الرئيسية | سرديات | صورة لجثة | وافي بيرم – سوريا

صورة لجثة | وافي بيرم – سوريا

وافي بيرم

مهما كانت الأفكار والتخيلات والافتراضات والأديان والمُسلمات التي تحدثت عن الروح بعد الموت يبقى فرضية هوام الروح وانعتاقها وأخذ حريتها من معتقل الجسد هي الفرضية الأجمل والأقرب للأمل، بما أنه من الصعب ومن المستحيل تقرير مصير الروح بعد فناء الجسد، ولكن فكرة أخذها استراحة استجمام ونقاهة للاستمتاع بما فات الجسد أثناء تلاحمهما فترة الحياة، فكرة جميلة.

في مقهىّ رخيص بجانب منزلي، كنت أتردد عليه أجلس وحيداً مع السجائر والقهوة، في حينها تعرفت على مجنون هارب من الحرب أيضاً، حتى المجانين يعرفون أن الحرب لا تُعاش، وجميع الأطراف فيها خاسرة، كان يتردد إلى المقهى ليحصل على سيجارة، وأغلب الأحيان يقلد سكان البلد بلهجتهم الغريبة ليضجّ المقهى بالضحك، وهو يحصل على سجائره.

أجلسته بجانبي مرة، وأراد أن يحدثني كما هي عادته بجملة يقلد فيها سكان البلدة ولكني فاجأته بلغتي التي هي لغته، فجلس بجانبي سحب سيجارة من علبة سجائري مجّها ونفخ دخانها في وجهي، وسألني: ماذا تريد؟؟

أجبته بارتباك: لا شيء.. أود أن أدعوك لشرب فنجان قهوة، وأنا كما ترى أجلس وحيداً، فقاطعني لا أحب القهوة، أريد شاياً ثقيلاً، وخمس ليرات وعلبة سجائر!

ابتسمت موافقاً وفتحت فمي لأقول له شيئاً، أي شيء أكسر به الصمت، إلا أنه قال لي: لا تسأل سأحدثك أنا عن قصة مقابل كرمك …

بدأ حديثه أنا لست مجنوناً، وضحك لتظهر أسنانه المُصفرّة، كنت أستقل باصاً في قلب العاصمة عندما أوقف الحاجز العسكري الباص وبدأ حملة تفتيشه المعتادة، طلب العنصر بطاقتي بوجه كوجه ضبع وأنياب لامعة، قلّب بطاقتي بين كفيه وهو ينظر بوجهي بلا أدنى نظرة إلى البطاقة، كان يرسل رسائله اليّ عبر نظراته الحادة، لم يكن اسمي ذو شأن ولا أي اسم يهتمون لأمره، كانت الارتباكات والرعب ورائحة الأدرينالين هي الأهم لهم لاصطياد فريستهم، التردد العيون الحائرة النظرات الغير ثابتة احمرار الأذنين ارتجاف اصبع، أي من هذه العلامات هي كفيلة لتخسر فيها حياتك أو أن تُفقدإلى أجل غير معلوم.

انزلني من الباص واصطحبني أمامه وهو يمشي خلفي واقتادني إلى خلف غرفتهم الحديدية، كانت تنبعث من الغرفة روائح غريبة، ليست كما تظنون روائح جثث أو روائح دماء، وليست أيضاً روائح كحول أو إقياء أو منيّ، بل هي أغرب من كل هذا وكأنها روائح بشر، طالما كان لكل جسد رائحته الخاصة التي تسرقها وسادته وتحتفظ بها إلى أن تفنى الوسادة.

أحسست بآلاف الأيدي تمتد وتمسك بقدمي، محاولة التخلص من العذاب، ولأكون صريحاً معك أكثر كان موقع الحاجز على طرف بستان، ولم يكن في الحقيقة سوى بعض العضاضات التي يستند عليها صفائح من الزنك، ومن البستان تأتي أصوات الضفادع وصرصور وحيد يحاول إيجاد فرقة تكمل معه السيمفونية.

 أخرج العنصر مسدسه، كان مسدساً جميلاً وجديداً بقبضة ذهبية لامعة وماسورة سوداء محاطة بطبقة من النيكل، لقد ضحكت نعم في هذا الموقف ضحكت، فكل حياتي البائسة والفقيرة، ستتبدل ليكون موتي باهظ الثمن، أعرف أناساً كثيراً ماتوا بشظية رخيصة، أو باختناق من غاز سام كالفئران، وأناس ماتوا وهم يبتلعون التراب أحياء، أعرف بشراً ماتوا وهم تحت التسلية من قبل بشر آخرين.

 وضع المسدس في خلفية رأسي وأطلق النار بلا أدنى شتيمة السرعة التي أطلق فيها لم تتح لي الفرصة لأتحسس برودة الماسورة، تدحرجت جثتي واصطدمت بمجموعة جثث أخرى أسفل جرف بين أكمة خضراء وبعض الأشواك، كانت الجثث باردة وتفوح منها رائحة كريهة ويبدوا عليها آثار المعاناة، جثة بعيدة عني قليلاً كانت نظيفة ودافئة ورائحتها شهية، نقلت جثتي بصعوبة إلى جانب تلك الجثة، فنقل جثة لمسافة مترين يتطلب جهداً كبيراً، وعدداً أكبر من الركلات التي ساعدني بها العنصر، كانت الجثة ما تزال دافئة، وانا بدأ البرد يتسلل إلى عظامي، ضممتها وهمست في اذنها مستأذناً منها ومعتذرا عن تطفلي، إلا أنها استدارت الي وضمتني بشدة إلى صدرها، الغريب أنني توقعت أن تصفعني أو تشتمني، إلا أنها كانت جثة جميلة لطيفة ومؤدبة جدا، شعرها الأسود كان مبتلاً بالماء ورائحته جميلة كرائحة الشمام، عيناها سوداوان واسعتان، كانت جثة فاتنة مضرجة بالدماء، نتيجة ثقب بالرأس كجثتي تماماً، قالت لي: ارتح قليلاً الآن حتى تنتهي وتتلخص من دمائك، ثم سآخذك بجولة لتتعرف على هذا العالم الجديد، فعلت ما طلبته مني بدون تذمر، وأنا ألامس جسدها وأداعب نهديها، كان أحد نهديها قد قطعت حلمته وتشوّه قليلاً بفعل حرق بالسجائر، إلا أنه ما زال مثيراً، لم أترك جزءاً من جسدها الناعم لم ألمسه وأقبله، كنت مستغرباً جداً استكانتها لقبلاتي ولمساتي، أذكر آخر مرة نظرت فيها إلى مؤخرة امرأة، شتمتني وبصقت في وجهي، من دون أن ألمسها، أمسَكتْ بيدي وتركنا جثثنا وطِرنا، سألتها عن الجثث، قالت: سنعود إليها بعد أن أعرفك على العالم الجديد، نظرتُ تحتي هو نفس العالم إلا أنني أشعر بالخفة أشعر أني ريشة في الهواء، أحسست بفرحة عارمة وأنا غير قادر على التوازن وهي ممسكة بي وتعدل من شكل الطيران لأتعلم التوازن، سألتني: أي الأماكن تحب أن تزور؟؟ أجبت متسائلاً: هل أستطيع الذهاب لأي مكان أرغب فيه؟؟ طبعاً أجابت فطلبت منها أن أذهب لشاطئ للعراة، رمقتني بنظرة استهزاء، إلا أننا خلال لمحة بصر كنا هناك، بدأت أتجول بين نهود الفتيات والمؤخرات، ألمس الأجساد والمؤخرات والأثداء والأعضاء التناسلية لكل الفتيات، إلا أن شيئاً غريباً كان يحصل معي، هو أنني لا أشعر بأي شيء، نظرت بوجهها الذي تعلوه ابتسامة الشماتة، عدت إليها فأجابتني بدون أن أسأل وبدون أن تنظر بوجهي: أتظن نفسك جسداً ؟؟ أنت الآن مجرد روح ضالة غير مستقرة، وستبقى كذلك حتى تجد لروحك جسداً جديداً ،وتعود للحياة مجدداً . صمتُّ طويلاً وأنا أفكر، باستطاعتي أن أذهب حيث أريد ما حاجتي للجسد، هذا العالم أجمل، سأزور كل مكان حلمت بزيارته، سألامس المؤخرات، سأنام بين أحضان العشاق، سأدخل الفروع الأمنيه وأبول على جباه الوحوش، سأشتم الطغاة في وجوههم، سأقبِّلُ حبيبتي كثيراً، سأكتب قصصاً قصيرة .

قبل ان نصل لجثثنا أمسكتني وبسرعة اختبأنا بين الحشائش وهي تنظر إلى جثتها من بعيد، كان نفس الحارس يمارس الجنس مع جثتها التي بدأت بالانتفاخ قبل التفسخ، لهاثها ورعبها كان ظاهراً، ضممتها إلى صدري وهدأتها قليلاً، همست لها: هما مجرد جسدين عفنين، لن يستطيع أن يؤذيكِ مجدداً، ثم ابتعدنا عن المكان أقمنا في شاطئ مهجور يتردد عليه العشاق لممارسة الجنس، كل يوم نذهب في رحلة نراقب كل عالمكم، زرت جميع المعتقلات وكل نوادي القمار، أمسكت بأيادي المحتضرين تحت التعذيب، وداعبت حلمات أثداء قبل النشوة، جلست مع النازحين وسمعت اصطكاك أسنانهم من البرد، واستمتعت بدفئ مساكن الطغاة.

في ليلة مقمرة طلبت من صديقتي أن أمارس معها الجنس، فضحكت حتى قلبت على ظهرها، ثم رمقتني بنظرتها الحادة وقالت لي: هنا تستطيع أن تحب، هنا الحب هو النشوة هو الحياة الجديدة هو الدفئ، فهل باستطاعتك التخلي عن أفكارك الجسدية؟ وهل باستطاعتك أن تعيش بالحب؟ الحب فقط من سيعطي الهدوء لروحك حتى تختار جسداً جديداً، هنا ستتعلم الحب قبل أن تعود للجسد وتربيه مرة أخرى على الحقد والكراهية والنفاق الحب هو خلاصنا هناك، وخلاصنا من هنا ، فهل تستطيع الحب؟

لم أجبها كنت أتركها هناك وأستمتع بالخفة التي اكتسبتها وأهرب قبل أن تستفيق، صحيح أنه لا مجال للشهوات التي كنا معتادين عليها، إلا أني اكتشفت نشوات أخرى ألذ وتصل بي أعلى وأسمى من النشوة الجنسية المعتادة، أدمنت أنفاس حبيبتي، كنت أزور غرفتها يومياً، وأجلس في غرفتها، وأقرأ الصفحة المفتوحة من دفتر مذكراتها، كانت أنفاسها تعبق بالدفتر الأحمر المخملي الصغير، أرى آثار أصابعها، أتذكر لمساتها على وجهي، كنت أتمنى أن تكون النافذة مفتوحة، لتقلب لي ورقة الدفتر، كانت كلماتها ورسومها، تجعلني في قمة السعادة، كنت لا أبارح المكان تقريباً، أستمع لأحاديث والدتها، التي كانت دائمة البكاء في طلب صورة لابنتها، لم يدخل أحد الغرفة أبداً طيلة تلك الفترة، كنت أتمنى أن يساعد أحد أمها ويأتي بصورتها، فأنا لم أعد أتذكر ملامح وجهها، كل ما علق في ذاكرتي، شامة، وأصابع، ورمش صغير فوق صفحة الدفتر، كنت رأيت شبيها لهذا الرمش من قبل,

 اليوم وأنا جالس في الغرفة أعيد تأمل جدرانها، ستائرها، خزانة ملابسها، دميتها التي على شكل قطة بيضاء بفرو طويل وكث، وقراءة الصفحة نفسها، دخلت أمها ودموعها تفرّ من عينيها محتضنة صورة ابنتها، علقتها على الجدار وجلست على السرير بجانبي، نظرت إليها لأجد صورة ابنتها مع خطيبها ممهورة بشريط أسود، تفاجأت جداً من وجود صورتي بجانب صورة الجثة التي مارس الحارس الجنس معها .

عدت مسرعاً إلى الفتاة التي لم أجدها حيث تركتها، بحثت كثيرا في كل الأمكنة التي من الممكن أن أجدها فيها ولكن بلا جدوى، بحثت عند غرفة الحرس إلا أنهم كانوا قد نقلوا أمكنتهم بعد أن قتل أكثرهم وتخلصوا من الجثث بإجراقها، همت في الشوارع والحانات والمسارح والدور السينما في المكتبات والمقاهي وصالات الأفراح ولكن بلا جدوى، لم أعد أطيق هذه الحياة الفارغة فوجدت هذا الجسد لم أفكر كثيراً قبل أن أحتله، كل ما هنالك أني تمددت بجانبه وبعد فترة وقفت في وسط الشارع وأنا أركض بين المقاهي.

جاء صاحب المقهى وطلب مني إنهاء سيجارتي والانصراف، أجبته مستغرباً هذه السجائر ليست لي، هذه سجائر مجنون الحيّ، فضحك هو وبعض من سمع الكلمات مني وطلب مني أحدهم أن أجلس بجانبه!

قلت له: هذه السيجارة ليست لي!! فقال لي: حسناً اهدأ قليلاً وسأعطيك علبة سجائر كاملة وخمس ليرات، فعلقت على كلامه وأريد كأس شايٍ ثقيل أيضاً.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.