الرئيسية | فكر ونقد | شيكسبير معاصراً: أسطورة عابر الأزمنة والأنواع | د. حاتم الصكر

شيكسبير معاصراً: أسطورة عابر الأزمنة والأنواع | د. حاتم الصكر

 د. حاتم الصكر

 

لعل وصف وليم شيكسبير بأنه كاتب عابر للأزمنة والأجيال والأنواع الأدبية  محاولة فحسب لإيجاز الظاهرة الشيكسبيرية، وصف لا يفيه حقه. لكن دلالة حضوره بقوة بعد أربعة قرون من غيابه ( توفي في نيسان 1616)  تؤكد صواب النظر إليه وقراءته وتقييمه معاصراً يجري إسقاط أعماله دوما على عصور تالية.

يدعم هذه الفرضية يان كوت في كتابه ( شيكسبير معاصرنا) – ترجمة جبرا إبراهيم جبرا- حيث يرى أنه ” أشبه بالعالَم  أو الحياة نفسها ،وفي كل فترة تاريخية تجد فيه ما تبحث عنه”. يمكن لنا إضافة التمدد الجغرافي بجانب رصد استمراره الزمني ، فحبكات مسرحياته تنطبق على أحوال بشر وواقع شعوب متباعدة  ثقافياً وجغرافياً . في أوج الحرب الباردة بين نظامين متنابذين عقائديا وفي قارتين  مختلفتين قدم  الروس والأميركان قراءتين سينمائيتين لهاملت. رؤيتان تلتمان حول المائدة الدرامية الغنية التي تركها لهم شيكسبير في تراجيديا هاملت: العاشق الفتى المصدوم بخيانة أم وعم  وفقد أب، وبالأحرى مجبرا على فعل لا يريد له أن يكون ضرورة لولا شبح الأب الذي يلح في إنجاز رغبة الثأر. لم يعد انتماء هاملت إلى الدنمارك  وحدها، ولم يتعين بهوية الكاتب الإنكليزي. إنه إنسان يواجه قدره ويعيش مأساة مركَّبة. من هنا يُعد الاحتفاء الأممي به تعبيراعن القيمة الإنسانية لإبداعات شيكسبير الخالدة لا بالمعنى المجازي – المتنفج للخلود – بل بالمعنى المعرفي الذي ترفعه القراءة لبقاء أسطوري متجدد.

الخلود : الإقامة عبر الزمن

قليلون تمنحهم الحياة فرصة البقاء بعد موتهم عبر نصوصهم، وما يتركونه من دوي يذكّر بالمتنبي الذي عاش خلوداً من نوع مشابه، فتخيل الدهرَ كمفردة مساوية للزمان (من رواة قصائده ومنشداً لها) هنا تبدو نزعة الإقامة عبر الزمن وهزيمة الموت بتحدي النصوص، وذلك ما فسّره قراؤه المتعجلون بأنه ادعاء متكبر وتضخيم للذات، متناسين أنه أراد استباق تلك اللحظة الإنساية الفريدة بالقول:

وتركُكَ في الدنيا دوياً كأنما          تَداول سمعَ المرء أنملُه العشرُ

تلك هي الحياة الأبدية التي حلم بها أبطال الأساطير الذين خذلتهم أجسادهم بالفناء وانتصرت لهم أعمالهم بالبقاء والخلود .

بحثَ شيكسبيرعن حبكات مسرحياته في أرجاء العالم ولم يتوقف عند حدود بلده. وغادر زمنه في رحلة عكسية صوب دفاتر التاريخ المفتوحة وقرأها بعناية ؛ ليستل أكثرها درامية وتراجيدية، لكنه لم يرتهن بالماضي. التاريخ لا يعني عنده أحداثا وقعت في الماضي، بل هي دلالات إنسانية سيرفعها بشعره وفنه إلى مرتبة وجودية تثير الأسئلة .

قراءات مغايرة

 لقد أخضع فنانو “الماراثون” الشيكسبيري أعماله لرؤاهم فنقلوها لعصرنا وما تشتبك فيه من قضايا ومعضلات. فنانون عراقيون أهملوا،عامدين، ما وقف حائلاً بين روميو وجولييت في القصة المنقولة وفي عمل شيكسبير من بعد. ليست الأسرة من يقف مانعاً حب الفتى وفتاته كما أراد شيكسبير متابعا الحكاية الشائعة، بل جعلوا فراقهما بسبب اختلاف الطائفة، تمثيلا رمزيا لما يسود اللحظة العراقية الراهنة من اصطفاف  بغيض على أساس الانتماء الطائفي. إسرائيليون تناسوا ما في شخصية شايلوك الصيرفي في (تاجر البندقية) من تنميط لليهودي المرابي؛ فجربوا تقديم تاجر البندقية عصريا. الفلسطينيون من الجهة الأخرى كضحايا مثلوا ريتشارد الثاني وكشفوا التهافت المحموم على السلطة والحكم حتى بسحق الآخر ومحو هويته ووجوده، تعبيراً عن رفض الاضطهاد والاحتلال. تشارك الأفغان والصوماليون والصينيون والأوربيون والأميركان وسواهم في تقديم شكسبير(هم) والنصوص تحثهم على ذلك. فالرجل لم يعد ينتمي إلى وطن محدد بل يهب قراءه في كل مكان الإحساس بأنه منهم، انطلاقاً من ستراتفورد المدينة، ابنا يلفه المجهول والمفترض الغامض. لم تبق لغة في العالم تقريباً لم تترجم إليها أعمال شيكسبير.إنه يسبق في شهرته حتى الملكة كما أكد استفتاء شعبي أجراه المجلس الثقافي البريطاني. إن خشبة المسرح هزمت عرشا، وكلمات قصائده كسرت حواجز الزمن والمكان واللغة.

السونيتات حمضه النووي الفريد

أشعاره أيضاً، لا سيما السونيتات، تتم ترجمتها كاملة أو مجتزأة من حين لآخر، كما هي مسرحياته التي التقى حول نقلها إلى العربية مثلا مجددون وتقليديون، فنقلها الرواد شعرا موزونا ،ونثَرها المجددون أو جربوا نظمها شعراً عربياً عمودياً أو حراً، وعاد الحداثيون ليزيدوها انتثاراً مشحونة بالدراما المدوية، بوهم الارتقاء إلى لغة شكسبير ذات الخصوصية المازجة بين الشعر والحدث، بين تحليل الشخصيات عميقا وكلامها الذي يعتمد المجازات والصور بإفراط، سيكون من مزايا شكسبير الأسلوبية الخاصة التي شبهتها دارسة معاصرة بالحمض النووي! تخصه وحده ولا تتكرر.

مفارقة أخرى تكمن في  التشكيك بأصالة حبكات مسرحياته، أو النواة التي يقع عليها شيكسبير  كصياد ماهر يكسوها بطابع إنساني، مخرجا إياها من سلسلة تراتبها كحبكة محلية تحدث في بلاد بعيدة ؛ ليمنحها العالمية التي تشير إليها رمزياً حتى تسمية مسرحه بالغلوب، أي الكرة الأرضية، كما يصفه شيكسبير، أو العالم، كما يلاحظ  كمال أبوديب في كتابه عن السونيتات . يعطي شيكسبير للحبكات المنقولة سيرورة جديدة. وهذا وجه آخر من وجوه معاصرته. فما يقوم به في الحقيقة ضرب من التناص المطور للنص الأصلي والموسع لبنيته ودلالته كما تقترح المناهج البنيوية وما بعدها.هذا ما نخرج به عند قراءة أعمال كروميو وجولييت وهاملت وماكبث. وفي معالجة التاريخ كمادة درامية نستل درساً آخر في التناص، وصَهر التاريخي لصالح الدرامي والشعري. ذلك ما تؤكده مراجعة أعماله التاريخية التي تتكئ على وقائع كبرى وشخصيات شهيرة متفردة كقيصر وكليوباترا وهنري الثامن.

 وهج الشعر في موقد النظْم

في الشعر أيضاً ستثير السونيتات شهية القراءات التناصية، فهو يطور شكل السونيت البتراركي، نسبةً للشاعر بترارك الذي سبق شيكسبير في نظم السونيتات، لكن تعديلات شيكسبير على السونيت كموضوع ومخيلة ولغة وشكل ستصادر ريادة سابقيه وتربط السونيت باسمه. وستبلغ التأويلات غاية قصوى حين يرد باحث عربي، هو الدكتور كمال أبو ديب السونيت إلى أصل عربي؛ لأنها غير معروفة في اللغة اللاتينية ،وهي تحريف للكلمة العربية ( السمط)، وهو مصطلح يعني نوعاً من التشكيلات الشعرية العربية القديمة التي يدرسها أبو ديب باستفاضة، ويورد نماذج لها تبرز فيها ميزة إيقاعية متأتية من تنوع القوافي والبناء البيتي المختلف عن البيت التقليدي. ويمضي أبوديب  ليصل إلى ما يسميه ذروة تكهناته حول اسم شيكسبير، فيرى أولا أن صلة شيكسبير بالعربية تتعدى شخصية عطيل( أوتيلو) الأمير العربي ويجد من حقه تقليب اسم شيكسبير صوتيا فيعثر على تلفظات قديمة له تقربه من شيك اسبير وهو ما يوحي باسم شامي! ربما، أو ذاك ما يفهم من المسكوت عنه لدى أبو ديب . ويعيد التذكير بقراءة أكاديمي عراقي وعالم في الأدب المقارن، هو صفاء خلوصي، الذي ذهب إلى أن اسم الرجل الحقيقي هو شيخ ازبير ما يحيل إلى جذر عربي عراقي! وما يشجع على تناهب شخصية الرجل ذلك الغموض الذي يلف حقيقته  كما شخصيات أعماله، حتى ليخلص يان كوت إلى القول: “إن لغز هاملت مثلا كابتسامة الموناليزا”، أي  تلك التي لم يستقر التأويل البصري لها كما نعلم، وظل يتردد بين كونها علامة على تعب الموديل من الجلوس للرسم، أو السخرية من الجلوس موديلا، وربما  دلالة على الحزن الشفيف المعبر عن استهانة بالحياة، وغالبا هي الجمال المنبثق من تلك النظرة المعضَّدة بالابتسامة كدليل جمالي خارجي يعكس فرحا أو رضى باطنيا.  لكن المؤكد هو أن نصوص شيكسبير، كما هي أعمال مرشحي الخلود القلائل، تمتلك مقومات الحضور الأبدي المتجدد. لقد أصبح هاملت شخصا رمزيا يغادر النص ليعيش كعلامة أو ظاهرة. فالتفسيرات والدراسات الشيكسبيرية لا تتوقف جيلا بعد جيل، حتى غدت الكتابات عنه أضخم من مجلدات دليل الهاتف، كما يحدس يان كوت المعنيّ بتأكيد معاصرة شيكسبير، واصفا  أبرز شخصياته الإشكالية المعذبة بالاختيار وضرورة الفعل والقصور الإرادي عنه بالقول: “هاملت إسفنجة تمتص جميع مشكلات عصرنا”. وفي هذا الوصف ما يحفز على تنشيط المقاربة الراهنة المتجددة لشيكسبير في أعماله كلها لا المسرحيات. إن نصوصه تحيا في تناص مفتوح مع مشكلات عصرنا؛ لأنها بميزتها الإسفنجية، التي يرصدها يان كوت، تحيا في تناص مفتوح مع مشكلات عصرنا، فتستوعب بسلطتها العابرة للأزمان والأمكنة ما يجري في عصرنا من عسف وتوق إلى الحرية وصراع حول العدل وجنون الحكم وتداعيات المظالم ومقاومة الشر والاحتكام إلى الإرادة الإنسانية لا  إلى الواقع أو إلى اشتراطات أنظمته وأعرافه وقواه.

 

الغموض المكلل بالحزن

نقرأ في الظاهرة الشيكسبيرية أمثولة أخرى ترادف ديمومته الزمانية هي عبور نصوصه حدود الأنواع ، متمثلاً بالدمج بين التاريخي والدرامي، والشعري والنثري، والواقعي والمتخيل، والغنائي والمسرحي، والانكشاف المباشر والغموض ..غموض يستحق أن نراه بشكل يخرجه من الانغلاق الدلالي إلى تلك التوسيعات النصية التي تشرك القارئ أو تورطه حقيقة في شراك تداعيات أشبه بهيجانات صورية وإيقاعية ولغوية ثائرة كعاصفة تجرف معها كل شيء. ذلك الغموض الذي ستوصم به الرؤية الحداثية  في الشعر خاصة والأدب عامة. وكما يلاحظ الدكتور عبدالواحد لؤلؤة، وهو يقرأ محللا قصيدة “العنقاء واليمام”، فإن غموضها مشمول بسياق الحزن الشيكسبيري الذي أنتج  فيه هاملت، ودشن الرؤية التراجيدية التي ستتعدى زمن المسرحية لتصل أصداؤها إلى عصرنا. وهكذا يبني يان كوت حكمه على شخصية شيكسبير كما تعكسه أعماله لا الكِسَر المهربة والمتناثرة والمتناقضة التي تضمرها سيرته، فيقول:” شيكسبير معاصر جدا لنا، إنه عنيف قاسٍ، ووحشي، أرضي وجهنمي، يستثير الرعب كما يستثير الأحلام والشعر، صادق جدا وغير محتمل جدا، درامي وجامح، عقلاني ومجنون، نهائي وواقعي”.

إنكلترا سوف تتمسك بابنها رغم الشكوك المثارة والتكهنات؛ فتظل ستراتفورد محجاً للسائحين والقراء، متجاهلةً الدراسات المتشككة التي تعيد قصة حياة المتنبي في تاريخ الأدب العربي حيث تتقاطع الروايات حول أصله وسيرة حياته وتربيته وحول حياته الأسرية، وأخيرا بصدد مصيره وموته..ولكن يكفي أن لشيكسبير رنينا عجيبا يقرب من الأسطورة التي جعلت سؤالا على لسان هاملت، من عشر كلمات في الأصل، يظل كسؤال أبي الهول مؤرقا ومربكا ومخيفا: أن تكون أو لا تكون. تلك هي المسألة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.