الرئيسية | فكر ونقد | في ذكرى شاعرة ثائرة اسمها نازك ملائكة | سعيدة بنسليمان

في ذكرى شاعرة ثائرة اسمها نازك ملائكة | سعيدة بنسليمان

سعيدة بنسليمان:

 

الليلُ يسألُ من أنا

أنا سرُّهُ القلقُ العميقُ الأسودُ

أنا صمتُهُ المتمرِّدُ

ها نحن عند قُرابة منتصف القرن الماضي، الحرب العالمية الثانية وضعت أوزارها والعالم يلملم شتاته، الفوضى والعبث هي الفلسفة التي صارت تستحوذ على النخبة، إذ لابد من تغيير جذري في ركائز العالم… في أرض النهرين، هناك!، ليس بعيدا عن الحضارة الضاربة في التاريخ والقِدم، بزغ بدر شاعرة استثنائية، سيكون لها باعها الطويل وأثرها الدائم في التاريخ الأدبي العربي، إنها “نازك الملائكة” (1923-2007) الشاعرة والناقدة، أو لنقل النقلة السريعة نحو الحداثة الشعرية العربية.

وإن يتضارب النقاد ويكثر قولهم وقيلهم حول من كانت له بادرة الفتح المبين نحو الحداثة الشعرية العربية، نازك الملائكة أمْ بدر شاكر السياب، ليس بين الأولى والثاني أي فرق في تاريخ إصدار أولى قصائد “الشعر الحر” الذي نسميه نقلة نحو المستحيل والشفاف. هنا لا يهمنا من كتب أول مرة بل الهم هو الحديث عن سيدة “متمردة”..

نازك الملائكة وإلى جانب زملائها “الرجال” كان لها بقوة وصرامة أن تنقل الشعر من سباته إلى حياته الجديدة، إنها قفزة جريئة ولو كان مصدرها “الكوليرا”. قد تكون نازك تتقاسم الريادة رفقة صديقا الشاعر السياب، إلا أنه في منتصف القرن الماضي حيث مازالت “الذكورية” تستحوذ على المجتمعات المشرقية بزغت شمس ملائكة أنثى، بل شمس “ثائرة”، رغما عن كل الصعاب والعوائق التي كانت تواجهها الأنثى من اقصاء وتهميش..

ابنة عائلة عراقية مثقفة وعالمة، من مواليد بغداد (1923) من أب مغرم بالشعر واللغة العربية ودارس للفقه والمنطق والشعر وأما الأم ففتاة يافعة لم تبلغ بعد السن الصالحة للأمومة، ولكنها مغرمة بقراءة القصص وسير الأبطال والشعر العذري. جو من الأدب وحبه هو أين ترعرعت فتاة “ثائرة ومتمردة” اسمها نازك الملائكة سمراء نحيلة الجسم، سوداء الشعر والعينين لا تعني بهندامها وكانت جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها ان تعاقب مهما كان العقاب شاملاً لسواها، ستصير  بعد 25 سنة من مولدها فاتحة لأفق جديد في الأدب والشعر العربي وثائرة على السائد والمعروف.. وأليست تحمل اسم تلك الثائرة السورية “نازك العابد” على السلطات الفرنسية وتيمنا بها؟.

خريجة دار المعلمين العالية (1944) ومعهد الفنون الجميلة (1949) مما يجعل منها فنانة وأديبة متعددة الآفاق والمهارات، طموحها سيدفع بها عبر شغف التطلع والمعرفة إلى السفر نحو أمريكا سنة 1950 لدراسة الأدب المقارن في جامعة برنستن. كل هذا لم يمنع طمع هذه الشاعرة من البحث عن إغناء رصيدها المعرفي إذ التحقت العام 1954 بالبعثة العراقية نحو جامعة وسكونسن بأمريكا لدراسة الأدب المقارن-أيضا، وأخذت بالإطلاع على الآداب العالمية، فإضافة لتمرسها بالآداب الإنكليزية والفرنسية تلقت العديد من النماذج الأدبية الحية من الأدب الألماني والإيطالي والروسي والصيني والهندي.. فأثرت نفسها بثقافة متنوعة وإنسانية واسعة المدى. لتصير بذلك مشبعة بمختلف التمثلات الأدبية العالمية. ستعود نازك الملائكة إلى بلادها للتدريس في الجامعة ببغداد، ومنها جامعة البصرة ثم جامعة الكويت، انتقلت للعيش في بيروت لمدة عام واحد ثم سافرت عام 1990 على خلفية حرب الخليج الأولى إلى القاهرة حيث توفيت عامها 2007.

حصلت هذه الشاعرة الاستثنائية على جائزة البابطين عام 1996، على خلفية ما قدّمته للأدب العربي والشعر منه بالخصوص. فهذه الشاعرة ناقدة مبدعة أيضا، فإلى جانب نقدها الأكاديمي الصرف الذي نلمسه في مؤلفها “قضايا الشعر المعاصر” (1962)، كتبت مجموعة من النصوص النقدية الشاعرية، نصوص يكتبها الشعراء عن الشعراء، عبر لغة براقة وشعرية لا تنحو نحو الجفاف الأكاديمي بل إلى الكثافة الشعرية واللغة الهشة. مما يجعل منها شاعرة وناقدة بامتياز إلى جانب كونها مجددة وثائرة.

وها نحن اليوم نحتفل بذكرى امرأة وشاعرة ثائرة واستثنائية، اسمها نازك الملائكة، قدّمت للشعر العربي دفعة قوية نحو إحياء دمه  أن يصير حرا ويتحرر من القيود القديمة والضاغطة والكابسة للإبداع خارج القواعد الموحدة. فسلام إلى روحها.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.