الرئيسية | سرديات | روحانيات: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

روحانيات: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

كان جدي من أمي رجلا طويل القامة، عريض المنكبين وأسمر اللون. كان طاغية في البيت مع جدتي وأبنائه وبناته. لم يظهر يوما حبه لهم. كان يصرف على البيت ويعتبر مهمته منتهية بذلك. كان يسكن غرفته في الطابق السفلي ولم أشهد يوما خلوة له مع جدتي التي كانت تنام في الطابق العلوي. كانا يعيشان منفصلين في بيت واحد. كانت تمده بالأكل، في بعض الأحيان يدعوها للجلوس معه قليلا وتفعل. كانت تفضل حين يخرج، يخلو لها البيت لتغني وتعايره بأقدح الأوصاف. لم يكن هناك مكان للحب في بيئة صحراوية قاسية. كان التعامل بينهما جافا. يكتفي بمد الأشياء التي اشتراها ويمضي إلى شغله. لم أكن أعرف ماذا يشتغل، كان هناك همس والكثير من الألغاز حول حقيقة شغله. أسأل جدتي أين يشتغل جدي فتقول لي كما باقي الناس. لم يكن يشتغل بالفلاحة فقد كان له خماس يعتني بحقوله. كنت فضولية وأود ان أعرف طبيعة شغله. كان يستقبل أناسا كثيرين في بيته وفي بعض الأحيان تأتي النسوة أيضا. يتحدث معه الضيوف والباب مغلق حتى في عز الصيف حيث تشتد الحرارة.

كان في البيت سلم خلفي مظلم يقود إلى غرفته. كنت أنزل من ذلك السلم وأجلس في الدرج الأخير أستمتع برائحة الكيف التي كانت تشدني وتخلق أواصر غريبة بين وبين جدي . بعدها بسنوات حين جربت الكيف كنت دائما أفكر في جدي. كان السلم الخلفي مرتعا للعقارب إذ كان أبرد مكان في البيت. كنت أتجنب العقارب وأتركها تمضي إلى حال سبيلها. حين تقترب العقرب لا أتحرك. أصمت وأتركها تمضي وأنا أنصت لنقاشات جدي مع ضيوفه. كانوا غالبا يتحدثون عن المال. كان جدي يمدهم بمال ويتفقون على أرباح، هل يكون هذا شغله؟ جدي يعطي المال للآخرين، يفك ضائقتهم. يبدو عملا نبيلا ومهما في ظروف الفقر التي تغرف فيها الواحة. لم يكن جدي مؤمنا بالتعريف الحرفي للكلمة. لم يكن يصلي ولم يعرف طريقه إلى المسجد لكن كانت له بركات غريبة منها مص سم العقارب والأفاعي. كان الناس ياتونه من كل قصور الواحة. كانت بركته نابعة من روحانية عميقة وصل إليها بدون ركعات. تلك الروحانيات التي تقود إلى خدمة الآخرين ومساعدتهم. كانت روحانيته ملموسة عكس أخيه الذي كان مواظبا على الفروض وكان يحلم بعودة السيبا لقتل من يخالفونه الرأي ومن ليسوا مؤمنين . كانت نقود جدي وبركته تجمع بين أناس مختلفين تماما من مختلف القبائل وكان يستقبل السود والبيض على حد سواء في غرفته.

كان الناس متفقون في الواحة على تقدير جدي رغم أنه لم يكن متدينا ولا يتهافت على المساجد. كان الناس بحاجة إلى بركته في غياب المستشفيات. مص سم العقارب والحيات كان عملا استراتيجيا في الواحة حيث تكثر اللدغات خاصة في الصيف.

لم يكن جدي من أعيان القرية. كان فقط رجلا قست عليه الحياة وجعلته لايتأثر حتى بالسم.

حين كنت صغيرة لم أفهم عمل جدي إلى أن تشاجرت مع صديقتي فاطمة جارته. رميتها بالحجارة وشددت شعرها وأوقعتها ارضا. حين أيقنت من الهزيمة بدأت تسبني. سبتني بقريبة كانت تشتغل في ماخور تنجداد. أحسست بالعار فأعدت ضربها من جديد. حينها رمتني بأقسى السباب. قالت

– اذهبي يا سليلة القحاب والمرابين، جدك سيذهب إلى النار جدي مرابي؟ سيذهب إلى النار؟ لماذا يا ربي أنتمي إلى هاته الأسرة التي ستحاصرني سمعتها أينما ذهبت. بكيت من أثر ذلك الكلام وعدوت جهة أمي. سألتها عن طبيعة عمل جدي وصاحت في وجهي

– جدك معالج، طبيب تقليدي لم تكن تريد أن تصرح لي بطبيعة عمل جدي. لاشك هي أيضا تحس بالعار في واحة تلوك سير الجميع. في زمن آخر سمعت أبي ينعت امي بسليلة المرابي. لم يؤذ جدي أحدا غير زوجته وأبنائه وظل حتى آخر العمر يرابي في واحة لم يكن فيها بنوك. كان في ماله بركة وفي فمه بركة، بركة تنبع من أفق غريب، أفق الروحانيات الفردية التي لا تساير الجماعة ولا تتمسح بأعتاب مقدسة لكي تشع وتظهر أثرها على الآخرين.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.