الرئيسية | سرديات | عبورُ الممرِّ الضَّيِّق | صفوت فوزي

عبورُ الممرِّ الضَّيِّق | صفوت فوزي

صفوت فوزي

 

من الممرِّ المعتم الضيق ينسلُّون فرادى. خطاهم على الأرض رقيقةٌ لا تُحَس، كأنَّما عاهدوا الأرضَ ألَّا تبوحَ بوقعِ أقدامِهم. يرفلون في ثيابٍ فضفاضة. يحدقون في الأفق البعيد. لم تند عنهم كلمة. وأنا حين لمحتهم ارتعبت. خلت أنني أهذى، بينما قلبي يضرب بعنف متسارع جريد ضلوعي.

العتمة غلَّابة. يضمر الضوء وتنزل الحركة إلى درجتها الدنيا. الساعة تجاوزت منتصفَ الليل. أقفرت الشوارع من المارَّة، والصمت يُسمَع في الحارات. لا قطط تتعارك، لا كلاب تنبح. سماءٌ بعيدة النجوم، داكنةُ الزرقة، ترسل ضوءًا شاحبًا. همهمةُ الريح خلف النوافذ. تلوح شواشي الأشجار كأشباح غائمة تتخبط، مشكلة جنيات وعفاريت ومردة تسكن دهاليز الذاكرة. وكأني في الصمت المطبق أراهم ينحدرون في الطريق. أسمع خفقات الحياة ووجيب قلوبهم.

حين عبرت الشارع الفاصل بين المقابر وبيتنا عرفتها. أوقن الآن أنها هي. أتذكر كم كانت امرأة جميلة. الوجه القمحي المدور المائل قليلًا للسمرة. العينان البنيتان الواسعتان المكحولتان يطل منهما عتبٌ فادحٌ. جدائل شعرها المصبوغ بالحناء تنهمر ناعمة مصقولة على الكتفين. استدارات وانحناءات جسدها اللين وردفاها الممتلئان دون ترهُّل، تسير بتؤدة في الشارع الخالي. ثدياها قائمان مكوَّران بكبرياء ونعومة، يهتزان تحت النسيج اللدن. منيرة، هتف صوت في داخلي فكدت أصرخ. العروس جارتنا القديمة. جاءوا بها من الصعيد. بالكاد تبلغ السابعة عشرة من عمرها. زوجوها. كانت مثار تندُّر وحَسَد جاراتها. وهي كانت ترى في ذلك مجدها. تختال عليهم بجمالها البكر، جسدها الفائر ونزقها الطفولي. تخرج للحارة تنتظر بائع “غزل البنات” و”نبوت الغفير” و”العسلية”. تقعد على عتبة الدار تأكل بتلذذ ونهم طفلة حُرِمت كثيرًا. كان الجيران حين يسمعون وشيش وابور الجاز وفوقه حلة ملآنة بالماء يعرفون أن زوجها المجند قد جاء في إجازة. يتغامزون فيما بينهم وتنطلق ألسنتهم بوقاحة وبلا خجل. تنتهي إجازته ويبدأ عراكها مع حماتها. امرأة ثرثارة لا تكف عن خلق المشاكل. فاض بها الكيل، وفي لحظة يأسٍ وجنون سكبت الجاز على ملابسها وأشعلت النار. ماتت قبل أن تصل للمشفى. ظلوا طويلًا يتناقلون الحكايات عنها. يتهامسون أنها تأتي لزوجها في الليالي المقمرة، وأنه استولدها أطفالًا هم هذه القطط السوداء مقطوعة الذيل. يجوسون في الحارات ليلًا، يرفعون أغطية الحلل ويسرقون قطع اللحم.

وكأنها ما ماتت محترقة منذ عشر سنين. وكأن الزمن لم يمر عليها. ابتسامتها الطفولية ترتسم على شفتين مكتنزتين فيتورد الخدان. تتوارى في الحارات والأزقَّة وتغيب عن بصري فينخلع قلبي ويغمرني عرق بارد. أعلم أنها الآن في الطريق إلى بيت زوجها. تتلصَّص على زوجته الجديدة. تنظر بأسى لسريرها العالي ذي الأعمدة النحاسية وداير التل الأبيض، وقد شغلته امرأة غيرها. تتحسس أثاث البيت الذي كان لها. تأكلها الحسرة، ويكبر في داخلها جرحٌ حزينٌ غائر.

يتوالى خروجهم في جوف الليل الخالي، وأنا مُسمَّر خلف النافذة. يشملني الخوف وتعتريني حيرة خرساء.

وكأني به يلقي السلام. يطوف بي فتحلق روحي في السماوات السبع. يأتيني صوته من زمن قديم. صافٍ نقي. يسري في كياني ويغزوني حتى الحشا. بلثغته المحببة والوحمة المطبوعة أعلى الخد الأيمن.

“نبيل” رفيق الصبا ومدارج الشباب. أول المنذورين للموت في شلتنا. كنا نعابثه بلقب “أبو لطعة” فلا يغضب. يبادلنا القفشات بروح مرحة تفيض عذوبة وودًّا. هاجمته العلة مبكرًا. صار القلب عليلًا. ظل يصابر علته ويلتمس لها الدواء. تكاثرت عليه العلل. استسلم لها ومضى مخلفًا في القلب حسرة، ولوعة لا تطفئها الأيام.

كان يمتلك ذاكرة برية. تسكنها الحكايات والأغاني وعديد المحزونين وقصص الأمهات في أماسي الشتاء الطويلة. يفتحها ويفيض علينا. ينثر حبات قلبه بين أيدينا. وحين يحكي أحدنا كانت لديه القدرة على الإنصات إلى ما لا يُسمَع من صوت الإنسان في دواخلنا.

شابان لاهيان كنا– أنا وهو– ينهكنا التجوال في شوارع القاهرة القديمة ببيوتها الطيبة. نميل إلى أقرب مقهى نلتقط أنفاسنا، نشرب الشاي بالنعناع، يدخن الشيشة بشراهة وشغف– رغم تحذيرات الأطباء– قبل أن نواصل المسير.

ضربته الحياة كثيرًا، أحبطته، ولانت له قليلًا. كان عليه أن يدور معها ويتحايل عليها. ترس صغير في آلة ضخمة لا تكف عن الدوران. إذا ما توقف يومًا فإنها النهاية؛ سيقذف به بعيدًا ليحل محله ترسٌ أشد بأسًا لم تتحطم أسنانه بعد. يستطيع الدوران دون أن يتوقف يوما ليسأل: لماذا؟ وأين؟ وكيف؟

وهو ما كان يملك إلا أن يسأل: لماذا؟ وأين؟ وكيف؟

وما كان يحتوي بين جنبيه سوى قلب نقي معذب، وصوت حزنه في مواجهة تقلبات الوجود. عاش الحياة حتى آخر قطرة. حتى آخر نقطة على سطرها قبل أن يؤذن لورقته بالسقوط. وحين رحل حمل معه حياة كاملة.

ها أنا أراه الآن يطوف بالحارات والدروب ربما ليقول وداعًا لشيءٍ ما أو شخصٍ ما نسي أن يودعه أو لم تمنحه الظروف الفرصة المواتية ليقول له: وداعًا. فهو عندما غاب لم يعرف لماذا كان عليه أن يغادر هذا العالم الرائع نازحًا إلى عالم قيل له إنه الأفضل.

الظلمة تشف وتتوارى. يتسلل النور رويدًا رويدًا. يقبل الفجر وئيدًا. يمتلئ صدري بدقات قلبي العالية وأنا أرى، على قمم الأشجار وبين أوراقها الكثة– داكنة الخضرة– المتراكبة في الظل والنور، أسرابًا من طيور سوداء، طويلة الجسم، كثيرة، كثيرة بلا عدد، واقفة، صامتة، مناقيرها مطبقة ومشرعة إلى الأمام. الحارس الليلي بحلته السوداء أزرارها الصفراء تومض وتنطفئ، يتناهى إليَّ وقعُ قدميه الغليظتين على أسفلت الشارع.

وكمن ينتزع قلبه من بين ضلوعه، أراهم الآن يعودون. عيونهم معلقة بالبيوت النائمة. خطواتهم هامسة. ينحدرون في الطريق إلى الممر الضيق، فرادى كما خرجوا أول مرة. يذهبون لكي يستريحوا من أتعابهم، ثم يعودون ليواصلوا جولاتهم الليلية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.