الرئيسية | سرديات | عينا رجل أعمى | طارق إمام

عينا رجل أعمى | طارق إمام

طارق إمام ( مصر ):

 

      حدثتَني كثيراً عن كاتب أعمى، كان يُعني بالمتاهات ويبتسم لأشد الكوابيس شراسة، بينما تمشي متكئاً على ذراعي كأنني سأصدق كلامك عن الأشياء التي يزداد أفولها أمام عينيك يوماً بعد يوم. هل تذكر حين رأيناه سوياً بعد ذلك يتجول على واجهات المحال في وسط البلد مندهشاً؟ أكدتَ لي أنه ذلك الأعمى، و كم كنتَ ذلك الريفي حين نهرك بشدة، بينما تكاد تنحني على يده لتـقـبِّـلها بعدما انتزع جسدك انتزاعاً ليبعدك مترين عن السيارة التي كادت تودي بحياتك!

      لا تقل إنهم حفنة من القـتـلة باغتوك من الخلف. كل هذا لن يحقق لك نجوميةً ما، ولن يجعلك تكتب قصةً جيدة. يكفيك خجلاً أن رجلاً بدائرتين غائرتين مكان عينيه شاهد السيارة القاتلة  قبلك، وأنقذك من ميتة مبصرة.  يومها سكنَت بطاقته  جيب سترتك بأمان وهو يطلب منك بأبوة أن تزوره ليُطلعك على مخطوط كتابٍ جديد لم يَطَّلع عليه أحدٌ بعد. أشار لتلك البناية الشهباء المعجزة في صنعها، وتدوير واجهتها، وقبتها السخية الزاخرة بالنقوش، ببـياضها المدخن المُدوِّخ المواجه للسماء والتمثال الصغير لطفلٍ عارٍ في قمتها. أشار لها بإصبع محترف فرأيتها بكل غموضها، في نهاية الناصية، وهو يخبرك  أن تصعد الطابق الثاني وتدخل دون استئذان _ حيث تعوَّد أن يترك الباب مفتوحاً حتى عند نومه  أو نزوله للتجول بوسط المدينة _ وتتحرك في البيت بحرية كأنه مكانك الخاص. نبهك أنك ستجد كل الأنوار مغلقة والنوافذ المستطيلة المتطاولة مفتوحة دون أن ينجح خيطُ ضوء واحد من الخارج في التسلل من بين الأعمدة الحديدية الملتوية، حتى في ذروة النهار، وقال لك ألا تحاول تحسس الجدران من حولك بكفٍ فضولية لأنه لا توجد مفاتيح إضاءة. رغم ذلك مضى في حديث فَرِح عن الثريات الضخمة التي تزخر بها أسقف كل الغرف شديدة العلو والنأي والتي يعود زمن صنعها لزمن البناية ذاتها، والشمعدانات المنحوتة على شكل تماثيل مفرّغة بانحناءاتها وانثناءاتها وبروزاتها وأغوارها وقد صار الحجرُ مع الخشب مع المعدن طيعين ناطقين بالحياة وبالجَمال الذي تغدو حياله وظائفها الاستعمالية البسيطة امتهاناً لا يُحد.

       قد يكون – عند دخولك الحريص المتعثر –  نائماً أو في جولة بالمدينة فلا يتمكن من إلـقـاء القصة على مسامعك بصوتٍ عالٍ يستخدمه العميان عادةً لكي لا تخونهم الذاكرة. سيكون عليك حينها أن تلتقط المخطوط، فلا يوجد سواه بالشقة، حيث قطع الرجل ملايين الأميال وأتى خصيصاً  لإتمامه هنا، في المدينة التي يتذكرها بشكلٍ خاص منذ طفولته ويحتفظ لنفسه منها بصورةٍ مهترئة يمتطي فيها جملاً هائلاً مرتدياً الأسمال العربية تحت سفح الهرم. لن تبذل جهداً في التقاط المخطوط من أقرب ركن بالمنزل، فالكتب المكتظة بالمكتبة ليست إلا نسخ لا نهائية منه، وتلك الموزعة بإهمال على كل  الجوانب هي أيضاً نسخ منه، لأنه ، كما أخبرك، يحب أن يمد كفه الناحلة في أي لحظة و باتجاه أي مكان ليجده في يده.  ستبدأ عاجزاً في محاولة القراءة، وسيمر وقتٌ طويل قبل أن تجد السطور تضيء أمام عينيك والصفحات تُدار بنهم.

       ستـتـكرر زياراتـُـك ، وفي كل مرة ستـتعثر من جديد في قطع الأثاث التي خِلتَ أنك صرت تستطيع التحرك بينها بخفة في العتمة، وأنت تكتشف كيف غيَّر – بعد آخر زيارة –  مواضعها، و كيف بدَّل من وظائف الغرف لتجد نفسك تتبول في غرفة نومه، أو تتأمل المدينة من نافذة المرحاض،  وسيكون عليك في كل مرة أن تقذف خلف ظهرك ما ألفته و تبدأ التعرف على الشقة، والساكن، و الزائر الاستثنائي من جديد، بينما تحس في كل مرةٍ تغادر فيها البناية بالأشياء وقد ازداد اهتزازها وانسحابها أمام عينيك  عن اليوم السابق، وخفتت إضاءتـُها، لتصدق أن توجساتك التي كنت تعلنها كرتوش ضرورية للكاتب بدأت تتحول لواقعٍ مُعلن، بينما تنفض ذراعك بعنف عن ذراعي رافضاً   أن أوجِّه خطواتك، مُصراً أن تتحرك وحدك بذراعين مشهرتين للأمام تفتشان في الهواء القريب.

      مثل جميع الطاعنين في السن من ذوي القامات الضئيلة و الأشباح الشاذة، سيكون عليه  أن يستعين بك في طقوس جنونه ، لنقوم بدور المتفرجين بينما يرقص في هيستريا مع الدراويش بقلنسوة طويلة على الرأس وأسمالٍ واسعة كفساتين النساء وفي يده ذلك الدُف  الضخم. تخرج النيران من عينيه الميـتـتـين وتتراقص الفراشاتُ منطلقةً من بين شفتيه الرفيعتين الحادتين المغلقتين اللتين تعلوهما خطوط العمر. يجلس خاشعاً في المعبد البوذي ويتحرك منبهراً غير مصدق ببيت” كفافيس”. يبكي في الأديرة الصحراوية و يغمر النور وجهه في مساجد الأولياء، ثم يبقينا بينما يقرفص في دائرة محدقاً في النار كأنما يستجدي رجوع نور عينيه أو يرثي زواله، يجعلنا محط أنظار محلولي الشَعر من الوثنيين بينما يمرر أنفه في ثنيات الحجر، يهزم لاعبي الثلاث ورقات تباعاً حتى ينتهي وقد كوَّم ملابسهم الرثة على أذرعنا وتركهم لعريهم وخسارتهم، تـُلتـَقَـط له صورة حديثة على جملٍ عجوز تحت سفح الهرم، بينما علينا أن نصدق أنه نفس الحيوان القديم وأن صاحبه الأسود العجوز ذا الفم الخالي  من الأسنان  هو ذات الطفل الذي ظهر جانب وجهه الذي دسه بفضول قبل ضغط الزر بلحظة ليضمن لنفسه مكاناً  في الصورة القديمة المنسية. كل هذا الجنون كان علينا أن نعيشه بابتساماتٍ مغتصبة بينما يتناول قهوته في مقهى ضيق منزوٍ ونرجيلته في رحابة بهو ضخمٍ مستوحش يشبه واحداً من قصور الحكايات. في نهاية كل مرة كان يؤكد عليك ألا تنقطع عن الزيارة، بينما تؤكد له في خجل المعتذر أنك أوشكت على الانتهاء من المخطوط، دون أن تخبره بمتاعب عينيك المتزايدة التي تجعلك في كل مرة تقرأ صفحاتٍ أقل من سابقتها، ولا ينسى أن يمنحني ابتسامة رسمية لا تخلو من شغف بينما يسألني عن الكتابة فأؤكد له أن ليس لي بها علاقة من قريبٍ أو بعيد.

        بهرك المخطوط، وحدثتني ألف ألف مرة عنه حتى مللت وبدأت أحس بنور عيني ينسحب مني مع كل إشارة منك له، ثم فوجئت بأنك تحفظه عن ظهر قلب مندهشاً كيف تمكنتَ من استظهار كل تلك الصفحات التي لم يُسمح لك بقراءتها سوى مرةٍ واحدة في ظل عتمةٍ محكمة وتشوشٍ غير محتمل؟

      لا زلت أعجز عن تخيل مشهده وهو جالس إلى مكتبه وأنت في الكرسي المقابل، يسألك بهدوء الأب وثقته عن رأيك بالمخطوط ، فتقرأه كاملاً من الذاكرة بصوتٍ عالٍ  قبل أن تعلن انبهاراً صادقاً تداخلت  فيه الكلمات وتشوشَت وتلعثَمَت ، ليفتر ثغره عن ابتسامةٍ مطمئنة مرعبة، وهو يلتقط نسخة من المخطوط بدت كأنها قفزت باتجاه كفه بمجرد أن مدّ  يده – واحدة من أكداس المخطوطات الموزعة في كل مكان من حوله، حتى في الهواء كان بعضها يسبح – و ضغط بإصبعه على زرٍ سري ليغمر الضوءُ الغرفة والشقة كلها لأول مرة. توهجت الثريات و اندلع اللهب من فوهات الشمعدانات  واخترق ضوء النهار الشقوق بين القضبان الحديدية ليتجول حراً داخل المكان. مهرجانٌ مبهر من الأضواء يعشي الأبصار لم تر مثله من قبل، حتى أنك أغمضت عينيك الكليلتين فجأة، ظللت على هذا لفترةٍ طويلة، وحتى عندما بدأتَ تألف المفاجأة وتتعود الضوء، ظلت عيناك نصف مغمضتين كأنك تحدق في ملايين الشموس. ثم بدأ يدير الصفحات في يديه بهدوء، قبل أن يمد لك ذراعه بالمخطوط لـتـتأمله لأول مرة في الضوء، وتتجول عبثاً بين آلاف الصفحات البيضاء  وتعود للغلاف المقوى الأبيض وقد صرت على شفا الجنون، بينما تلتقط نسخةً تلو نسخة  دون أن تعثر على شيء سوى آلاف أخرى من الصفحات البيضاء، بينما ضحكته الوحشية تتصاعد  تتكاثر تلفك، لتكتشف ــ لأول مرة ــ  عمق الكهفين الغائرين الممتدين في وجهه وحياتهما الخاصة إذ يضيقان يتسعان يقصران فجأة يتطاولان للداخل.

      لا زلت عبثاً أحاول تخيل تلك اللحظة، بينما أشدد من قبضتي على ذراعك وأنت تتعثر كطــفـلٍ حرون محاولاً الإفلات مني و نحن نعبر أمام البناية المسوَّرة ذات اليافطة المكتظة ببياناتها كأثـر تاريخي محظور على الرواد قبل عامٍ آخر على الأقل من أعمال الترميم، والتي ذهبتَ إليها مراراً باعتبارها المكان الذي يحيا فيه. لا زلت أحاول إقناع نفسي أن هذه العتمة بامتداد ناظري ليست سوى مأزق مؤقت وهي تتسع وتستوحش دون أن أملك حيالها شيئاً، في حين أجاهد لإخفاء السؤال الشرس بينما أتأكد أن جسدك لا يزال تحت سطوة قبضتي: لماذا ظللتَ طوال ساعةٍ كاملة تغرز أصابعك في  عينيَّ بالغاً أقصى أعماقهما، ولماذا لم أتألم أنا للحظة، وأنا أحس بملامحك تغادر، ببطء، حيزَ مشاهدتي؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.