حاتم الصكَر (أديب وناقد عراقي):
لقد ظلت بنية قصيدة النثر كما هو رنينها في الذاكرة: شعرا بنثر ونثرا بشعر، لا فرق. لا تبالي قصيدة النثر بتناقضاتها التي تبدأ باسمها الملتبس الجامع للمتضادات في الشعرية العربية ومفهوم الشعر كما وقر واستقر في التداول والكتابة الشعرية معا.. ولذا وصفتُها في أحد كتبي مستعيرا الأسطورة الصينية التي تحكي عن امرأة رأت نفسها في الحلم فراشةً، فلم تعد تدري بعد يقظتها أهي فراشة حلمت بأنها امرأة، أم امرأة حلمت بأنها فراشة؟.
تتقدم كبنية صادمة مستفزة منذ لحظة التعارف مع القارئ الذي تتميز في وعيه الأنواع والأجناس ويفهرس النصوص بما يفرضه التفريق الحدي بين الشعر والنثر، ولا يراهما قابلين للتصالح والجمع في إطار نصي واحد، وهو إشكال والتباس واجه قصيدة النثر في حاضنتها الأساسية، وأعني اعتراضات الفرنسيين أنفسهم على التسمية وتصريح منظري قصيدة النثر الأوائل بحرج التسمية ومغالطتها وعدم تعبيرها على المستوى الاصطلاحي عما يراد منها على مستوى المفهوم، ولا تنتهي – أي التناقضات- بمعضلة تلقيها في أفق لم يتغير كثيرا ولم يبتعد عن مرمى القصيدة الأسبق.. فلم تتكيف آليات القراءة وإجراءاتها مع مقترحها الإيقاعي الذي ما يزال الكثير من المهتمين بالشعر لا يرونه إلا وهما وسرابا لعدم تعينه أو ملموسيته ، مقارنة بما تقدمه الوزنية من تعيّنات وكثافة موسيقية مرافقة للبنية اللغوية والتصويرية، وكما يتمثل في تجارب شعر التفعيلة الشائع باسم الشعر الحر.
لقد جرت في التاريخ الشعري العربي على مستوى الأنواع والأشكال التجديدية مفارقة واضحة حيث شاعت أولاً نماذج الشعر المنثور كما عرف اصطلاحا وكما جاء في نماذج من شعر جبران خليل جبران خاصة وأمين الريحاني وتجارب عربية لاحقة، قبل التمهيد بكتابة شعر التفعيلة الذي سيجترحه ويقترحه شعراء العراق في الأربعينيات، مطورين المقترح الذي برزت ملامحه العربية كما يعترف السياب ونازك في تجارب غير مكرسة بالتكرار وبالتنظير الواعي لعلي أحمد باكثير وسواه من السابقين عليهما. والجانب الآخر في المفارقة هو أن كتابة الشعر المنثور التي ظهرت مخالفة للتطور النسقي للأنواع لم تقابَل بالرفض والاستنكار اللذين ستقابَل بهما تجارب قصيدة النثر، حتى وُصفت بالخيانة للغة والتنكر للموروث وهوية الأمة وشخصيتها ،وبالتبعية للغرب، وبات هذا الاتهام الوطني والقومي يشوش على الجوهر الفني لها وراية الحداثة لأسلوبية التي حملتها عبر نصوص دعاتها الأوائل، وربما كان لذلك دور في إبعادها عن المناهج المدرسية والدرس الجامعي والبحوث الأكاديمية ، ما أفقدها القاعدة المطلوبة لتهيئة الوسط القارئ لها دون عُقد مسبقة وأحكام خطيرة تنفره منها إن لم تجهله بها، وبصمتها عنها في المقررات الدراسية والدراسات العلمية حتى وقت قريب.
وارتضت هي بدورها هذا الوصف المارق والمتمرد تناغما مع شعاراتها الثورية العارمة ،لاسيما في مرحلة التبشير الأولى والحِجاج مع الخصوم الذين أنتجوا خطابهم في هيجان الصدمة ورد الفعل . فيصفها أنسي الحاج في مشاكسة واضحة بأنها (عمل شاعر ملعون ونتاج ملاعين وبنت عائلة من المرضى!).
وإذا كان الفعل ورد الفعل يوقِعان في ما هو غير نصي أو فني فإن ذلك الهياج بصددها قبولا ورفضا دفع دعاتها الأوائل باتجاهين لا سند لهما إلا في قناعاتهم ؛وهما :
1-البحث من جهة عن جذر أو رسّ تاريخي لهذا الشكل الحديث المغاير للمألوف، فراحوا يحاولون تأصيلها والبحث عن نسب عربي لها في الكتابات الإشراقية العربية لاسيما نثر المتصوفة كالنفّري والخرّاز وابن عربي والحلاج، وفي استطرادات التوحيدي وتوسيعاته البلاغية .وأرى أن هذه النزعة التجذيرية تقابل بقايا فكرة الانتساب القبلي والعرقي والبحث عن النقاء الدموي للأفراد ضمن التعصب القومي نقلها إلى الأنواع الأدبية كما نرى في البحث دوما عن جذور وأصول للقصة القصيرة والرواية والمسرح والشعر الحر رغم أن اغلبها كأشكال عُرفت بطريق الترجمة والتثاقف مع الآخر ، ولا يعيب التجارب العربية المتفوقة فيها أن تكون بلا أصول.
2- نقل التجارب الأجنبية في كتابة قصيدة النثر عبر الترجمة
من جهة أخرى لتغذية التصور الكتابي لها ، وتهيئة النموذج الذي يثبت إمكان حدثها وقبولها نصيا، وعبر قصائد منتخبة من هنا وهناك لجاك بريفير وهنري ميشو وسواهما ..دون التعريف بالمناخات التي أنتجت تلك النصوص وموقعها على الخارطة الشعرية في لغاتها الأصلية.
هكذا مضت قصيدة النثر في خطها التحديثي مغرية الكثير من الدعاة والأدعياء- شأن الحداثات والمقترحات الجديدة عبر التاريخ – يتهافت عليها بوهم سهولتها وإغراء مخالفتها للسائد جمع من ضعاف القدرات ممن تلبي لهم دعوتها لإلغاء معايير الوزنية الموسيقية ما يريدون من كتابة لا طعم لها ولا لون .
و أدعياء كتابتها يلحقون بها ضررا كبيرا على مستوى التلقي، فما يشيعون من نماذج تتكرس كتقليد جديد سرعان ما يوهم بأنه قصائد نثر، إنما يجسم خطأ شخّصه أدونيس مبكراً ضمن أوهام الحداثة، وهو وهم التصور بأن كل ما ليس موزونا هو قصيدة نثر، وذلك وهم يتبع في جوهره ما شابَ الوعي بموسيقى الشعر من تشويش متحصل من جهتين:
– واحدة تحصره في الأوزان فحسب ،وإذ تتيح تنويع تفعيلاتها وتوسعاتها وحريتها العددية ، فهي لا تفرط بالوزنية شرطا للموسيقى المعززة بالتقفية اللازمة كملحق نغمي يكمل جوّها الموقّع والطربي ، فتتآزر على خلق هويتها الإيقاعية التفعيلات والقوافي التي تظل مهيمنة مهما انتظمت بحرية وبلا ضوابط ٍتقليدية.
– والثانية: تقيم إيقاع القصيدة على إلغاء الموسيقى تماما مع جهل أو تجاهل للبدائل الممكنة التي تعوض ذلك الغياب نبما تقترحه إيقاعا ملائما لتحرر قصيدة النثر من الموسيقى التقليدية ولمقولاتها المتصلة باللغة والسرد والتركيب .
ولكن سنرى أن بين هاتين النظرتين تمضي كتابة قصيدة النثر العربية متجددة عبر أجيال من الشعراء تتنوع مرجعياتهم والمؤثرات الفاعلة في تجاربهم ، فحين كان الجيل الأول من كتّابها يحاول تنفيذ برنامجها الإيقاعي والرؤيوي واللغوي كما تقترحه المرجعيات الفرانكفونية والإنكلوسكسونية، يذهب الجيل الأخير من الشبان مثلا إلى تجارب عربية تركت بصماتها في أشعارهم وتجسدت في قصائدهم النثرية..وأخرى من منابت شعرية مختلفة ومتباعدة.
ولكنْ ثمة جانبان تغفلهما قراءة قصيدة النثر ؛هما الجانب الدلالي فيها، والسرد الذي تعتمده تعويضا عن غنائيتها ،واستثمارا للنثرية المنصهرة في شعريتها، فلقد أكد المنظّرون الأوائل ودارسو قصيدة النثر على أنها – بتعبير موجز لجان كوهين – (قصيدة دلالية) ؛أي أنها تقدم الدلالة على المهمات الأخرى في النص. ولما كان المستوى الدلالي يحظى اليوم بكثير من عناية المحللين النصيين الذين يرون فيه حاصلا أو ناتجا للبنية النصية ككتلة فنية، فقد لزم الأمر عناية مقابلة من الشعراء أنفسهم، ومن قراء قصيدة النثر من بعد.
كثير من شعراء قصيدة النثر العرب لا يولون الدلالة اهتماماً مناسباً ،
فتدور نصوصهم في فراغ دلالي ،وفقر في التعين المعنوي المتوسع الذي تعمقه الدلالة ، فهي ليست المعنى المنكشف الذي هجرته الحداثة بدعوى مجافاة المباشرة والسطحية ،ولكنها استراتيجية نصية تنبني على صلة الشاعر بالعالم، ورؤياه للحياة وموقفه من المجتمع والمؤسسات المنظمة لحياته ،والإيديولوجيات السائدة وقضايا الحرية التي تؤطر الحياة وتشكل مفرداتها.
وبكونها قصيدة رؤيا تنفتح قصيدة النثر على الخيال والأسطورة وتدعم ملفوظاتها بتلك الأدوات المجتلبة منهما أو بهما . وهو جانب بحاجة لعناية كتاب قصيدة النثر الشبان خاصة ممن تتمحور تجاربهم لغويا أو صوريا دون الاعتناء بالدلالة التي تشي أيضا بما أسميه ثقافة النص الشعري ،كونه مناسَبَة للاحتكاك الثقافي بالموضوعات. ولكن النصوص الجديدة غالبا تعاني من شحوب دم وفقر في بنيتها الدلالية أو مستواها الثقافي؛ فيغيب عنها الجانب الأسطوري والرمزي والإحالات- التي يكفلها التناص- على المقروء والمعاد إنتاجه نصيا.
انحصرت بعض تيارات كتابة قصيدة النثر في بداياتها بالتركيز على المفارقة اللغوية ،وبناء نصوص ذات وجود لغوي غريب العلاقة بين تراكيبه .كما نحا بعضها إلى الجانب التصويري وتوليد بلاغة قائمة على الغريب والعسير والصادم من الصور والاستعارات ،لكن هذين التيارين ليسا إلا جزءاً من تيارات ومناخات كتابة شعرية متعددة ، يولي بعضها الاهتمام المطلوب للجانب الإيقاعي في قصيدة النثر، ويقترح إيقاعات بديلة للموسيقى الشعرية التقليدية الغائبة فيها .كما يعكف بعض آخر على تعميق الخط أو الملمح الدلالي للنص، لاسيما في التجارب الوسطى التالية للرواد وكتاباتهم الأولى.
أما السرد المستعاض به عن غنائية محلّقة أو مهوّمة ، والمجتلَب للنص لإكسابه ملموسية وتعينا ، فقد كان ممكنا في قصيدة النثر بشكل كبير نظراً للإفادة من طاقة النثر المنصهر في بنيتها. ولا يعني ذلك جلب آليات القص حَرفيا- كما هو حاصل في البناء القصصي مثلا- ولكنْ منْح قصيدة النثر أبعاداً تسهم في تشكيل نسيجها البنيوي، وتدعم جانبها الدلالي ،وتخفف من كثافة اللغة والصور فيها، ما يبعدها عن الغنائية الساذجة والتهويم الصوري المجاني الذي أصيبت به نصوصها الأولى في فهم خاطئ للمجانية كأحد الشروط التي لخصتها مجلة شعر بتسرع وابتسار عن دراسة سوزان برنار الأكاديمية واستنتاجاتها ، حتى صارت المجانية تعني اللاترابط والهذيان المنتَج لا عن وعي كافٍ بالتشكل المتعارض مع المعاني السائدة والصور المستقرة في الذاكرة الشعرية ،وهو من أهداف ومشغّلات كتابة قصيدة النثر.
ولا يجب أن تغيب عنا بجانب ما ذكرنا من مشكلات ذاتية أو داخلية تعاني منها قصيدة النثر تلك الجوانب الموضوعية التي تحف بالكتابة الشعرية؛ وفي مقدمتها مشكلتان أساسيتان ،هما : التلقي والنقد.
لقد ظل تلقي قصيدة النثر في وسط القراء- بسبب غياب النقد ،وافتقاد الألفة والصلة الصحية بنصوص قصيدة النثر، وهيمنة القراءة التقليدية – غير متوافق في أفق القراءة مع برامج قصيدة النثر ومستنداتها النظرية ودعاواها الفنية بصدد إيقاعها ولغتها خاصة.
لقد انطلق التلقي النسقي محاكما شرعية قصيدة النثر و جديتها وجماليتها من توجهات ذات القارئ الذي يحاول من خلالها توفيق تجربة النص الحالي غير المعروفة حتى الآن بالنسبة له،مع مخزونه الخاص من تجارب الماضي.
وإذا كان التلقي مشكلة جمالية تعاني منها الحداثة وأطروحاتها الصادمة عامة، فإن النقد يمثل مشكلة تكمل دائرة الأزمات التي تعاني منها قصيدة النثر، فقد صاحبها في فترات انتشارها الأولى كتابات منفعلة قدمها في الغالب شعراء قصيدة النثر أنفسهم ، يحكمها الهيجان الحماسي لها والاندفاع الذي أصفه بالتبشير بها، ويتحكم بتلك الكتابات السريعة طابع رد الفعل على ما جرى من مناوأة لها وتخوين ورفض. وقد تصبح القراءة حجاباً لأنها تحتكم إلى ما استقر بالتكرار النوعي والنصي
ويعضد هذا الغياب النقدي المتأني والفاحص والمقترب من النصوص تجاهل الدراسات الأكاديمية والمناهج المدرسية والمجلات العلمية لقصيدة النثر ودراسة مرتكزاتها النصية، أو فحص نصوصها ونتاج شعرائها من الدواوين..كما يسهم النقد المضاد لقصيدة النثر في استغلال غياب نقدها النصي والنظري ليشيع مقولات خاطئة عنها، كأن تصف شاعرة وباحثة كنازك الملائكة مجلة (شعر) بأنها تصدر( بلغة عربية وروح غربية).
لكن ما سيظل يحسب لها دون شك أنها تمثل لحظة حداثة فريدة تمس جوهر القصيدة وخطابها، لا مجرد التغيير في الشكل والرؤية ، وأن ضرورتها قائمة ،لا بدافع الحماسة للمغايرة وكسر المألوف فحسب ،بل لكونها تجدد دم الجسد الشعري العربي ، وترافق ثقافة عصر يغور في طبقات الوعي، ولا يقف مترنما على أطلال الذات المنهكة بالهزائم والخسائر والتراجعات