الطيرِ يا شمسَ الأغاني.
*
قصيدةٌ لا تنتهي
هذي الحياةُ قصيدةٌ لا تنتهي أو لعبةٌ، وجعٌ إضافيٌّ، ظلامٌ ناصعٌ، أبدٌ، نهارٌ مشمسٌ، قيلولةٌ ما بينَ كابوسينِ، لا أدري ولكني أحسُّ كأنَّ قلباً ثانياً في الجنبِ يوجعني، كأنَّ حبيبتي خانتْ، كأنَّ الاخوةَ الأعداءَ صاروا أصدقائي الخُلَّصَ، القوَّادُ أصبحَ سيَّدَ الدنيا، وكلُّ الحبِّ لا يقوى على مسحِ ابتساماتِ البغايا عن وجوهِ الآخرينَ، وعالمُ الأرقامِ يوجعني، كأنَّ دمي على جمرٍ يسيلُ، العاشقُ العربيُّ والعبثيُّ في عصرِ النجومِ يقولُ: يا ليلى أحبُّكِ في الحياةِ وفي المماتِ، وفي المماتِ وفي الحياةِ، وكم أحبُّكَ يا إلهي، العائدونَ من الجحيمِ يبشِّرونَ بجنَّةٍ أرضيَّةٍ، يا سيَّدَ الفردوسِ لا أرقاً أريدُ ولا مرايا كيْ يُقبِّلَ وجهَهُ نرسيسُ فيها، كلَّما مرَّت فتاةٌ قربَ أغنيةٍ، وأمعنَ في تردِّدهِ الجمالُ، وفي تشرُّدهِ دمي، فالظامئُ الأبديُّ لا يكفيهِ ماءٌ في المجرَّةِ، والنهاريُّون كانوا طيِّبينَ معي، ولم أجدْ الحمامةَ في انتظاري عندَ نافذتي، لأغسلَ دمعتي بهديلها الرقراقِ مثلَ أبي فراسٍ في بلادِ الرومِ، لم أجدْ الحفيفَ الأنثويَّ، ولا المزاميرَ الخفيفةَ في انتظاري.
*
حبقٌ مُسهَّد
هيَ كلَّما كبُرَتْ يفيضُ غموضُ نظرتها إلى الأشياءِ، أو تنسى الحنينَ الأوليَّ إلى البنفسجةِ الوحيدةِ، كلَّما نهضتْ تشفُّ كأنها قمرُ الصباحِ وماءُ سرِّ الأقحوانةِ، لا تلوِّحُ للنهاراتِ التي تنأى بعيداً كالقطاراتِ الغريبةِ، أو ترمِّمُ بالقصائدِ لغوَ خسراني، ستهمسُ لي: السرابُ وراءَ قلبي كانَ، فانقشْ فوقَ خاصرتي القصائدَ والنجومَ، أُتركْ لعصفورِ الخريفِ الماءَ يقطرُ من فمِ الصنبورِ، والحبقَ المُسهَّدَ في السريرِ الليلكيِّ، وفتِّشْ امرأةً سوايَ لكي تراني.
*
كم مرَّةً ستحبُّ؟
كم مرَّةً ستحبُّ، أو كم مرَّةً ستعانقُ الصُبَّارِ في أرضٍ تحبُّكَ أنتَ لا ظلَّ السحابةِ؟ قلبُكَ المنسيُّ قنديلٌ يضيءُ الدربَ في ليلِ الدموعِ، وأنتَ توقدُ للبرابرةِ الذينَ تناثروا، وتدلُّ كلبهمُ على قمَرٍ، وآخرَهم على أثرِ الربابةِ، أو على مطرِ الصدى، كم مرَّةً ستحبُّ أو كم مرَّةً ستموتُ؟ عاصفةُ القرنفلِ خلفَ ظهركَ والقطارُ الساحليُّ يفوتُ، في وقتِ الظهيرةِ كنتَ في حيفا وكانَ أمامَكَ البحرُ الخريفيُّ المغطَّى بالغيومِ وبالتنهُّدِ، وهو يرمي ثوبَهُ الأبديَّ قربَ الشمسِ، هل أطلقتَ نورسةً من الأضلاعِ، ثمَّ نسيتَ بابَ العمرِ مفتوحاً على الـتأويلِ؟ كم من مرَّةٍ سترى بخاطفِ نظرةٍ صُوَرَ الطفولةِ، وهيَ تنأى في مدى عينيكَ مثلَ البارقِ القمريِّ، أو تلويحةِ الأشجارِ فوقَ الضفَّتينِ وأنتَ ترمقها على عجَلٍ، وتوغلُ في السرابيِّ المواربِ، لم تكنْ أعمى لتذكرَ أو لتنسى، لم تكن أعمى ولكن كنتَ وحدكَ كالغريبِ، وكنتَ وحدكَ كانسحابِ يديكَ من جسَدِ الحبيبِ، وكنتَ وحدكَ… في الخريفِ يصيرُ لونُ البحرِ أجملَ، واستداراتُ النجومِ تصيرُ أجملَ، والمسافةُ بينَ ساعاتِ الظهيرةِ والمساءِ تصيرُ أجملَ، فوقَ هذا الكرملِ السحريِّ كنتَ فقدتَ أُمَّكَ، وانكسرتَ على الفراشةِ، واشتعلتْ بدمعةٍ حجريَّةٍ، كم مرَّةً ستقولُ: هاويتي القصيدةُ والحنينُ إلى السرابِ رعافُ روحي؟
*
ريشةُ عنقاء
لن أُصدَّقَ نفسي، سأحفظُ عن ظهرِ قلبٍ طريقَ الرجوعِ الطويلَ الذي نقشتهُ مؤابيَّةٌ في دمي، وٍسأمحو تفاصيلَ رغبةِ بعضِ القصائدِ بالركضِ فوقَ النجومِ، سيجتاحني شغفٌ مرضيٌّ برائحةِ الصخرِ والزعفرانِ التي نبتتْ في فمِ الاستعارةِ كالعشبِ، لا لن أُصدِّقَ نفسي، سأتركُ بعضَ الزهورِ لتأكلها الريحُ، بيتاً من الشِعرُ كي تتوضَّأَ غاويةٌ فيهِ، ماءً قليلاً لتشعلَ فيهِ الكوابيسُ حزناً بلا سببٍ، هل لأنَّ البصيرةَ دلَّتْ يديَّ على عنبٍ في مهبِّ الثعالبِ، تحملني الآنَ ريشةُ عنقاءَ حتى المصبِّ الأخير؟
*
حَدْس
بالحَدْسِ يسكنني المغنِّي العذبُ، أتبعُ نجمةً خضراءَ، ألمسُ بالأصابعِ شوكةً مائيَّةً، وأطيرُ فوقَ بحيرةٍ بالحَدْسِ، أو أعدو وراءَ الريحِ، أنتظرُ الشتاءَ، الصيفَ، رائحةَ الخريفِ، النهرَ في نيسانَ، والمطرَ الحزيرانيَّ، أنظرُ في المياهِ وفي الظهيرةِ، ثمَّ أمحو وجهَ نرسيسَ الشقيِّ، وأستقيلُ من الحقيقةِ والمجازِ إلى الأبدْ.
*
أصحو وبي خدَرٌ
أصحو وبي خدَرٌ، أعودُ الى المتاهةِ لحظةً كي أطمئنَّ على صديقي أو على فرَسي العنيدةِ، للسنابلِ أن تميلَ ولي أنا سربُ الحمامِ على انكسارِ الضوءِ، لي الزيتونُ، لي لونُ القطيفةِ، لي نهارُ الصحوِ في كانونِ أوَّلَ، وابتداءُ الحُبِّ، لا أصحو ولكني أريدُ تتبَّعَ النسيانِ كالغرباءِ، أرمي وردتي للطائرِ الدوريِّ، أُغلقُ هاتفي الشخصيَّ، فالأخبارُ مزعجةٌ ويزعجني اهتزازُ الهاتفِ الخلويِّ، بي مطرٌ يسحُّ على الأهلَّةِ أو شبابيكِ الغيابِ، وبي نداءٌ في الزحامِ عليَّ: هل ما زلتَ تذكرُ كيفَ ضلَّلُ شَعرُها بكَ في المرايا والدروبِ؟ أرى الذي سأراهُ من وجعِ الحروبِ، ألوكُ صوَّانَ المسافةِ أو أمدُّ يديَّ للقمَرِ القريبِ، تمرُّ عاصفتانِ قربي، ثمَّ تهدأُ في دمي الصيفيِّ عاطفتانِ، لا يُغشى على أحدٍ سوايَ لأنَّ شخصاً ما غريباً أو تعيسَ الحظِّ ماتَ اليومَ، أو عمراً جميلاً فاتَ في هذا الزمانِ العنصريِّ الوغدِ وابنِ الكلبِ، هل سأرى الذي سأراهُ، أو يُغشى على أحدٍ سوايْ؟
*
نمشي ونرسمُ طائرينِ
نمشي ونرسمُ طائرينِ على الجدارِ، لأنَّ ظلَّاً ما خفيفاً شعَّ من حجَرٍ، لأنَّ حمامةً ناحتْ وراءَ السروةِ الخضراءِ، كنتُ أقيسُ عمري مرَّةً بالسروِ، أو بحرائقِ العنقاءِ تفتحُ لي جفوني، أو سماءَ القلبِ، لم تذهبْ سدىً يا عُمرُ، لم يذهبْ صدى الرؤيا ولا هذا النهارُ سدىً، ولكنَّ الحنينَ يئنُّ في الدمِ مثلَ صوتِ الماءِ أو صوتِ الزلازلِ كلَّما جاءَ الشتاءُ، وأصبحتْ في عُهدةِ امرأةٍ قصائدُ شاعرٍ غيري، انحنى قلبي وكانتْ صخرةَ الآثامِ لي في الأرضِ أو قمرَ البصيرةِ، زهرةَ البريَّةَ الأولى وشمسَ البيلسانْ.
*
دُوار
بي دُوارٌ وبي لغةٌ لا تضيءُ الزنابقَ في أوَّلِ الليلِ، بي حبقٌ منزليٌّ يشقُّ الطريقَ إلى ما يريدُ، دُوارٌ أكيدٌ، سأمضي بهِ، وستمضينَ للغيبِ يا امرأتي كنهاياتِ بعضِ السنينِ، تأخَّرتِ عن موعدي وتغيَّرتِ مثلَ الفصولِ، ولكنني لم أعد مثلما كنتُ أيضاً أنا، ضاعَ فردوسُ روحي وقلبي تصدَّعَ في موجةٍ غيرِ مرئيَّةٍ، وتبدَّدَ في آخرِ البحرِ، عينايَ مشدودتانِ إلى نجمةٍ غيرِ مرئيَّةٍ في الظهيرةِ، والأقحوانةُ قد أكلتها الضباعُ.
*
حَجَلٌ زئبقيٌّ
الوميضُ، العبارةُ، خيطُ المجازِ الذي يتدَّلى من الشرفةِ، المَطَرُ الصلبُ في الخارجِ الآنَ، عاصفةُ النايِ في القلبِ، رائحةُ الذكرياتِ، المناديلُ، طعمُ السحابِ، السُرى في الظلامِ، البروقُ، السماءُ، الرؤى، الأغنياتُ، أفكِّرُ: كيفَ تنامُ العصافيرُ تحتَ الرعودِ ونقرِ الشتاءِ؟ وفي لحظةٍ أتذكَّرُ أنَّ فتاةً من النرجسِ الحلبيِّ ومن زبَدِ البرقِ تنطفئُ الآنَ شمسُ أنوثتها، ثمَّ تنأى وتنسى نصاعةَ قمصانها فوقَ مشجبها المهاغونيِّ، كيفَ أروِّضُ هذا الغيابَ إذن؟ كيفَ أشرحُ أنَّ الشتاءَ يعيدُ توازنَ روحي التي اصطادَها الحجَلُ الزئبقيُّ الذي أطلقتهُ الرسائلُ خارجَ هذا الزمانْ؟
*
آلاءُ فاطمة
آلاءُ فاطمةَ الجميلةِ ليسَ تُحصى، ثغرها الورديُّ يهمسُ لي: افتقدتكَ أمسِ فانشطرتْ فراشاتي إلى شفتينِ، فاطمةُ الرقيقةُ مثلَ عودِ البانِ، والأشهى من الرُمَّانِ، كم سمَّيتُها عصفورتي الخضراءَ، أو يا بنتَ زهرِ الياسمينِ الحُرِّ، من شرقِ البنفسجِ، من شمالِ القلبِ، فاطمةُ الطويلةُ مثلَ أبهى نخلةٍ في الأرضِ، مثلَ الآهِ في الموَّالِ، كانتْ طفلةً حلبيَّةً بأصابعٍ تبكي على الأوتارِ أو بدمٍ من التحنانِ يغلي، صوتُها بالغيمِ أو بالزنجبيلِ يُقاسُ، فاطمةُ البهيَّةُ كالغزالةِ كيفَ لم أرها؟ ولم أسمعْ رنينَ جمالها السحريِّ في قلبي لأسبوعينِ، لكني أُصدِّقُ وعدَها الأبديَّ أو آلاءَ فتنتها، وأُغلقُ بابَ حلمي كلَّما ينسلُّ منهُ القاتلُ الفاشيُّ والمأجورُ ليلاً كيْ يُروِّعني بفاطمةَ الصغيرةِ بنتِ زهرِ الياسمينْ.
*
أهذي كمن في نومهِ يمشي
هيَ لم تكن يوماً هناكَ، وربَّما كانتْ ولم تُخبرْ بأنَّ الطائفيِّينَ الذينَ تناسلوا قصُّوا ضفيرتها التي في الريحِ ربَّتها وفي سهلِ السنابلِ طفلةً وصبيَّةً، وتعهَّدوا دمَها المُراقَ على الترابِ بزمهريرِ الليلِ، شقُّوا ثوبَها الذهبيَّ، فستانَ العروسِ، ونخَّلوا جسدَ الزنابقِ بالرصاصِ الحيِّ، أبناءُ الحرامِ تقاسموها بينهم مثلَ الذئابِ، كأنها تفَّاحةُ الشهواتِ، أو ثمرُ الخطايا الحلوُ، كانتْ طفلةً، لم تُصبحْ امرأةَ الغوايةِ بعدُ، من فمها تغارُ براعمُ الليمونِ، من أجفانها قمرُ البنفسجِ، في وصيَّتها الأخيرةِ لم تقلْ شيئاً، ولم تذرفْ دموعَ القهرِ فوقَ نصاعةِ الكلماتِ، عانقتْ الأهلةَ والصليبَ، توضَّأتْ، صلَّتْ على ماءِ البحيرةِ، أو على جمرِ الشهادةِ، أصبحتْ جان داركَ في النارِ الصديقةِ أو سميَّةَ فوقَ صحراءِ العذابِ، أو أنني أهذي كمن في نومهِ يمشي، فلم تكُ مرَّةً يوماً هناكَ ولم يكنْ أبداً أبو جهلِ اللعينْ.
*
مطرٌ في دمي
(في ذكرى بدر شاكر السيَّاب)
دخانٌ من القلبِ يطلعُ، خضراءُ عنقاءُ روحي، دخانٌ من القلبِ والرأسِ يطلعُ، هاويتي امرأةٌ والرياحُ جنوبيَّةٌ، والظلالُ حياديَّةٌ كأغاني الرعاةِ، سأفتحُ عينيَّ للريحِ، هذا النخيلُ أخي، والمساءاتُ ضيِّقةٌ في اتِّساعِ الحنينِ، هو المستحيلُ الضروريُّ، والشغفُ الهامشيُّ، القصيدةُ أنثى كما قلتَ لكنها لا تطاوعني، كم سمعتُ صليلَ خطاها وكم ذُقتُ صلصالها، مطرٌ في يديها وفي قلبها، مطرٌ في أصابعها وبأخمصِ ناياتها، مطرٌ في دمي، مطرٌ في عروقِ الزجاجِ وفي شجَرِ الطيرِ، ما بينَ وجهي وغيمِ الفراشةِ يا صاحبي مطرٌ أنثويٌّ، وبينَ شفاهي ورمَّانها مطرٌ، كنتُ أمشي على نجمةٍ من صفيحِ الصبا والصبابةِ يا بدرُ، كانتْ قصائدكَ النورَ والنارَ، تفَّاحةَ الروحِ والأقحوانةَ، ليلَ الرؤى ونهارَ البصيرةِ، شرفةَ قلبي ومنفايَ، يا بدرُ مرَّ القطارُ علينا معاً، نزَّ دمعُ المحارِ الذي لا يُرى من أصابعنا، أينَ شمسُ الخريفِ التي شربتْ طلَّ جيكورَ؟ أينَ صدى سقسقاتِ العصافيرِ في جسدَيْ عاشقينِ؟ وأينَ النوافيرُ؟ أينَ النهاراتُ؟ والنسوةُ السبعُ؟ أينَ رمادُ أغانيكَ؟ خضراءُ عنقاءُ روحي، وجيكورُ خضراءُ مسَّ الأصيلُ ذرى النخلِ فيها بأجفانِ حيفا.
*
سهدٌ إضافيٌّ
بي نصفُ جرحٍ ليسَ يبرأُ من ضجيجِ النثرِ، بي صمتٌ شتائيٌّ خفيفُ الابتسامةِ، مائلٌ للغيبِ، لا يقوى على حملِ الرذاذِ ولا العبارةِ، فيهِ تورقُ أغنياتُ الحُبِّ، بي وجدٌ كما ينشقُّ بحرٌ فيَّ أو تأتي الوعولُ إليَّ من ليلِ القصيدةِ، أو يواري الإخوةُ الأعداءُ سوءتهم وراءَ التينِ، بي ومضُ الكلامِ الحيِّ، في القلقِ المواربِ، في اليقينِ وفي حجابِ الظنِّ، بي معنى انصبابِ الريحِ في القصبِ الجريحِ وفي يدِ امرأةٍ تغنِّي للحياةِ سُدىً، ألم يقلِ المعريُّ: الحياةُ كأنها سُهدٌ إضافيٌّ؟ ألم تبكِ الذئابُ على الفريسةِ والجمالُ الآدميُّ على السرابْ؟
*
في اللوحةِ امرأتانِ
في الليلِ وحدي لا أُحدِّقُ في الفراغِ ولستُ أُصغي مُرهفاً لخطىً وراءَ البابِ قلبي، غيمةٌ، ديوانُ شِعرٍ، وردةٌ زرقاءُ، أغنيةٌ، سنابلُ فضَّةٍ، قمرٌ ترابيٌّ، نعاسٌ، قطَّةٌ، أرقٌ، بقايا لوحةٍ، في اللوحةِ امرأتانِ، واحدةٌ تعلِّمُ قلبَها الطيرانَ فوقَ الغيمِ، والأخرى تربِّي نجمةً في بيتها البحريِّ، أو تحتكُّ مثلَ فراشةٍ بشريَّةٍ بي، هل لتحملَ شهوةَ النسيانِ عن عينيَّ قلتُ لها : اتبعيني مثلَ ذئبٍ ضلَّ، أو كسهامِ نارٍ في الفلاةِ، فإنَّ هذا العامَ ضاعَ سُدىً ولم أغسلْ بلمعةِ شَعركِ العينينِ؟ بعدَ اليومِ لن يُوحى إلى قلبي المصابِ بغربةٍ حجريَّةِ الألوانِ، لا مطرُ الظهيرةِ هبَّ من صحراءَ قاحلةٍ، ولا حجَرُ القصيدةِ كانَ خدَّ الأرضِ أو قمرَ الغناءِ.
*
أربعاءُ الرماد
لن أُرتِّبَ فوضى علاقتنا، سوفَ أتركها كالحديقةِ مهملةً وعلى حالها، لا لشيءٍ وليسَ لأنَّ الرياحَ التي طوَّحتْ بيَ روحيَّةٌ، لا لأنَّ المحبةَ نسبيَّةٌ، فظَّةٌ حينَ تبكي بنفسجةٌ في يدي، والنهارَ قصيرُ الخطى، فأنا لم أعدْ أتذكَّرُ ما حلَّ بي من عشيَّاتِ نيسانَ أو أربعاءِ الرمادِ سوى الضوءِ أو ظلِّ ليمونةٍ، يومَ شَّعتْ أصابعُ قلبي ورنَّ صدى جرسِ الأقحوانةِ في حجرِ الليلِ، كانَ الظلامُ حجاباً خفيفاً وراءَ ابتسامتنا، والغيابُ الذي يتنزَّلُ من شرفةٍ لا تُرى مطرَ الذكرياتِ الحميمَ، وكانَ سرابُ الغصونِ التي تتقصَّفُ حولَ فمي أو دمي رغبةُ امرأةٍ لستُ أذكرها، لن أرتِّبْ فوضى متاهتنا، لن أسُّدَّ شبابيكَ قلبي ولن أبتعدْ.
*
شوكُ الحنين
أملٌ يقايضني بلا شيءٍ ولكني أضيءُ الليلَ بالأشواقِ في عمرِ النبوَّةِ، لا فحيحُ الطينِ يُدميني ولا شوكُ الحنينِ لأورشليمَ، أنا سوايَ، وشاعرٌ يهذي ولكن لن أقيسَ اللهفةَ العجلى بثرثرةِ النساءِ، ولا بوردِ الغيبِ، قد أمشي وفي قلبي من الناياتِ أمطارٌ، ولكني أُجيبُ غريبةً بالصمتِ حينَ تقولُ: حدِّقْ بي، بعينيَّ اللتينِ اقتصَّ حزنُ الآدميَّةِ منهما، خمساً من السنواتِ كالخمسينِ أو كالحلمِ، يا أرقي الذي لمَّعتهُ وصقلتهُ بيديَّ، يا أملاً يقايضني بلا شيءٍ، ويعطيني جناحَ فراشةٍ وقصيدةً زرقاءَ خُطَّتْ فوقَ وجهِ الماءِ أو وجعِ الزبدْ.
*
ماذا تريدُ من الحياةِ؟
ماذا تريدُ من الحياةِ أو القصيدةِ؟ قالَ لي أحدٌ، أجبتُ بلستُ أدري، ربَّما ما كانَ يبغي الآخرونَ، العاملُ البلديُّ والشرطيُّ، مأمورُ الجماركِ، نادلُ البارِ الوحيدُ وبائعُ الذُرةِ الشريدُ، وربَّما لا شيءَ، لا أدري، الحياةُ متاهتي الكبرى، القصيدةُ ليلُ هاويتي، ولكني أحاولُ أن أكونَ وأن أُغنِّي، أن أُحدِّقَ في فراغِ الكأسِ أحياناً، وأن أتوسَّلَ النسيانَ، لستُ أرى طريقاً لا تقودُ إلى القصيدةِ أو إليَّ، ولا سماءً تقتفي غيري، ولاستدراجِ أيِّ قصيدةٍ ظهرتْ كأنثى البحرِ لي نايانِ في صدري، ولي حجَلٌ يراوغني ولكن ليسَ يعصيني، لأسبوعينِ أشطبُ في الظهيرةِ كلَّ ما في الصبحِ أكتبهُ، أريدُ من القصيدةِ أن تضيءَ القلبَ لا قمرَ المجازِ المدلهمَّ، جوانبَ الرؤيا الأخيرةِ لا ظلامَ الاستعارةِ، أسفلَ الينبوعِ لا مجراهُ، آخرَ صبوتي لا مشتهى ضلعي، وكاحلَ أيَّةِ امرأةٍ، أصابعَها النحيلةَ، لا هبوبَ نحيبها الأبديِّ في شجَرِ الظلامْ.
*
رملٌ ناصعُ الحيرةِ
تندلعُ الوردةُ في الكتابِ، والعصفورُ في اللوحةِ، والظلُّ الذي في الماءِ، والضحكةُ في عينيكِ، هل أُقشِّرُ الظلامَ عن مَحارةِ الليلِ وعن شَعرِكِ، والليلكَ عن أصابعِ العشَّاقِ؟ أم أُدرِّبُ الخشفَ على الركضِ أو القلبَ لكي يطيرَ؟ رملٌ ناصعُ الحيرةِ في الفكرةِ، ملحٌ جارحٌ يلمعُ في العينينِ، هذا الليلُ سمَّى باسمكِ الأزرقِ كيْ يدلَّ سربَ النورسِ البحريِّ للنجمِ الذي يولدُ من ضلعكِ، كوني أوَّلَ الأشجارِ في سفرِ المزاميرِ، وكوني آخرَ النساءْ.
*
صبوةٌ أولى
طوَّفتُ كابنِ زريقٍ الأرجاءَ وحدي والقصيدةُ سرُّ خسراني الجميلِ، أقولُ: واسعةٌ هيَ الأحلامُ ضيِّقةٌ حياةُ الناسِ، هل أحتاجُ كيْ أنسى التفاصيلَ الصغيرةَ في الشتاءِ الهامشيِّ قصيدةً وفماً وقلباً مثلَ ما لكِ؟ لا يهمُّ الآنَ.. أعرفُ أن قلبَكِ أو شفاهكِ من صفيحِ الصمتِ والرغباتِ، لم تكُ أيُّ شمسٍ حذوَ بابِ الليلِ، لم تكن القصيدةُ في انتظاركِ، والحديقةُ لا تزالُ كنصفِ نافذةٍ مواربةٍ، وأجراسُ النعاسِ تدقُّ، كانَ الزعفرانُ يضيءُ عاصفةَ الظلالِ كشمعةٍ مقطوفةٍ من غيمةٍ، كانَ الظلامُ كوردةٍ ليليَّةٍ موشومةٍ في كاحلِ امرأةٍ تُرقِّصُ ليلَها الكحليَّ أغنيةٌ بلا ايقاعٍ.. اقتربي لتنحسرَ العبارةُ عن فمي وأذوقَ طعمَ الصبوةِ الأولى وزهرَ البرقِ في نيسانَ، أو لأراكِ من خلَلِ السرابِ الحُلوِ في يدكِ المساميرُ الثلاثةُ والإشاراتُ الثلاثُ، قصائدُ الغزلِ التي حُذفتْ من الديوانِ كيْ تنمو على الجدرانِ، والفرَحُ الخفيُّ، روائحُ الماضي، غبارُ القبلةِ الفضيُّ أو أثرُ الحمامِ على السطوحِ وسرُّ ناركِ في المياهِ، وليسَ لي غيرُ الحنينِ إلى الوراءِ أو النحيبِ الآدميِّ على الذي ضيَّعتُ، غيرُ الزمهريرِ وبردِ آخرةِ المتاهِ، فيا إلهي يا إلهي.
*
نافذةُ نوفمبر
في أواخرَ نوفمبرَ الفائتِ الشمسُ كانتْ كقرصٍ من الزعفرانِ، المساءُ كروحِ الفراشةِ، نوفمبرُ.. الكلماتُ التي لم أقلها، التي سوفَ تبقى ورائيَ، نوفمبرُ، الليلُ يسحبُ مني الصدى، آهِ نوفمبرُ، الأنبياءُ القدامى يمرُّونَ في حُلُمي مسرعينَ، أقولُ: صباحُ المحبَّةِ يا وردتي الغجريَّةَ، يا قطَّتي البشريَّةَ، أغفى المُحبُّ على البابِ والبحرُ أغفى على يدِ حوريَّةٍ، شعَّ قلبي على الليلِ، لكنني لم أفكِّرْ بشيءٍ بتاتاً، ولم أسألْ العارفينَ: لماذا يورِّثنا من نُحبُّ العذابَ وأمراضَنا العاطفيَّةَ واللغوَ في شهرِ نوفمبرَ؟ الحبقُ الساحليُّ اكتوى حينَ مسَّ فمي في الظلامِ وفي البردِ، تهذي من الحُبِّ شاعرةٌ في المنامِ، أمن أجلِ زهرةِ لوزٍ يغنِّي السعيدُ من الناسِ، من أجلِ حبَّةِ قمحٍ رأيتُ العصافيرَ ترقصُ، من أجلٍ أُغنيَّةٍ عرَّشَ الياسمينُ على صدرِ إحدى النساءِ؟ سأغلقُ نافذتي آخرَ الليلِ، لا الأنبياءُ القدامى يمرُّونَ من تحتِ قلبي ولا الشعراءُ الجُدُدْ.
*
قصائد مُدوَّرة مكتوبة ما بين أكتوبر 2016 وفبراير 2017