عبد اللطيف الوراري (المغرب):
زمنيًّا- بدأت الهُوّة تأخذ إليها الشعر، أو الشعر يرقص على حوافّها، منذ سنوات السبعينيات التي خرجت من رحم الأزمة الوجودية، وكانت حاسمة في بروز وعي جديد داخل القصيدة العربية تسنده مرجعيّات جديدة في الكتابة هي خليط بين مغامرة البحث واللاشكل والعدميّة والجنون والهذيان، إلا أنها بقيت منسيّة لأنها ترافقت مع صعود نظريات الظروف الخارجية والخطابات الشكلانية التي تحركت خارج كلّ التزام بأخلاقيات الكتابة وحداثتها، ونذرت نفسها لما هو “ضدّ الذاكرة”، ولقصيدة النثر تحديدًا.
بدأ الأمر هَزْلًا مع مسألة الوزن، وحين جاوزتْهُ إلى شكل المعنى وجدت القصيدة نفسها تلعب في تجربة الحدود وتتسلّى معها، خارج شرائط القيمة والوظيفة ومعايير النوع المتواضع عليها؛ إذ لم يعد يستهويها الحدث وأخذت تُكتب في شكل نصٍّ كُـلّياني ومُتعالٍ ومُفارق للواقع الإنساني. التّرحال في اليوتوبيا، وما من يوتوبيا إلّا داخل الذات.
أسهم التركيز على الذات، على دالّ الذات، في التّيه وإشاعة الغموض في كثير من نماذجها الشعرية، ممّا أحدث تشويشاً بائناً لأفق انتظار الذائقة نتيجة “عطالة” الدّلالة أو هدم العلاقة بين دلّ وفهم، بحيث لم تعد الأدلّة تُحيل على مرجع، بل إنّنا ننتقل فقط في سلسلةٍ من الدوالّ لا تنتهي. بمقتضى ذلك، صار الدليل في خطاب القصيدة مُحطّماً، ولم يعد القارئ يعثر على شيء ما كدلالةٍ، وهو ما أحدث، بالتالي، رُعْبًا.
وابتداءً من هذه اللحظة الفارقة، بتنا نعيش الأزمنة التي اهتزّت فيها “مؤسسة” الشّعر، وتأكّلت صورة الشاعر المعتادة بما في ذلك الفوطوغرافية نفسها، المختومة بحبره الشخصي. وبدا كأنَّ هناك تراجُعًا في الشّعر بسبب خفوت صوت الشعراء السياسي وأدوارهم المرجأة باستمرار، وقد مثّل ذلك فرصة الإعلام السانحة حتى تمتلئ الأفواه بحديث الأزمة، أزمة المعنى تحديدًا. ثُمّ أخذ الصراع، بالتدريج، يتحوّل إلى الداخل، أي من صراع سياسيّ وأيديولوجي مبرر إلى صراع شعري- شعري محتقن ضاق معه فضاء القصيدة إلى شيع واصطفافيّين حينًا، ودخلاء ملتقطة حينًا آخر. فيما قلّة اعتزلوا هذا الصراع “الكاووسي” وثمّنوا نداء عزلاتهم الباهظة في الشعر وعبره.
لنقُلْ إن الحديث عن الشّعر غدا، من الآن فنازلًا، أكثر من الشّعر نفسه، وهو حديث أكثر غير ذي شأن؛ لأنّه أخذ يبتعد عن الجوهري والاشكالي، بقدر ما يلتذُّ باستغراقه الطويل في الشّكْليات والتجميلات والمزايدات.
أعود فأقول إنّنا نعيش رُعْبًا: من الرعب التاريخي الذي نشأ من غياب أيّ دورٍ ما، إلى رعب ضياع معايير الكتابة.
وهل غير ذلك في عالمٍ لاشعريٍّ مثل هذا الكابوس الذي يكبس على أنفاسنا ويتربّص بنا مثل نزلة برد حادّة؟
مع ذلك، ثمّة سياسة ما في القصيدة، هي بمثابة الحركة التي تهجع في رحم القصيدة، والتي نهتدي بنا إلى تلك اليوتوبيا في ليل القصيدة، القصيدة الأكثر تقشُّفًا ونَيْلًا.
وإذا كان زمننا منذورا للتّباريح والعذابات، فإنّ الأزمة هي الشرط نفسه للمعنى وهو يتخلّق باستمرار- إنْ ذاتيًّا أو جمعيًّا. عندما يتوقّف المعنى يصير الشّعر ملفوظًا مُنْتهيًا.
بهذا المعنى، تعرض علاقات القصيدة، بطريقتها المُميّزة، الرهان الابستيمولوجي للشّعر بوصفه عملًا فنّيًّا مفتوحًا على كل الاحتمالات، على المجهول. وعليه، فليس الرّهان شعريًّا فحسب، بل سياسيٌّ.
وإذن، ثمّة جدوى تتّقد في كُلّ قصيدة تنزع إلى مثل هذا الرهان، وكفى !