الرئيسية | فكر ونقد | قراءة في كتاب الفكر الإصلاحي بالمغرب للدكتور عبد السلام الطاهري | عبد الله بوروة

قراءة في كتاب الفكر الإصلاحي بالمغرب للدكتور عبد السلام الطاهري | عبد الله بوروة

عبد الله بوروة

 

  • الكتابة الإصلاحية وسؤال النهضة

  • مكانة أفعال الذوات المتخاطبة في الخطاب السلفي

ماهي الدواعي التي جعلت الحركة السلفية القديمة تنبثق في المملكة المغربية؟ وماهي الأصول التي تستند إليها؟ وما هي القضايا التي عبر عنها الخطاب السلفي في المغرب؟ وماهي خصائصه البنيوية والوظيفية التي تميزه عن غيره من الكتابات الإصلاحية؟

هذه الأسئلة عالجها الدكتور ”عبد السلام الطاهري” في كتابه الفكر الإصلاحي في المغرب داخل سياق حقبة زمنية مهمة من تاريخ الفكر الإصلاحي بالمغرب، عرفت أحداثا عاشها الشعب المغربي قيادة وقاعدة، تتمثل في هزيمة إيسلي 1844، وهزيمة تطوان 1859، بالإضافة إلى الصراعات السياسية والاضطرابات الاجتماعية، وما صاحبها من ضغط أوروبي، وتفاحش الحـمايات القنصلية، كـل ذلك كان له تأثير على السياسة المخزنية، وانعكس بدرجات متفاوتة على مفكري الحركة السلفية في هذه الحقبة بالذات، حيث كانت شكلا تعبيريا عن التحولات الاجتماعية والسياسية التي عاشها المغرب.

تتجلى قيمة هذا الكتاب في كونه يضيف إضاءة جديدة للفكر الإصلاحي بالمغرب، وفي المنهج الذي اعتمده المؤلف في قراءة الخطاب السلفي وتحديد مكوناته، ووضعه في إطاره التاريخي وشروطه المادية، التي تحكمت في إنتاجه، وهي قراءة مؤطرة ضمن تطبيق المنهج البنيوي، الذي سخره في تحليل النصوص، باعتبارها تمثل خطابًًا سلفيًًا يضع في اعتباره الواقع التاريخي والسياق الاجتماعي وحالة المخاطب، وفي هذا الإطار جزأ الدكتور ”عبد السلام الطاهري” وحدات الخطاب إلى منظومة نسقية، والى وحدات دلالية متباينة، ساعدته على ربط دلالة الخطاب في هذه المرحلة التاريخية بشروطها المادية التي أفرزته، أي اعتمد على منهجية تفكيك الخطاب والربط بينه وبين محتواه.

يتكون الكتاب من مدخل وبابين، وخاتمة، الباب الأول يتكون من ثلاثة فصول، الفصل الأول، يتناول مفهوم الخطاب السلفي ودلالته، والثاني ظهور الخطاب السلفي في المغرب، والثالث، الأصول الدينية للخطاب السلفي.

أما الباب الثاني فيشتمل على ثلاث فصول، الفصل الأول: يركز على مواجهة بدع الطرقية ؛ ويتناول الفصل الثاني هاجس الإصلاح الاجتماعي / السياسي ؛ والثالث يستعرض الخطاب السلفي المغربي ومثيله المشرقي ؛ وخاتمة.

 خصص المدخل للبحث في المضمون السياسي والاجتماعي والفكري للخطاب السلفي، من خلال طرح إشكالية جوهرية ترتبط بعلاقة السلطة المخزنية بالمجتمع، وموقف السلفية من الأحداث الداخلية، كما تم البحث في الثوابت الأساسية، التي تساهم في التشكيلة الاجتماعية للواقع المغربي، وتوجه الحياة السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية في المجتمع المغربي، وهي السلطة المخزنية، وأصحاب الزوايا والشرفاء وشيوخ القبائل.

 وتناول في الفصل الأول من الباب الأول مفهوم الخطاب، مستثمرا الآليات الجديدة التي تساعد على فهم الخطاب السلفي، والوقوف على خصائص بنية حقوله، وفي هذا الصدد يستحضر نماذج من مقاربات تحليل الخطاب لبعض الدارسين الغربيين أمثال ”هاريس” و ”مانكينو” و”جان كارون”، وبعض الدارسين العرب من بينهم ”محمد مفتاح” و”سعيد يقطين” و ”عبد السلام المسدي”، ويناقش من خلال هذه الآراء علاقة الخطاب الأدبي بالخطاب التاريخي من جهة، وعلاقة الخطاب الأدبي بالخطاب الديني والفلسفي من جهة أخرى، وغايته في ذلك تقريب مفهوم الخطاب بشكل عام، والخطاب الأدبي بشكل خاص.

حدد دلالة الخطاب السلفي بعد رسم صورة الخطاب بناء على النماذج السابقة، وما يتميز به من خصائص بنيوية ووظيفية تميزه عن الكتابات الإصلاحية، حيث رأى أن إصلاح هذه الأمة يتم بما صلح به أولها، ولا يتحقق إلا بالرجوع إلى الإيمان الأصولي الضائع، والقضاء على الفساد الطرقي ومقاومة الهيمنة الغربية.

ولعل الطابع السجالي الذي اتسم به الخطاب السلفي يجعلنا نقف على أبعاده ومراميه، المتمثلة في البحث عن الأصالة وإثبات الهوية الدينية والوطنية، وهو أمر يقتضي العودة إلى الأصل النص – الوحي، والأصل هنا حسب رأي ”كمال عبد اللطيف” هو الماضي، زمن الوحي، لكن الأصل ذات مفقودة يمكن استحضارها عن طريق الحنين الدائم المتواصل.

ويتابع المؤلف تحليله للخطاب السلفي في إطار الالتزام بالمنهج الذي سطره لعمله، حيث توصل من خلال مقاربة نشأة خطاب السلفية المغربية إلى تصنيف الخطاب السلفي ضمن الخطاب النهضوي الإصلاحي أولا، والخطاب الديني ثانيا، والسجالي ثالثا، واعتبر أن للخطاب السلفي وجهين، وجه ظاهر نقف عليه من خلال مواقفه الإصلاحية الدينية والاجتماعية، ووجه خفي (باطن) نلمسه في التوجه السياسي للسلفية ذات الطابع الإيديولوجي، وعلى هذا الأساس ارتبط التصور الديني الاجتماعي بالتصور السياسي عبر مرحلتين متميزتين :

  • المرحلة الأولى : تمثل نشأة الخطاب السلفي الديني المتشدد، وتبدأ من عهد سيدي محمد بن عبد اللـه إلى عبد الرحمان بن هشام.

  • المرحلة الثانية : تمثل مستوى التطور وطغيان الطابع السياسي عليه، وتبدأ من عهد محمد بن عبد الرحمان إلى عهد الحسن الأول.

وفي الفصل الثاني : يقف عند مسألة التأصيل للخطاب السلفي في المغرب، وذلك بالبحث في أسباب انتشار المذهب المالكي في المغرب، ويربط بين خصائص المذهب ونشأة السلفية في أصولها الصافية، حيث شكلت أواخر القرن الثاني عشر الهجري بداية حقيقية للحركة السلفية المغربية، قادها السلطان العالم المحدث ”سيدي محمد بن عبد اللـه”، الذي اعتبره ”الحسن العبادي”، مجدد الأمة المغربية في تلك الفترة التاريخية، ويفسر المؤلف ظهـور الحـركة السلفية في صورة رسمية مخزنية بنـاء عـلى عوامل وأسباب، فمثلت الحركة الإصلاحية في إطار علاقتها بالمذهب المالكي، ورغبة المخزن في الإصلاح والمحافظة على الدين، مع الإشارة إلى خصوصية السلفية المغربية المتميزة عن السلفية المشرقية، ويتساءل المؤلف في هذا الصدد عن المفارقة في فكر سيدي محمد بن عبد اللـه، إذ اتخذ من مذهب الحنابلة عقيدة وطريقة في الإصلاح الديني والتعليمي والقضائي، وناهض التيارات الكلامية الاشعرية، في الوقت الذي كان فيها المذهب المالكي هو السائد في المغرب، ولكن استقراء النصوص التي تؤرخ لهذه الفكرة في هذه المرحلة التاريخية يدل على أن ارتكاز ”سيدي محمد بن عبد اللـه” على مذهب ابن حنبل، لا يعني في نظر المؤلف ارتباطه بالحركة الوهابية الفتية، ولا سيما أن الأفكار الوهابية لم تصل إلى المغرب في عهده، مما يؤكد أن السلفية المغربية لها طابعها المميز لها، إلا أن ”سيدي محمد بن عبد اللـه” كان يتبنى أطروحة العودة إلى الأصول الدينية، والاقتداء بالسلف الصالح.

 ويتابع المؤلف تحليله لتطور الحركة السلفية عبر مسارها التاريخي، فيذكر أنها تطورت في طرحها، وتقوت بمناصريها إبان المولى سليمان (1792-1822)، ويبدو أن حركة الحجاج المغاربة في عهده ساهمت في التعرف على الحركة الوهابية، بل في تسرب المذهب الوهابي إلى المغرب سنة 1811، التي أعلن فيها ”المولى سليمان” تبنيه للمذهب الوهابي، حين أمر كل من العالم ”الطيب بن كيران” و ”حمدون بن الحاج” و ”سليمان الحوات” بالرد على الرسالة الوهابية باسمه، ويعلل المؤلف موقف ”المولى سليمان” من الوهابية وتبنيه لها يرتبط بعوامل سياسية واجتماعية ودينية، نلخصها في حاجة الحياة الدينية إلى الإصلاح وتطهيرها من البدع والخرافات، واعتباره الدين عنصرا حيويا يحافظ على تماسك بنية المجتمع المغربي، وانسجام المذهب المالكي مع توجهات الدعوة الوهابية.

والحقيقة أن الحركة السلفية انبثقت من فكرة الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لمواجهة واقع السلوك الاجتماعي المتخلف، والممارسة الدينية المنحرفة، وتدخل أوروبا في الشؤون الداخلية وفرض نظام الامتيازات والحماية القنصلية على السلطات المخزنية، وخاصة في عهد ”محمد بن عبد الرحمان” (1859-1873)، الذي حاول إصلاح جهاز الدولة كجزء من البرنامج الإصلاحي للحركة السلفية.

وفي الفصل الثالث نبش المؤلف في الأصول الدينية للخطاب السلفي، إذ سعى إلى الربط بين ثوابت الدولة المغربية وهموم الخطاب السلفي، وفسر احتضان ”المخزن” للحركة السلفية، وتبني أطروحاتها فصار جزءا منها، فكانت سلطته الدينية والسياسية شرعية. ولا شك أن قراءة المؤلف لهذه العلاقة بين السلفية كحركة والمخزن كنظام، يؤكد التفاعل في هذه الفترة بين ماهو سياسي واجتماعي وديني، إذ لا تتحقق السياسة الدينية المخزنية إلا بالاعتماد على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتنعكس هذه المسؤولية الدينية وتظهر آثارها في الرسائل والظهائر السلطانية، التي استحضرها المؤلف لأنها تحمل طابعا رسميا نذكر منها : رسالة السلطان ”سيدي محمد بن عبد اللـه” باعتباره رائد السلفية المغربية ومؤسس الخطاب السلفي، وهي رسالة موجهة إلى الولاة والعمال يحملهم فيها مسؤولية انتشار الانحراف الديني وظهور البدع والشعوذة، وهذه الحالة دفعت المخزن والعلماء إلى محاربة الأعراف، عملا بالقاعدة الدينية الثابتة في السنة النبوية ”الدين النصيحة”، وفي هذا الإطار يؤكد المؤلف على أن هذا المبدأ العام الذي انطلق منه السلاطين العلويون، لا يعني أن السياسة المخزنية اقتصرت على الإصلاح الديني فحسب، بل تجاوزت حقله لتشمل الجانب السياسي والاجتماعي، واستطاعت الحركة السلفية، في ظل هذه السياسة أن تعبر عن هموم الأمة، بالدعوة إلى الإصلاح الديني والتعليمي والقضائي، ومناهضة ظاهرة الحماية القنصلية، والوقوف ضد الطرقية.

وقد قرب المؤلف صورة تأصيل الخطاب السلفي عن طريق تحليل نصوص، مثل رسالة السلطان سيدي محمد بن عبد اللـه، والمولى سليمان ومحمد كنون وغير ذلك، ويستنتج أن منتجي الخطاب كانوا متشبثين بمبدأ العودة إلى الأصول، فخول لهم أن يكون كل واحد بمثابة الناطق الرسمي باسم النزعة السلفية، وبالتالي كان السلفي يبادر إلى تأويل منطوق الأصل، الذي انطلق منه في تأسيس خطابه، ومن بين النصوص التي توسع المؤلف في تحليلها رسالة ”سيدي محمد بن عبد اللـه”، ومن خلالها دعم طرحه للمفاهيم والدلالات التي تحيل عليها الجمل الإخبارية، الدالة على الجهل بالأصول، والداعية إلى الارتباط بالمرجعية الدينية الصافية، كما تناول طبيعة تراكيب النص وتوجهاتها، التي تنتظم فيه البنية الفعلية والاسمية، لتشكل سياقا منسجما يحقق تأثيرا على المتلقي، لأنه يخاطب فيه العاطفة الدينية المشتركة، ولا شك في أن تركيز خطاب ”سيدي محمد بن عبد اللـه” على مرجعية دينية هيمنت على النص، وأطرت لغته ضمن حقل معجمي ديني دقيق، جعلت المخاطب يشعر بأهمية القضية المطروحة التي تهم حياته الدنيوية والأخروية، ويسرت تحقيق تواصل فعال بين الباثّ والمتلقي.

وإلى جانب رسالة ”سيدي محمد بن عبد اللـه” يحدثنا المؤلف عن رسالة المولى سليمان الذي تبنى الوهابية، والسلطان ”المولى عبد الرحمان’ الذي اصدر عدة ظهائر لقواده وعماله يحثهم على الإصلاح الديني وتطبيق الشريعة في حق كل من خالف أحكامها، والسلطان ”المولى الحسن” الذي وجه رسالة جامعة اشتهرت باسم ”الوصية القرنية”، ويشير إلى بعض العلماء الذين مثلوا الحركة السلفية في تلك الفترة، ومنهم ”محمد كنون” الذي نادى بضرورة استعادة الوعي الديني الأصولي، وتطبيق مبدأ النصيحة، ومحاربة التصور الطرقي الخاطئ للإسلام، ولعل المؤلف أراد من الاستشهاد بهذه الرسائل السلطانية، أن يبرهن على فكرة مفادها أن الدعوة السلفية القائمة على استعادة الوعي الديني الأصولي، ومـبدأ النصيحة، هي دعوة مغربية لها جذورها في الفكر المغربي، ورائدها هو ”سيدي محمد بن عبد اللـه”، ثم امتدت أصولها إلى السلاطين الذين جاءوا بعده، الأمر الذي يدل على مغربية نشأة الحركة السلفية، ومدى ارتباطها بالظروف الاجتماعية والدينية والسياسية، وأنها كانت قادرة على التعبير عن التلاحم بين الحركة السلفية والنظام المخزني في تلك الفترة التاريخية.

أما الباب الثاني من كتابه فقد خصصه للحديث عن الحملة التي قادتها الحركة السلفية لمحاربة الطرقية التي ابتعدت عن الكتاب والسنة، وقد بسطها في ثلاثة فصول :

في الفصل الأول من هذا الكتاب يتناول أهم الطرق الصوفية بالمغرب، ويعرج على اختلاف اتجاهاتها ويشخص أسباب انحراف بعضها عن الدين، ووقوعها في الجهل والتضليل، مما عجل بدخول المجتمع المغربي في عصر الانحطاط والتقهقر، ومن خلال استقرائه لنماذج من نصوص الحركة الصوفية المغربية يخلص إلى نتيجة هي أن معظم الزوايا الكبرى، التي قاومت سياسة المخزن أو سايرتها أو ناهضت سياسة التدخل الأوروبي في الشؤون الداخلية للمغرب، نشأت بالذات على مشهد من النظام العلوي، الأمر الذي يفسر أن الحركة الصوفية المغربية كانت تربط البعد الديني في علاقة جدلية بالبعد السياسي.

وتأسيسا على بعض الروايات التاريخية، يرى المؤلف أن الطرق الصوفية التي ظهرت في المغرب ينحدر أصل جلها من الطريقة الشاذلية التي ترجع في أصلها إلى الطريقة المشيشية، لأن الحسن الشاذلي مؤسس الشاذلية كان تلميذا للمولى عبد السلام بن مشيش، ومن بين هذه الطرق التي خصها بالذكر لأهميتها : الطريق القادرية، والجيلالية، والجزولية، والشرقاوية والعيساوية، والحمدوشية والدرقاوية، والتيجانية، والناصرية، والصادقية والوزانية، والتهامية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الطرق الصوفية رغم انحراف بعضها، كانت تتمتع بقوة روحية ونفوذ رمزي في المجتمع، وكان الانضمام إلى بعضها عرفا اجتماعيا يشمل العامة والخاصة، بما فيهم رجال المخزن، الذين اضطروا إلى مداراة الطرق الصوفية، ومحاولة استغلال نفوذها لصالح المخزن، فكانت تقدم لها الهدايا، وتعفى من الضرائبـ لاستقطاب شيوخها وأتباعها.

وأمام هذا الوضع، كان للسلفية دور كبير في التصدي إلى الفكر الطرقي المنحرف، كالعيساوية والجيلالية والدرقاوية الذين اتخذوا من الرقص والغناء وآلات الطرب ممارسات تعبدية، ويعتبر السلطان المولى سليمان من السلفيين الذين حاربوا الطرقية وهكذا استمرت عملية مواجهة الطرقية من قبل الفكر السلفي، الذي استنكر رجاله الممارسات الشاذة الخارجة عن الشرع، وستبلغ ذروتها على يد ”محمد كنون” و ”أحمد خالد الناصري” ثم ”مولاي عبد الحفيظ”.

والحق أن القراءة التي قام بها المؤلف للحركة السلفية في الفترة التاريخية المحددة من 1757 إلى 1894، متتبعا نصوصها في المظان الأصلية، ومحللا خطابها بأحدث المناهج اللغوية تكتسي أهمية خاصة، لأنه استطاع أن يبرهن على خصوصية الحركة السلفية في المغرب، التي سمحت بصياغة الطروحات والمقولات الإصلاحية، التي تستهدف تجديد المجتمع المغربي، من خلال تجديد فكره الديني، وتصحيح سلوكه الاجتماعي، والسياسي. ولعل هذه الخاصية التي تنفرد بها السلفية المغربية هي التي ساعدت ”المولى سليمان” على توظيفها كإيديولوجية دينية إصلاحية، وكإيديولوجية سياسية، اعتمدها في بلورة خطابه الديني، وإستراتيجيته الإصلاحية، كما يتبين ذلك من خلال الرسالة التي وجهها إلى شيخ ”الزاوية الوزانية” علي بن احمد الوزاني في سنة 1796.

كما يمكن أن نذكر في المجال نفسه، أن موقف ”المولى سليمان” من ظاهرة الطرقية، وانفتاحه على الوهابية ساهم في بلورة خطابه السلفي، وحدد مواقفه المناهضة للفكر الغيبي، المناوئ لمقاصد الشريعة الإسلامية، كما أن وهابيته كانت أداة لهيكلة الأوضاع الداخلية بشكل جديد، من الناحية السياسية، لا سيما بعد اضطراب الأوضاع على اثر موت ”سيدي محمد بن عبد اللـه”، وهكذا فإن الوهابية المشرقية تلح على تطبيق الشرع ولو بدون ”خلافة”، بينما تسعى الوهابية المغربية إلى تطبيق الشرع مع وجود سلطة شرعية، وتؤدي وظيفتها بمباركة السلطان.

وفي الفصل الثاني ينتقل المؤلف إلى الحديث عن أزمة التعليم والدعوة إلى إصلاحه، باعتباره هاجسا شغل الفكر السلفي، حيث نادى السلفيون بضرورة حل الأزمة التي تعيشها المنظومة التعليمية، بسبب خضوعها إلى نظام المختصرات، والحفظ، وعدم الاجتهاد، وتحديد البرامج التعليمية، لذلك اتجهت خطة الإصلاح إلى مكونات العملية التعليمية، وعناصرها الأساسية المتمثلة في مناهج التعليم والكتب المقررة، وطرق التدريس. وهنا لا بد من الإشارة إلى اكتشاف جوانب أخرى في شخصية المؤلف الفكرية، وتكوينه العلمي الرصين، وإلمامه الدقيق بعلوم التربية، إذ يقدم لنا تحليلا عميقا للمشاكل التعليمية التي عانت منها الدولة المغربية آنذاك، وذلك بالكشف عن أسرار منهجية التدريس ونقد المواد الدراسية المقررة، وبيان أثرها على المتعلمين، بسبب عقم مناهج المدرسين، التي كانت تعتمد بالأساس على الحفظ والاستظهار للمتون والمختصرات فكانت طريقة التلقين تتم بالرواية والأسانيد، وإهمال ملكة التحليل والتمحيص بين المرويات، والتسليم بقداسة الشروح والحواشي، أما طريقة الدراية فكان العمل بها محدودا نظرا لضعف التكوين الديداكتيكي للمدرسين، الذين اهتموا بملكة الحفظ وأهملوا ملكة الفهم والاستنباط، ولم ينفتحوا على معطيات العلوم.

والى جانب الإصلاح في المجال التعليمي، اتجه الخطاب السلفي إلى الإصلاح القضائي لتحقيق العدالة الاجتماعية، ويشير المؤلف إلى ضعف مسطرة السلطة القضائية في هذه الفترة، بسبب مظالم الولاة واستفحال نفوذهم، وفي هذا الإطار اصدر ”سيدي محمد بن عبد اللـه” أوامره إلى القضاة والولاة في شكل مراسيم لتنظيم شؤون القضاء والإفتاء، ويحلل المؤلف بعض الظهائر والمراسيم الصادرة في هذا الشأن، فيلاحظ أنها تتميز بالتهديد لكل من نقض خطاب السلطان الأمري بالعقوبة التامة، كما أن منتج الخطاب في هذه المناشير يحدد مستويات الأحكام، ويبين أهميتها، مما جعل خطابه يتحول من الإقناع والاستمالة إلى الأمر والإلزام.

ثم تابع المؤلف في نفس الفصل معالجته لقضية أخرى تتعلق بأثر السلفية في رفض الحماية القنصلية والاحتماء بالأجانب، فيؤكد أن مسالة الحماية القنصلية كانت في مقدمة القضايا التي استأثرت باهتمام الخطاب السلفي، باعتبارها السبب المباشر في تخلف واضطراب المجتمع المغربي، مما جعل فكرة رفضها عاملا مشتركا بين جميع من كتبوا عن الحماية القنصلية وعن المحميين.

وفي الفصل الأخير يقوم المؤلف بدراسة مقارنة للخطاب السلفي بالمغرب ونظيره المشرقي، معتمدا على منهج الأثر والتأثر في محاولة لرصد الاتصال بين الخطابين السلفيين المغربي والمشرقي، وطبيعة الائتلاف والاختلاف بينهما.

وقد اثبت المؤلف بفضل صرامة المنهج الذي سلكه في المقارنة أن طبيعة النظام السياسي الذي عرفه المشرق العربي في عهد حكم الأتراك، لم يسمح بأي اتصال رسمي مباشر، بين المملكة المغربية والخلافة العثمانية، لان المغرب ظل البلد الوحيد الذي لم يخضع لسلطة الأتراك، وإن كانت هناك عمليات تواصل محدودة بين الخطاب السلفي المشرقي ومثيله المغربي، عن طريق الحجاج المقاربة، وبعثات الطلاب العلمية إلى المشرق، بالإضافة إلى وجود وجوه تشابه بين الخطابين على مستوى التوجه العقدي، والدعوة إلى الإصلاح الديني والاجتماعي، وهو أمر واضح في خطابات سلفيين القرن الثامن عشر والتاسع عشر.

ويخـلص الـمؤلف إلـى أن الخـطاب السلفي في المغرب هو وليد ظروف دينية واجتماعية وسياسية عاشها المغـرب فـي نهاية القرن الثامن عشر وخلال القرن التاسع عشر، لذلك تميز الخطاب السلفي في المغرب بكونه خطابا وطنيا يعبر عن وعي السلفيين، الذين حملوا راية المقاومة بروح إسلامية قوية، وحمية وطنية مثالية، بينما استمر الخطاب السلفي في المشرق إلى جانب خطابات نهضوية أخرى، حيث وصل إلى درجة الحدة والعنف، الذي عرف به الخطاب الوهابي في المشرق.

ذلكم هو كتاب ”الفكر الإصلاحي بالمغرب” لمؤلفه الدكتور عبد السلام الطاهري، حاولنا في تحليل سريع ومختصر الوقوف على الإضافات النوعية، التي وردت في هذا الكتاب القيم.

 وعلى العموم فإن كتابا فيه ثراء كهذا، لا يمكن أن يختزل في هذه الوريقات، وإنما هو يستحق في أكثر جوانبه قراءة متبصرة ومتأنية، تمكن القارئ من مضمونه الفني وشكله الرصين، لأنه قدم لنا قراءة جديدة للخطاب السلفي، الذي مازال في حاجة إلى سبر أغوار نصوصه الغنية بالدلالات التاريخية والاجتماعية، التي واكبت تحولات المجتمع المغربي عبر تاريخيه الطويل، وقدمت البديل الذي يحفظ الذات المغربية، ويحمي الهوية الدينية من التبعية والاستلاب، ويكفي هذه الدراسة شرفا ومنزلة أنها فازت بجائزة علال الفاسي الفكرية لسنة 2005.

وأخيرا فإن موضوع الفـكر الإصلاحي بالمغرب الذي قدمه المؤلف ”عبد السلام الطاهري”، يبلور مادة معرفية وصرامة منهجية، وقراءة عالمة متميزة، لأنه انطلق من منظور منتجي الخطاب السلفي، الذين تفاعلوا مع الواقع السياسي والاجتماعي، حيث حاول المؤلف أن يستنطق نصوصهم ويحلل خطابهم، فعرف بالقائل، وفهم ماذا يقول، وأعاد البناء حسب الكيفية التي يمنحها مقول القول، وحسب زمن التلقي.

والجدير بالذكر أن المؤلف له إلمام واسع بالمخطوطات، مكنته من استحضار النصوص وتحليلها ومقارنة بعضها ببعض في إطار الاستدلال بالمناسب منها، كما يحيلنا على مادة مرجعية غنية متنوعة، تجمع بين المخطوط والمطبوع  والمرقون من رسائل جامعية ومجلات ودوريات.

إن هذا الموضوع يغري بالبحث والدراسة، ويفتح لنا أبوابا كبيرة للمزيد من اكتشاف مستويات الخطاب السلفي وخلفية تساؤلاته، لاسيما في زمن كثر فيه الحديث عن سلفيات لا تعد ولا تحصى، واختلط الحابل بالنابل، وتناسلت أسماء بدون مسميات، وظهرت أشكال لا تمت بصلة إلى السلفية المغربية، التي نجحت هذه الدراسة في تأصيلها والتأكيد على مغربية نشأتها، ووطنية أبعادها وصفاء أصولها، وارتباطها بالأسرة العلوية التي حافظت على استقرار المغرب الديني والسياسي والاجتماعي منذ قرون، وهاهي اليوم تقدم نموذجا حيا في الممارسة الدينية الصحيحة، وتلقن العالم دروسا في التدين المعتدل والتسامح الراقي المتشبع بقيم الإسلام ومثله العليا.

ولا أدل على أهمية هذا الكتاب، الذي نشره المؤلف في سنة 2008، أن جامعة شعيب الدكالي ممثلة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، أعلنت عن فتح تكوين في الدكتوراه في موضوع ”فكر الإصلاح والتغيير في المغرب”، ووضعت محاوره للبحث في الفكر الديني وقضايا الإصلاح في علاقتها بالواقع الاجتماعي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.