الرئيسية | سرديات | قدر امرأة : ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

قدر امرأة : ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

كنا مجموعة من المغتربات، مغربيات وجزائريات وكنا نلتقي في بار البوب بار. نشرب بيرة باردة ونتبادل أطراف الحديث. نتحدث عن أزواجنا وأطفالنا. نستريح ساعة من العمل قبل أن يأتي أوان جلب الأطفال من المدارس. في بعض الأحيان نجتمع للأكل عند واحدة منا. نصنع أطباقا مغاربية وننصت للموسيقى الشرقية. كانت تلك اللقاءات تخفف عنا وطء الغربة وقسوتها.

كانت كريمة أجملنا، سمراء اللون وجهها يشع بالحيوية والذكاء. كانت أستاذة فرنسية وتعيش مع فرنسي عاش أهله في تونس إبان الاحتلال الفرنسي هناك. كان شخصا باردا ويتعامل بسوء وسخرية مع كريمة. كنا نشهد استهزاءه بآرائها في كل مرة تدعونا إلى السهر عندها. كانت كريمة تثور وتصرخ في وجهه وهو يظل هادئا ويسخر من غضبها. كان يحولها إلى كاريكاتور لامرأة هيستيرية. حين تبدأ في الصراخ يقول لبناته: أنظروا أمكم الهيستيرية.

كان لكريمة بنتان جميلتان. ذكيتان وطموحتان. كانت تعتز بهما كثيرا لكنها تغضب منهما لأنهما تميلان لآراء أبيهما عن طبعها الهيستيري. غالبا ما كانت كريمة تتعارك مع ابنتها الكبرى لكنها أشياء عادية تحدث بين أم وابنتها. كانت أمور كريمة ستستوي لو أنها اختارت أن تنفصل عن شريكها وتستقر مع بناتها في شقة مستقلة. كنا نراها تتردى يوما بعد يوم في السكر وفي الحشيش. كانت لا تهدئ إلا بعد أن تجد حصتها من المخدر. تحشش إلى أن تغيب عن العالم. فاتحناها في الموضوع وبشأن مخاوفنا من إدمانها وقالت أن الحشيش هو ما يمكنها من الاستمرار في حياة عفنة.

كنا نشاهد انحدارها، السكر في البار ووصلات العراك مع الزبائن. صارت عدوانية وتبحث عن المشاكل مع الجميع. صارت تتغيب كثيرا عن عملها وتبدو شاردة طيلة الوقت. كانت ميالة للنقاشات السياسية المثيرة للحساسيات. تشرع في النقاش مع الزبائن وتثور إن خالفها أحد الرأي. كانت فوضوية في تفكيرها السياسي وعدمية للغاية وتعتبر الجميع فاسدين، عاجزين عن تسيير الشأن العام. كانت تصب جم غضبها على اليمين واليسار وحتى على الجمعيات والنقابات والأديان جميعها وجميع أشكال التفكير. كنا نعرف أن غضبها يخفي إخفاقها في حياتها الشخصية وفشلها في خلق حياة مختلفة عن نشأتها. نشأت في أسرة تتكون من 11 طفلا. أسرة مفككة يسود فيها العنف بكل أشكاله. تخلت عنها أمها إحدى عشر سنة. تركتها تعيش عند جدتها في وهران قبل ان تعود لتحملها إلى فرنسا. وجدت نفسها في أسرة جديدة لا أحد له مكان فيها. كانت في صراع مستمر، في معركة طاحنة من أجل البقاء. كنت أتمنى أن تجد القليل من الراحة. أن تأنس لشخص ما وتنزع عنها قناع القسوة والعنف لكنها كانت غارقة في تكرار نفس مشهد طفولتها: الاقتتال.

حاولت أن أقنعها بأن تزور طبيبا نفسانيا أو معالجا وان تحاول أن تفهم نفسها. غضبت ووصفتني بالبرجوازية الخنوعة. الذهاب إلى المعالج النفساني في نظرها دليل عجز واستسلام أمام الأخلاق البرجوازية أما هي فتقاوم نمط التفكير السائد.

كنا قلقات على مصيرها فهي تسرف في كل شيء وتتصرف كأن سلامتها لا تعنيها. كانت تسعى إلى الدمار ونحن عاجزات.

ثم حدث شيء قاتل، اكتشفت خيانة زوجها مع كاترين أقدم صديقة لها. صارحها بالأمر وخيرها بين أن تبقى أو ترحل. سألت بناتها الرحيل فأجبنها أنهما تفضلان العيش مع أبيهما لأنها هيستيرية وهما لا تحتملان صراخها وسكرها. أتانا الخبر في البوب بار وكان صاعقة. كاترين؟ كيف يعقل؟ كانت صديقتنا وكم مرة قضينا سهرات معها وكانت تعامل كريمة كأخت. كانت تلك الخيانة هي القشة التي قصمت ظهر الجمل. صارت كريمة أكثر سكرا ولم تعد تذهب إلى العمل وصارت أفكارها أكثر تشتتا. طلبت تسوية معاشها في التربية الوطنية. غادرت بيتها الأنيق في ثانوية المدينة. تركت كل شيء لشريكها ورحلت بحقيبة ملابس وبعض الكتب. عادت إلى ضاحية باريس لتعيش مع أسرتها. زرتها هناك ووقفت على حقارة إخوانها وأخواتها. كانوا يستهزئون بها، يسخرون ويضحكون من آرائها وأفكارها. كانت تصرف الكثير من أجلهم وتعد الأطعمة وتشتري أشياءً كثيرة لكنهم كانوا ينتقدون مجهوداتها. كانوا يتكلمون عنها بالسوء في جحود لا مثيل له. كانوا صغارا و لئاما . شعرت بالألم من أجل كريمة وفهمت لماذا هي بتلك القدرة على تدمير ذاتها. لم يكن ممكنا لها أن تعتني بنفسها وقد نشأت في عالم اللئام. صارت تتحدث عن مشاريع غريبة، أن تفتح كشك سجائر، أن تصير سائقة تاكسي. مشاريع لا تتلاءم وديبلوماتها وتكوينها الجبار في الفلسفة والفنون وعلوم التربية.

كانت تأتي إلى آلبي لتطمئن على بناتها وكنت أفتح لها بيتي تبيت معي. غضبت ذات يوم وسبتني سبابا فظيعا لأنني أدرس علم النفس: العلم البرجوازي الذي تمقته. كنت أعرف أنها تمقت علم النفس لأنها لا تريد أن تواجه نفسها بماضيها وبمخاوفها الدفينة. انصرفت من بيتي غاضبة ولم أعد أراها.

بعد سنة من غيابها أتانا الخبر الصاعقة: ابنتها الكبرى انتحرت بعد فشل عاطفي وكريمة أصيبت بسرطان الرئة. لم أعرف إلا بعد الدفن.

مرت سنتان وكنت أفكر من حين لآخر في كريمة وأتلقى أخبارها من الصديقات إلى أن أتى يوم، التقيتها صدفة في الشارع الرئيسي. لم أتعرف عليها لأنها نحلت كثيرا وهرمت وصارت تبدو أكبر من عمرها بكثير. كان وجهها محفورا. تجاعيد الألم والفقد رسمت أخاديد في وجهها الأسمر الجميل لكنها احتفظت بضحكتها وبشيء من اللامبالاة من العالم وحوادثه.

لم أعرف كيف أعزيها، لاحظت ارتباكي، قالت

 – كنت أعرف أن ابنتي يمكن أن تموت قبلي لهذا لست حزينة. المسألة مسالة وقت فقط.

– والسرطان؟

– مرض مثل باقي الأمراض. يجب أن نموت من شيء ما

– والسجائر ما زلت تدخنين

 – وأدخن الحشيش أيضا وأشرب. لاشيء يمكنه أن يثنيني عن الحياة التي أحبها صخب، حشيش وسكر إلى أن أكسر أنفي في حانة ما. أخرجي من أوهامك البرجوازية وانظري إلى الحياة، إنها العبث فلنعبث بها قبل أن يعبث الموت بنا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.