الرئيسية | سرديات | فقاعات ساخنة : ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

فقاعات ساخنة : ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

كنا أطفالا و لانتوقف عن اللعب. نقضي مابعد الظهيرة وردحا من الليل في اللعب. كان من ألعابنا الزواج. نقيم خياما في دار جارنا. نهيئ الأعراس ونزف العرسان إلى داخل الخيام. لكل زوج خيمة وحفلة خاصة. كان نصيبي من لعب الزواج هذا حميد الفتى الذي كان يفتنني بلغته الفرنسية وإتقانه للأشعار. كان أبوه موظفا ساميا أوقف عن عمله لسبب غير واضح يوشوشه الكبار ولم نعرف يوما ما هو سبب فصله. كان رجلا ذا هيبة يرتدي السترات الغربية ويضع سراويل بشدادات إلى الكتفين ” بروتيل” ويضع ربطة عنق على شكل فراشة. كان يتحدث الفرنسية بطلاقة وينصت لاديث بياف وجاك بريل. كان يدخن الغليون وكنا ننظر إليه بإعجاب كبير.
ورث حميد عن أبيه حبه للفرنسية وكنت أنا أيضا أحب تلك اللغة وأتفوق فيها. كنت في الثامنة من عمري وكنت أذوب في الشعر وأعتبره أكثر قدسية حتى من الآيات القرآنية. كان حميد يدخل علي الخيمة ويزيل الإزار الذي على وجهي, يمرر أصابعه على وجنتي ويتحفني بشعر فرنسي إلى أن تنتهي مدة استفادتنا من الخيمة ليدخل أزواج آخرون.
كنت أعتقد بالفعل أن مايحدث بين الزوجين هو قراءة الشعر ولم أكن قد عرفت بعد سر الأطفال والإنجاب. سأتعرف على ذلك فيما بعد في درس التربية الإسلامية حيث حدثنا المعلم عن دم الحيض ودم النساء. أن يأتي الأطفال من ذلك المكان اللزج أثار بداخلي الغثيان. كنت أفضل أن ياتوا من قصيدة أو يكونوا ذرات تسافر في العالم وتلتقي آباء وأمهات يعتنون بهم. كنت أرفض مادون التفسير الشعري للأشياء فالأنهار تبكي مثلها مثل الإنسان والسماء تدمع حين تمطر. كان لكل شيء في ذهني روح وكينونة وإحساس. كنت أنظر للكون كله على أنه لايختلف عن الإنسان ومن ثم فهناك أهواء ومشاعر في كل كائن وحتى في الحجر. كنت أنصت لحميد وهو يقرئ لي كلمات بريفير أو درر ايلوار وأحلم أن نعود إلى الخيمة, أن نبقى متزوجين طيلة الحياة. كانت صورة الزواج تلك صورة شعرية جميلة. كان حميد شخصا رقيقا مثلي, كنا نبتعد عن الأطفال الذين يقتلون القطط ويقطعون رؤوسهم.كنت أبكي حين أرى شخصا يضرب كلبا وذات يوم وجدت حمارا وحيدا في الفران العمومي. عدت به إلى البيت وطلبت من أمي أن نحتفظ به لأنه حزين ووحيد. سخروا مني وجعلوني أعيد الحمار إلى مربطه.
كنت حزينة يومها والوحيد الذي واساني كان زوجي حميد قال لي أننا حين نكبر سنتزوج فعلا وسيهديني حمارا وكلابا وقططا. كنا نحلم ببيت كبير وبحيوانات كثيرة تحيط بنا وبدواوين شعر أيضا. كان الشعر أساسيا بالنسبة لي. كان الشاعر نموذج الإنسان المكتمل وكلامه لا يعلى عليه. كنت أسعى لفهم أسرار الكون. لا أتوقف عن السؤال والبحث وكان حميد يعضد رغبتي في المعرفة ويمدني بالكتب لكي أشبع فضولي المتنامي. كان ينشد لي
لو كانت عندي أخت
لأحببتك أكثر من أختي
لو كان عندي ذهب العالم
لطرحته عند قدميك
كان يكفيني أن يقول ذلك لأنسى حزني على كل الأشياء التي لاأنالها. كنت أملك الكون حين يقرئ علي أشعار بريفير
كنت أقرئ له بدوري وأقول
نحن كل الحياة
ياحبيبتي
نحب بعضنا ونعيش
نعيش ونحب بعضنا
ونحن لانعرف ماهي الحياة
ونحن لانعرف ماهو النهار
ونحن لانعرف ماهو الحب
لم نكن نعرف أشياء كثيرة من أسرار الكون الذي يحيط بنا. كنا نحس حسا بدائيا أننا نحب الحياة رغم كل الخلل الذي حولنا وكل الزعيق وكل الخصومات في بيوتنا. كنا نهرب من كل ذلك. ننزوي ونقرئ بريفير ينير لنا النهار والليل ويعيد إلينا بعضا من الحرية ومن الجمال في حياة خلت منه.
حين أتانا خبر الرحيل إلى ميسور, بكيت وأنا أسلم على حميد. كانت آخر ليلة لنا في خيمتنا قبل أن تأتي الشاحنة التي تحمل أثاثنا الفقير وتحمل قلبي إلى وجهة جديدة, إلى تيه جديد بعيدا عن وجه حميد وشعره
قال لي في الخيمة أنه سيحبني الى آخر العمر, صدقته وأنصتت إلى شعر بريفير
أريد أن أطلق سراحها
أريدها أن تكون حرة
حتى لو نسيتني
حتى لو رحلت
إنه حبي الضائع
حميد كان حبي الضائع وطفولتي التائهة, الحب الذي جريت في كل الإتجاهات وتهت وأنا أبحث عنه في كل رجل التقيته وحسبت أنني أحببته. كان حبي الأول, الحب الذي لايتكرر لأنه بطعم الطفولة, بطعم الأسئلة الأولى. كل حب بعده ليس إلا فقاعة ساخنة تحرق أوتار القلب الحزين.
قبل سنتين التقيت حميد على الفايسبوك وبكينا معا قصة حب طفولية ضيعها جنون الكبار.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.