الرئيسية | سرديات | ذاكرة فتاة: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

ذاكرة فتاة: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

 كانت حورية تدرس في ثانوية الأرز بمدينة إيفران. كانت في السادسة عشرة من عمرها. تعشق القراءة قرب البرك المائية كلما سمح وقتها بذلك. لم تكن ترى أفقا آخر غير المكتبة. كان وقتها موزعا بين الدراسة والأشغال المنزلية الثقيلة. كانت أمها امرأة غريبة الأطوار. مزيج من البرود والسادية حيث تشغلها بكل أمور البيت وتبقى قاعدة تنصت للراديو وتستقبل صديقاتها وتسعد حين تموت حورية من التعب وتزحف إلى ركنها في غرفة الجلوس في آخر الليل. لم يكن هناك حدود لأوامرها. تفعل ذلك كأنها ليست أما. لزمن طويل أحست حورية أن تلك المرأة زوجة أبيها بل أحست لفترة طويلة أنها ليست ابنة هاته الأسرة بل لقيطة وجدوها واعتنوا بها لكي تخدمهم. كانت مشاعرها هي مشاعر خادمة صغيرة عليها أن تشقى لتستحق كسرة الخبز ودفاتر المدرسة.

 لم يكن هناك أفق لها غير الكتب، لم يكن بالإمكان التجول في شارع الأسد فهي لا تملك شيئا من ألبسة أو مجوهرات تستعرضها هناك وأشكال الغواية لا تسهويها ولا تفهم في ذلك. كانت تبحث عن المشاعر والحب في الروايات. كانت تعيش مع جوليان سوريل حبه لمدام ماتيلد وتعيش مع كونتا كينتي حلمه بالحرية. كانت هي ايضا تحلم بالحرية، بيوم تحصل فيه على الباكالوريا وتذهب للدراسة في الجامعة بمكناس. ستدرس القانون لتصير محامية، ستدافع عن الفقراء فقط لأنها تكره الأغنياء هكذا لله لا تحبهم. لا تحب طريقتهم في استعراض ما يمتلكون، كل هاته الممتلكات التي يكدسونها وبطريقة احتقارهم للجائعين.

كانت تفضل رفقة التلاميذ الفقراء لكي لا تصطدم بغنى الآخرين الذي لا تستطيع اليه سبيلا. كانت تكتفي بالقليل من الطعام الذي تتدبره أمها بمشقة النفس. تكتفي بملابسها المهترئة وتصبر على أشكال الحرمان لكن كان هناك حرمان لا تستطيع احتماله هو غياب الحب في البيت. حيث تسود حرب الكل ضد الكل التدمير متواصل.

هربا من كل ذلك كانت تحمل كتابا وتعدو إلى برك الماء وتقرئ. تقرئ إلى أن تدوخ. تعيش مع الشخصيات حياتها وصراعاتها وانتصاراتها وانكساراتها. لم تكن تلتقي أحدا. كانت تعيش داخل ذاتها، متوحدة معها. هاته الحياة الداخلية المكثفة هي التي حمتها من أهوال الواقع والحرمان. كانت تتجول داخل نفسها لساعات قرب الماء. لا تلتقي بداخلها غير الصمت ومشاعر الحب والسلام بين الجميع. كانت تتخيل مستقبلها وقد صارت محامية كبيرة ومنخرطة في حركة عالمية من أجل الحب والسلام. كانت تحتاج إلى الصمت والهدوء لكنه لم يكن متوفرا في بيت يشبه السيرك وتحدث فيه كل أشكال الهيستيريا الفردية والجماعية.

 كانت تروض جسدها على مقاومة الرغبات لهذا لم ترافق صديقاتها إلى الغابة مع الأولاد. هناك يتعلمن القبل ومص الحلمات وأشياء اخرى كانت تخجل حين تسمعها. كانت تحلم بشاب يحبها دون ان يلمسها. كيف يمكن أن تترك رجلا يعبث بجسدها؟ كيف يمكن أن تقبل أن يدخل أحدهم لسانه في فمها؟

مجرد تخيل قبلة باللسان يبعث بداخلها الغثيان. أشكال الإغراء تبعث الاشمئزاز بداخلها. كانت علاقاتها مع الأولاد لا تتجاوز حدود تبادل الكتب رغم أنها تلقت اعترافات مكتوبة. كانت تحلم بشاب يحبنها دون أن يطلب منها تلك الأشياء. تريده فقط أن ينظر إليها نظرة مليئة بالحنان، أن يلمس أصابعها ولا يقترب كثيرا لكي لا تحس بالاختناق.

كانت طهرانية في عالم يسوده الجنس والإشباع الآني. كانت تتصور أن الحب شيء أثيري لايمكن أن يختلط بالجسد. الإشباع الجسدي كان عندها سقوطا، انحدارا. لم يكن لتصورها ذاك مكان في عالم المراهقين والمراهقات الذين يسعون إلى التقارب الجسدي.

 وكان أن التقت الشاب: نور الدين الذي كان يكتفي بالنظر إليها من بعيد. تحس بنظراته حنونة. الكلمة الأساس عندها هي الحنان، هذا الشعور الفريد من نوعه. نوع من العشق الهادئ المتروي والعطف على الآخر. كان الشاب يساعدها على مراجعة مادة الرياضيات التي كان متفوقا فيها. كانت لقاءاتهما لاتتعدى مراجعة تلك المادة وفي إحدى المرات مدها بشريط كاسيت لراغب علامة. أحست بالقهر لأنها لا تتوفر على مال لترد له الهدية. كانت تنصت لراغب علامة حين يسمح لها إخوتها باستعمال الراديو كاسيت الوحيد في البيت. كانا معا مختلفان نور الدين وهي. لم يكونا مستعجلين. يملكان نفس الرؤية، نفس النظرة للعالم. سينجحان ويذهبان للدراسة بالجامعة وبعدها يفكران مايفعلانه بحياتهما.

مرة واحدة ذهبت في خرجة إلى عين فيتال مع خديجة وعلي. لعبا الكارتا وأكلا الخبز بالجبنة. انصرفت خديجة وعلي وتركاهما وحدهما، ينظران إلى بعضهما البعض دون أن يمد نور الدين اليد.

مرت سنة وقرر أبوها أن يرحل عن ايفران. كانت حزينة، مدمرة. بكت في صمت لأنه لاسبيل إلى إعلان رأي مخالف لقرار أبيها. رحلت إلى الدار البيضاء وهناك بعد شهر وصلتها رسالة من نور الدين لا تذكر منها غير عبارة” أقترب من أصابعك وأقول لك أحبك” وصلت الرسالة متأخرة فقد عرفت الإشباع الآني ، قبلت شبابا وعرفت مص الحلمات وأشياء أخرى. لم تعد تلك الفتاة الطاهرة الحالمة. كانت البيضاء قد أتت على طهرانيتها بسرعة وغاصت في جحيم اللذات فلماذا أخرجها أبوها من جنة إيفران؟

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.