الرئيسية | حوار | د. عبد الرحمن بودرع: المقولات السائدة في الخطاب البلاغي الحديث هي مقولات البلاغة الجديدة، وإن الخطاب المهيمن اليومَ هو الخطاب البلاغي الحديث

د. عبد الرحمن بودرع: المقولات السائدة في الخطاب البلاغي الحديث هي مقولات البلاغة الجديدة، وإن الخطاب المهيمن اليومَ هو الخطاب البلاغي الحديث

حاورته فتيحة حسون

 

د. عبد الرحمن بودرع أستاذ اللسانيات وتحليل الخطاب بجامعة عبد المالك السعدي، تطوان. وهو رئيس مسلك ماستر: لسانيات النص وتحليل الخطاب، ومنسّق تكوين الدّكتوراه، وحدة: لسانيات/تواصل/ترجمة. عضو محكَّم في لجان التحكيم لمجلات عربية محكّمة، ولبعض مراكز البحث العلمي الجامعية العربية. [جامعة الملك سعود – جامعة أم القرى – جامعة آل البيت الأردنية – مجلة عالم الفكر الكويتية – مجلة كلية آداب فاس سايس – الرابطة المحمدية للعلماء بالمغرب…]. حاصل على جائزة الشرف المتميز، للبحث العلمي من جامعة عبد المالك السعدي عن ثلاث سنوات على التوالي:  2009 / 2010/ 2011.

من مؤلفاته: “الأساس المعرفي للغويات العربية” و”الإيجاز وبلاغة الإشارة في البيان النّبوي” و”الخطاب القُرآني ومناهج التأويل”…إلخ.

 

1 –في مقدمة كتابكم الموسوم بـ” الأسس المعرفية للغويات العربية”، ذكرتم ما يلي: ” ولكن لا دخول إلى التجديد والتحديث لهذا التراث إلا بإرساء قراءة جديدة له؛ في ضوء ما جدّ من مناهج وطرق وتصوّر وأدوات بحث في ميدان الفكر اللساني الحديث”. هل ترون – دكتورنا الفاضل – أن قراءة التراث بطرق جديدة تمكّنه من حجز كرسي مرموق على الساحة الألسنية والنقدية العالمية؟

الكلمةُ المشارُ إليها أعلاه، ورَدَت في سياق محدّد، وهو أنّ الحرصَ على صَونِ الاتّصالِ بالتّراثِ والأصولِ المعرفيّةِ الأولى ودَفْعِ الانفصالِ والانقطاعِ عنها، لَيُعدُّ عاملاً من أهمّ العَوامِلِ في الحِفاظِ على تُراثِ العُلومِ العربيّةِ الإسلاميّةِ وعَدَمِ اهتزازِه وسُقوطِه أمام التّحوّلاتِ التاريخيّة الكُبْرى التي عَصَفَت بالأمّةِ، فَكانَت مَقولَةُ الاتّصالِ والانسجامِ والمصالَحَةِ بينَ المعارِفِ والعُلومِ من أهمّ المقولاتِ التي ضَمنت للذّاتِ استمرارَ الارتباطِ بالأصولِ الرّاسيةِ التي شكّلت المنطَلقاتِ الأولى، والنّسجَ على منوالِها لإعادَةِ إنتاج الذّاتِ بِما يضمنُ استمرارَ القِيَمِ والأفكارِ والمَفاهيمِ المُؤسِّسَةِ، ويربطُ بينَ الماضي والحاضرِ رَبطاً تفاعلياً يُحدّدُ نوعَ الإنتاجِ الفكريّ والتّصنيفِ العلميّ، ويُثبتُ أنّ الإبْداعَ في العلمِ يَقومُ عَلى أساسِ التّفاعُلِ الموصولِ مَعَ القيَمِ والعَقيدَةِ، والاتّصالِ مَعَها لا الانفصالِ عَنْها والتَّصارُعِ مَعَها؛ فإنّ رِعايةَ هذا التّفاعُلِ الموصولِ سيجعَلُ حَرَكَةَ التصنيفِ والإنتاجِ العلميّ قادرةً على إنتاجِ الطّاقَةِ الإبداعيّةِ. ولكن لا دُخولَ إلى التَّجديدِ والتّحديثِ لهذا التّراثِ إلاّ بإرساءِ قِراءةٍ جَديدةٍ لَه؛ في ضَوءِ ما جدَّ من مناهجَ وطُرقِ تصوُّرٍ وأدواتِ بَحْثٍ في مَيْدانِ الفِكْرِ اللسانيّ الحَديثِ، فالقِراءَةُ الجديدَةُ هي التي تَصلُ الحاضرَ بالتّراثِ الفكريّ والعلميّ فتكون بهذا الوَصلِ لَبِنةً كُبرى في مَسارِ الفعلِ الحَداثيّ الأصيلِ الواصِلِ. ولا استئنافَ لهذا الفعلِ الحَداثِيِّ إلاّ بتَجْديدِ الصِّلَةِ بالمنطَلَقاتِ الأولى والمسلَّماتِ الفكريّةِ والعَقَديّةِ المُؤسِّسَةِ.

 4

2- قضية “المصطلح” قضية ذات تشعبات جدلية كثيرة، فإلى أي حدّ يمكن للعرب تعريب المصطلحات العلمية والأدبية بصورة تغلق الباب أمام تعدّد المصطلحات وفوضاها، إذا علمنا أن هناك تجربة ناجحة للفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن في سبعينيات القرن الماضي حين ترجم المصطلح الغربي “pragmatique” إلى مصطلح” التداوليات” ومنذ ذلك الحين انتشر هذا المصطلح على الساحة الألسنية والأدبية العربية ؟

مشكلةُ المصطلَح في الدّرس اللغويّ والأدبيّ العربيين نشأت عندَما اتّصلَ هذا الدّرسُ العربيّ الحديثُ بمُنجَزاتِ العلوم الإنسانيّةِ الوافدةِ من الغربِ، فعرَفَ المُصطَلَح في بلادِ العربِ حالةَ فَوضى وحالَةَ خلطٍ واضطرابٍ وعدمِ اتّفاقٍ واستقرارٍ، خاصّةً في  الفترةِ الواقعةِ بين أربعينياتِ القرنِ الماضي وستّينياتِه، والسببُ في أزمة المصطلَح اختلاف مناهج الدّارسين الذين كانوا يغترفون من التراث وينحتون منه مصطلَحَهم، والذين يضعون مصطلحات جديدةً لا تعبأ بقواعد اشتقاق المصطلح العربي المناسب، وتجلّت الأزمة على وجه الخصوص في حَركات النقلِ والتّرجمة لما جدّ ويجدّ في ميدان العلوم الإنسايّة خاصّةً وفي اللسانياتِ على وجهه الخصوص . ولكنّ تطوّرَ البحثِ اللغويّ العربيّ بعدَ هذه الفترةِ لم يَمْحُ محواً تاماً أزمةَ وضع المصطلَح العربيّ المناسب للمفاهيم والمقولات اللسانيّة الحديثَة؛ إذ ظلّ المنهجان المختلفان سائدَين، فأولهما يبحث عن مُقابل للمصطلحات اللسانية الغربية في مصطلحات لغوية عربية قديمة ذات حمولة معرفية مختلفة من غير مُبالاة بمناسبتها للمدلول عليه أو عدم مناسبتها، والمنهج الثاني كسرَ قاعدةَ العودة إلى التراث وابتدع مصطلحات غريبةً لا يُفهمُ معناها إلا إذا قُرنَت بأصلها اللاتيني، وهذا مظهرٌ من مَظاهِرِ أزمة البحث العلمي العربيّ في مجال العلوم الإنسانيّة، ومن مظاهِرِ الأزمة أيضاً البُعدُ الفردي في العمل العلمي عند العرب المعاصرين، الذي يوضعُ في مُقابل البعد الجَماعيّ وعمل الفريقِ، عند علماء الغرب وباحثيه.

أمّا المبادرةُ التي قدّمَها الأستاذ د.طه عبد الرحمن في مؤلفاته فهي أنه شقَّ منهجاً جديداً في ابتكارِ المُصطلحاتِ واشتقاقها وفقاً لقواعد الاشتقاق الصرفية العربية، مُحققا درجةً عاليةً من الدّقّة في الانتقاء والصّياغَة الدّالّة المعبّرة عمّا يدخلُ ضمنَ دلالة المصطلَح، ساعَدَه على ذلك علمُه الواسع بالدلالة والمنطق، وإلمامُه الجيد بفلسفة اللغة، واطّلاعه الكبير على التراث اللغوي والفلسفي العربي والإسلاميّ، ومعرفتُه الجيدة بأصول الصرف والاشتقاق ونحت المصطلحات، فتلكَ المعارفُ والعلومُ والمناهجُ منحته مَلَكَةَ اشتقاق المصطلح المناسب وإبْداعه، ومن ذلك مصطلح التداوليات وغيرها من عشرات المصطلحات المبثوثة في كتبه الفلسفية والحجاجية…

3 –يرى بعض اللغويين العرب أن “تشومسكي” تأثر بالنظرية الخليلية والجرجانية، فيما يخص نظريته النحوية التحويلية التوليدية. ما مدى صحة هذا القول، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن رسالة الماجستير التي قدمها ” تشومسكي” عام 1951 كانت عن ” الصيغ الصرفية في العبرية ” وأن كثيرا من اللغويين العبريين أخذوا علوم اللغة عن المسلمين أيام حضارة الأندلس ؟

لا تذكرُ المصادرُ والكتاباتُ اللسانيةُ أثرا لاطّلاع تشومسكي على النّحو أو البلاغة أو عُلوم اللغة العربيّة، أو على عَلَم من أعلام العربيّة. وعدمُ اطّلاعِه على ذلكَ لا ينقصُ من قيمته بل تدلّ كُتبُ مُتقدّمي النّحاة كالخَليل وسيبويه والمبردِ وعبدِ القاهِر وغيرِهما على عُمقٍ في النّظر والتّقعيد. وليس بعيدا أن يكونَ تشومسكي قَد سعى إلى الاطّلاع على نَظرية العاملِ في كتاب سيبويه، وما يَدورُ في فَلَكِها من مفاهيمَ كالتقدير والحذفِ وغيرِهما، لا يُستبعدُ أن يكونَ قد اطّلع على العامليّة النحوية العربية قبل أن يؤسسَ نظريتَه الشّهيرة، “العامليّة والرّبط” [Government&Binding] وإن لم يُصرّح بذلك، كما يقولُ بعضُ الباحثين، ولكنّ هذا الاحتمالَ يحتاجُ إلى دليل على كلّ حال .

 

4 –يُذكر أن ثمة محاولات لتأسيس مدرسة لسانية عربية، يشارك فيها ثلة من الألسنيين منهم: عبد القادر الفاسي الفهري وكمال بشر وعبد السلام المسدي. إلى أي حدّ ترى دكتورنا الفاضل أن هذا السعي ممكن تحقيقه، وهل سيكون مواصلة للبحث الألسني التراثي العربي، أم سيتم القفز على مرحلة التراث لصياغة نظريات جديدة؟

هؤلاء الأعلام الذين ذكرتموهم يمثلونَ وجهات نظر مختلفة في إطار ما يُمكن تسميتُه تجوزاً باللسانيات العربية المعاصرة، الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري الذي ابتدأ حياتَه اللسانية بالاجتهاد في وضع أنموذج أو نماذجَ لسانية جديدة للغة العربية مُستوحاةً من الدّرس اللساني التوليدي في بعض مراحل تطوره النظري، ومن غير تأثر بالمقولات النحوية العربية القديمة، وأسهم في تنميةِ الخطابِ اللساني العربي المعاصر وتجديده، ثم اتجه أخيراً نحو البحث في السياسة اللغوية في الوطن العربي، والمقارَنَة والتخطيط اللغوي، ووضعية اللغة العربية في سياق صراع اللغات وتعددها والازدواجيات المحلية والعامة، وهذا اتجاه يربط اللغةَ بالتحولات الكبرى للأمة، ويقترح خططاً لتنزيل اللغة العربية منزلة المؤثر في صنع القرارات والأحداث في الوطن العربي وعلى الصعيد الدولي… ولم يفت الأستاذَ عبد القادر الفاسي أن يوجه نقداً للكتابة اللّسانية العربية الحديثَة، اختصرَه في الحُكم عليها بأنها خطابٌ هَزيلٌ، والسببُ في الهُزالِ وجودُ عدد كبير من العوائق التصورية والأوهام الفكريّة التي تحولُ دون دراسة اللغة العربية دراسةً موضوعيةً، وافتقارُ خطاب اللسانيات العربية لشروط الخطابِ العلميّ المتَّبَع في المقاييس اللسانيّة الدّوليّة، فلا تتأسسُ المعرفةُ اللسانيةُ العلميّةُ في الكتاباتِ اللسانيّة العربية بسبب تلك العوائق الذّاتية والمغالطات السائدة في منهج البحث اللغوي العربي… وانتقَدَ الأستاذ عبد السلام المسدّي أيضاً الخطاب اللساني العربيّ المعاصر وأورَد معوِّقات أخرى تحولُ دون قيام لسانيات عربية واضحة المعالم ذات تصور منهجي منسجم ومناهج البحث اللساني الـمُتداولَة في البحث اللساني الغربي.

ويبدو أن موقفَ الرجلين من التراث العربي يُختصَرُ في أنّه لا ينبغي أن يقفَ التراثُ عائقاً أمام صياغة خطاب لساني حديث ذي مَعايير واضحة المعالم منسجمة مع مناهج البحث اللساني الغربي؛ لأن التراثَ اللغوي العربيّ بُنيَ بإطار ثقافي ونظري غير الذي ينبغي أن تُبْنى به اللسانياتُ العربيةُ الحديثةُ، وقُصارى الجهد أن يُنتَقى من التراث العربي القَديمُ نظرات ومواقفُ متقدمة ذاتُ صلة بالظّاهرة اللغوية الإنسانية عامةً وتفوقُ وصفَ العربية في خصوصيتها.

إنّ تأسيسَ مدرسةٍ لسانية عربيّة ليسَ مسألةَ إجراءات وأعمالٍ يُقامُ بها على النّحوِ الذي تؤسَّس به الجمعياتُ والأحزابُ والمنظّماتُ، ولكنّ المدرسةَ إطارٌ فكريّ له جَوامعُ تجمَعُ المنتسبين إليه، من المعارِف والمناهج والمصطلحات والتصوّرات والمواقف من القضايا المدروسَة… تتكوّنُ مَلامحُ المدرسَة وخُطوطُها العامّةُ ممّا يتراكم من مؤلّفاتٍ وأبحاث وما يُعقَد من ندوات ومناظراتٍ وما يُؤسَّسُ من دورياتٍ ومجلاّت ومنتدياتٍ ومواقعَ ومنابرَ لتبيلغ الفكرِ والتصور والمنهج، مع التأكيد أنّ الجوامعَ التي تجمعُ بين خصائصِ هذه المنجَزات من الناحية الفكرية والمنهجية والروابط التي تشدّ أعضاءَها هي التي يُعوَّلُ عليْها في الحديث عن المدرسَة، والذي نعلمُه أنّ الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري يُعدّ رائدَ المدرسَة اللسانية العربية الحَديثة في المغرب خاصةً وفي البلاد العربية عامةً، بما ألف من مصنّفاتٍ لسانية عربيّة جديدةٍ ذاتٍ رؤى وتصوراتٍ ومناهجَ مختلفةً عمّا كان سائدا في البحث اللغوي العربي، وما خلَّفَ من طلاّب وباحثين يحملون فكرَه ويُطوّرونَه بالوصف والتفسيرِ والتأويلِ والتّطبيقِ، وما أنشأ من مجلاّت وما سيَّرَ من مَعاهدَ ومؤسساتٍ انطبَعَت بطابع منهجه في البحث اللساني. لذلِك يُمكن أن نقولَ إنّ المدرسَة اللسانية التي أسسَ الأستاذ الفاسي تمتدّ أصولها منذ السبعينيات من القرن الماضي، وترتفعُ أغصانُها إلى يومنا هذا بما أنجزته من منجَزاتٍ علميّة وخطابٍ علميّ لساني جديدٍ غيّر اتجاه البحث اللساني وفتح الباب على مصراعيه أمام تراكم المؤلفاتِ اللسانية العربية الرصينَة، ومناقشات الأطاريح الجامعيّة في قَضايا اللغة العربية .

ونستطيعُ أن نتحدّثَ عن مدرسةٍ لسانيّةٍ أخرى تسيرُ في خطٍّ موازٍ للأولى وإن كانَت مختلفةً عنها في التصوّر والمنهج والأدوات والمصطلَحات، إنها مدرسة النحو الوظيفيّ التّداوليّة التي يتصدّرُها الدّكتور أحمد المتوكّل؛ الذي يرى أن التداولية تيار وظيفيّ يصفُ بنيةَ اللّغةِ من خلالِ ما تؤدّيه من وظائفَ داخلَ المجتمع. اجتهد الأستاذ المتوكل في تقديم مُعالجاتٍ لسانية للنّحو العربي خاصّةً وللتّراث اللغويّ والبلاغي والأصولي والكلامي عامّةً، وقدّم قراءاتٍ لسانيةً واعيةً لهذا التّراث في ضوء ما يُناسبُه من نماذجَ لسانيةٍ حديثة. وانطلقَ في هذه القراءة من منهجيّة محدّدة، وإطار نظريّ يوحّد بين ظواهر الوصف والتحليل، إنها قراءةُ التراث بمنهج النّحو الوظيفي التّداوليّ الذي عدّه المشتغلون به إطارا لسانيا صالحا لمقاربَة هذا التّراث واستكشاف النّسق النّظري العامّ الذي يؤطّر علومه جميعا على اختلاف مواضيعها وتعدُّدِ مصنَّفاتِها ورجالها، وخاصّة أنّ عواملَ نشأتها ومصادرَها واحدةٌ، وهذا ما يفرض على قارئ هذا التّراث أن يتناولَ علومَه لا على أنّها مستقلّ بعضُها عن بعض، ولكن على أساس عدِّها خطابا متجانسا يستمدُّ مفاهيمَه ومنهجَه من جهاز نظريّ واحد – كما يقول أصحابُ هذه المقارَبَة[1] – يركّز على عناصرَ وظيفيّةٍ تداوليّةٍ رئيسةٍ منها مقام الخطاب، ومنها مقاصدُ المتكلّم ونيّته من وراء الخطاب، ومنها أنّ وسيلة التّخاطب في التّراث الفكريّ العربيّ تجاوَزَت المفرداتِ والجملَ إلى النصِّ بوصفِه وحدةً تواصليّةً متكاملةً ينتظم أجزاءَها موضوعٌ وغرضٌ.

ولقد خلّف الأستاذ المتوكل رصيدا من المؤلفات في نحو اللغة العربيّة التّداولية وجيلاً من الباحثين المغاربَة والمشارقَة، الذين يَحملون المشروعَ التداولي ويطبقونه على أجزاء من اللغة العربية، ويشرفون على الأطاريح والرسائل الجامعية… 

 4

5 –هل يمكن أن تكون هناك مناظرات ومحاورات؛ لمدّ الجسور ما بين مخزوننا التراثي اللغوي والبلاغي والنقدي للتعريف به، وما بين المخزون الغربي، على غرار حوار الحضارات، خصوصا ونحن ندرك أن الغرب تجاهل الإشارة للتراث اللغوي العربي في معظم الكتب التي تناولت تاريخ اللغة؟

جُسورُ التواصُل والحوار بين التراث والحَداثة الغربية لا يُمكن أن يُتصوّرَ إلا بإيجاد قنوات لهذا التواصُل، وإيجاد بيئة علمية لتأسيس مَعالم هذا الحوار، ومن أهم القنوات ترجمة جوانبَ كثيرةٍ من التراث إلى لغات أجنبية تتداولُ المعرفة العلميةَ في المؤسسات الأكاديمية العالمية، لأن الترجمة تقريبٌ للذات من الآخَر حتى يتمكّنَ من اكتشافها، وإلا فليس من المعقول أن نعلقَ بالآخَر أسبابَ الانقطاع؛ ونتغنّى بالتراث الذي لا يفهمُ ما فيه من قيم وفوائد كليةٍ إلا المنتسبون إليه، فالنقدُ الذّاتي شرطٌ في حُصول الانتقال وتحقيق التطوّر لهذا التراث وتهييئه لمواكبة العَصر.

 

6 –هل بدأ صوت تراثنا اللغوي والبلاغي والنقدي، يعلو ليُسمع على مدار الساحة العالمية أم إنه حضور في المؤتمرات والندوات، يتلوه غياب على أرض الواقع الفعلي والتفاعلي؟

الحقيقة أنّ المقولات السائدة في الخطاب البلاغي الحديث هي مقولات البلاغة الجديدة، وأن الخطاب المهيمن اليومَ هو الخطاب البلاغي الحديث، أما البلاغة العربية ذات العُمق الفكري والخصائص الجمالية العالية فلا يفهمها إلا ذووها من المتخصصين، وهي ذاتُها تحتاج إلى جهود ثقافية لنقلها بمقاييس الخطاب الحديث إلى القارئ الغربي، وبيان مزاياها وحاجةِ اللسانيات والأسلوبية والسيميائيات إلى بعض القيم الجمالية العالية التي اجتهَدَ البلاغةُ العربية في صُنعها ووضعِها، وهذه خطوةٌ لا يُمكن أن تُخْطى إلا بوسائل التقريب كالترجمَة الدقيقة السديدة التي تحترم شروطَ البحث العلمي، وكعقد الندوات والمؤتمَرات التي تجمع بين ممثلي الجانبَيْن لعقد محاورات في الإشكالات المعرفية الكبرى المشتركة.

ولكن هذا لا يمنع من الحديث عن الاستفادة بيت التراث والحداثة، يمكن أن نتحدّثَ عن حدود الاتّصال بين النّحو العربي والنّماذج اللّسانية المعاصرة، وبالضّبط يمكن أن نتحدّثَ عن إمكانِ استثمار أفكارِ النّحاة العربِ القدماءِ ونظراتهم، وتوظيفِها في تطويرِ البحث اللّساني

ولكن ينبغي مراعاةُ المفارقة والانفصال بين اللّغويات العربية القديمة واللّسانيات الحديثة؛ فالنّماذجُ اللّسانية المعاصرة تندرجُ في إطار نظرياتٍ مضبوطةٍ ببرنامجٍ علميٍّ محدَّد الأهداف. أمّا اللغوياتُ العربية القديمةُ فهي جمهرة من المعالَجاتِ اللغوية المتعدّدة المستويات، والمتفاوتة من حيثُ العمق في الوصف والتّحليل، والإجمال أو التفصيل، ولا بدّ من أخذ هذه الفروق بعين الاعتبار…

ولقد اجتهدَ كثيرٌ من اللسانيينَ العرب المعاصرينَ في تقديم مُعالجاتٍ لسانية للنّحو العربي خاصّةً وللتّراث اللغويّ والبلاغي والأصولي والكلامي عامّةً، وقدّموا قراءاتٍ لسانيةً واعيةً لهذا التّراث في ضوء ما يُناسبُه من نماذجَ لسانيةٍ حديثة. وانطلقوا في هذه القراءة من منهجيّة محدّدة، وإطار نظريّ يوحّد بين ظواهر الوصف والتحليل، من هذه القراءاتِ نجدُ النّحو الوظيفي التّداوليّ الذي عدّه المشتغلون عليه إطارا لسانيا صالحا لمقاربَة هذا التّراث واستكشاف النّسق النّظري العامّ الذي يؤطّر علومه جميعا على اختلاف مواضيعها وتعدُّدِ مصنَّفاتِها ورجالها، وخاصّة أنّ عواملَ نشأتها ومصادرَها واحدةٌ، وهذا ما يفرض على قارئ هذا التّراث أن يتناولَ علومَه لا على أنّها مستقلّ بعضُها عن بعض، ولكن على أساس اعتبارها خطابا متجانسا يستمدُّ مفاهيمَه ومنهجَه من جهاز نظريّ واحد – كما يقول أصحابُ هذه المقارَبَة[2] – يركّز على عناصرَ وظيفيّةٍ تداوليّةٍ رئيسةٍ منها مقام الخطاب، ومنها مقاصدُ المتكلّم ونيّته من وراء الخطاب، ومنها أنّ وسيلة التّخاطب في التّراث الفكريّ العربيّ تجاوَزَت المفرداتِ والجملَ إلى النصِّ بوصفِه وحدةً تواصليّةً متكاملةً ينتظم أجزاءَها موضوعٌ وغرضٌ.

ومن اللسانيّين العرب مَن اجتهَد في وضع نحو جديدٍ للعربية المعاصرة وذلك من خلال إمكان التّطبيق للمبادئ النّظرية لنموذج لسانِيٍّ ما على اللغة العربية المعاصرة[3] أو على أجزاء منها، ويؤدّي هذا التّطبيقُ إلى تغييرِ الوضعِ اللّغويّ، وإعداد المصطلحات الفنية، وإعادةِ النّظر في أجهزة اللغة قصد تجديد التّعبير بها، وإتاحةِ الفرصة للتّطويع اللّغويّ، وإدماجِ مفاهيمَ حضاريةٍ وعلميّة جديدة، وتناوُلِ مشاكلِ التّعليمِ وتصميمه وبرمجتِه، وتحقيقِ الأهداف المتوخّاة منه، ووضعِ الكتابِ المدرسيِّ، وتأليفِ المعاجم والكتبِ النّحويّة، واستثمار نتائج البحث اللّساني في تعليم اللغة العربية، للناطقين بها وبغيرِها، وتطبيقِ اللسانياتِ في تحليلِ أنواعِ الخطابِ المختلفةِ، وتحليلِ الآثار الفنّيّةِ، وتحليلِ الظّواهرِ النّفسيّةِ والمَرَضِيّة المتّصلة بالنّشاط الكلاميّ، ومعالَجَة النّصوص معالَجةً آليةً حاسوبيّةً، إلى غيرِ ذلك من الميادين التّطبيقيّة…

وهكذا نجد أنّه قد أحدِثت طرقٌ جديدةٌ في تعليم العربية، منها المقاربَةُ الوظيفيّة التّداوليّة، والمقاربةُ التّوليديةُ من خلال بعض نماذِجها التي تركّز على البنية السطحية والبنية العميقة والتّحويلات… ومعنى ذلكَ كلِّه أنّ العربيةَ لغةٌ تتضمّنُ طاقاتٍ تعبيريةً وتواصليةً هائلة  تمكّنُها من أن تُعالَج  بمقارباتٍ لسانية مختلفةٍ  تيسِّرُ تعليمَها  وإدماجَها في السياق العامّ للمعرفة البشرية.

7 –في القرن الرابع عشر كانت اللغة العربية تدرّس في جامعة باريس، والآن نجد الفرانكفونية تحارب اللغة العربية وتقدّم اللهجات بديلا، فلمَ كلّ هذا العداء وقد كانت بالأمس مرحبا بها؟

كانت اللغة العربية بالأمس تُدرَّسُ في جامعات أوربا لأنها كانَت قبل ذلِك لغةَ العلم والفكر والفلسفَة، حتّى بات من الواجب على مَن أراد أن يلتحق برَكب البحث العلمي أن يتعلم اللغة العربية، فظلَّت العربيةُ على حالها في القوّة والهيمنَة على الرغم من ضعف المسلمين في الأندلس وتراجُع قُواهم وتفكك صفوفهم، ولكنّ حملات الاستعمار بعد القرن الرابع عشر كسر قاعدةَ المرجعيّة العربيّة في أخذ العلم، ونقلَها إلى لغات أوربا بعدَ أن نُقِلَت المصادرُ العربيةُ والمخطوطاتُ إلى الجامعات الأوربية الكبرى للاقتباس منها ولتأسيس علوم أوربية حديثة في مجال الطبيعيات والإنسانيات وغيرها، فالعَداءُ الملحوظُ صادرٌ عن النزعة الاستعماريةِ التي حرصَت كلّ الحرص على طَمسِ مَعالم الحقبة العربية الإسلامية في تاريخ العلم، وإلحاق العالَم كلّه بأوربا وأمريكا.

 

8 –ذكرتم دكتورنا الفاضل في ملخص البحث الذي نشرتموه على صفحتكم في ” الفيسبوك ” والذي شاركتم به في ندوة ” قراءة التراث الأدبي واللغوي في الدراسات الحديثة” بجامعة الملك سُعود بالرياض، والذي حمل عنوان: “نحو قراءة إبستمولوجية معرفية للتراث النحوي العربي” ما يلي: (( …ومنهج القراءة المعرفية يخرج التراث اللغوي من جديد إلى حيّز الوجود الثقافي المعاصر)). فإلى أي حدّ استطاعت القراءات الجديدة للتراث اللغوي أن تقدمه للغرب باعتباره متميزا بأسسه وكينونته المعرفية وليس مجرد استنساخ أو تابع للنظريات اللغوية الغربية؟

القولُ الذي أوردتُموه أعلاه إنما هو دعوةٌ صريحة للباحثين والمثقفين أن يُعيدوا صياغة مسائل التراث وموادّه وظواهرِه وفق الإشكالات المعرفية الحديثَة ليسُهل إدراكه ولإماطة الحواجز النفسية والتاريخية التي تراكَمَت عبر مئات السنين التي حالَت بينه وبين بنيه قبل أن غيرِهم، والحقيقة أن الإنجازات العلمية العربية في ميدان تحديث التراث وتقريبه وفق مقاييس المعرفة الحديثَة لم ترقَ بالقدر المطلوب إلى المستوى الذي يُعرّفُ بالتراث ويجعلُه كياناً ثقافياً معرفياً مشتركاً بين الأمم وليس خاصاً بالأمة العربية الإسلامية. لا بدّ من نشر التراث نشراً علمياً صحيحاً وإخراجه من مرحلة عدَم المقروئية إلى مرحلة القراءَة، ثم وصفه والتعريف بقضاياه وأعلامه وقيمه، ثمّ يعقُبُ ذلِكَ كلَّه مرحلةُ التفسير والتأويل ووجهات النّظر والمقارَبات المعرفيّة المختلفة.

الحقيقةُ أنّ المرحلةَ الثالثةَ عرفَت إقبالاً كبيراً من قِبَل الباحثين اللسانيين العرب، فقَد اجتهدوا في مقاربة مسائل النحو العربي بأدوات تركيبية حديثة كالعاملية والربط والبرنامج الأدنى، ومقاربة مسائل البلاغة العربية بمفاهيم كأفعال الإنجاز والاستلزام التخاطبي وأفق الانتظار وجماليات التلقّي… فكان هذا الاجتهادُ مقدماتٍ للشروع في فتح أبواب التحاوُر بين قضايا التراث والمناهج اللسانية الحديثة.

 

9 –المؤتمرات والندوات اللغوية والأدبية ساحة لالتقاء المهتمين بهذا المجال، هل استطاعت الجامعة المغربية أن تستغل هذه التظاهرات؛ لتقدّم مادة معرفية غنية للطالب تفتح أمامه آفاق التقارب بينه وبين البحث االعلمي ؟

دأبت الجامعاتُ المغربية على تنظيم الندواتِ والمؤتَمَرات الوطنية والدّوليّة منذ ثمانينيات القرن الماضي، في ميدان اللسانيات وقضايا التراث والمعاصرة، وقد أسهمت بحظّ وافر في نشر الوعي بضرورة الالتحاق بالرّكب الغربيّ في ميدان اللّسانيات، وهذا الأمرُ ساعَدَ على تطوّر الوعي اللساني والخطاب اللساني بالمغرب تطورا ملحوظا منذ ذلك التاريخ إلى يومنا، ودخَل في الثقافَة العلمية الجامعية وفي الأبحاث الأكاديمية، والحقيقةُ أن هذه المناسبات العلمية تُساعدُ كثيرا على تكوُّن معالم مدرسة لسانية رصينة استفادَت من أخطاء البدء والمنطلقات، واستقرّت على أعراف أكاديمية علميّة متينة، وبدأت آثار العنايَة بالبحث اللساني قراءة وتأليفا وتعليما وتعلُّما، تُصيبُ باقي الميادين المعرفيّة والإبداعيّة في المغرب، فأصبحنا نشهد ظهور كتابات كثيرة في المعالجات اللسانية والسيميائية والتداولية للخطاب الأدبي وللإبداع وخاصة البنية السردية في الرواية، وساعَد اهتمامُ اللسانيات بالإبداع الروائي على ازدهار هذا الجنس الأدبي وتشعب جوانبه وتجاوبه مع قضايا المجتمع ومشكلاته.

 

10 – لكم صفحة على “الفيسبوك” وعلى “تويتر” وكذلك موقعكم “منتدى اللسانيات” وتُديرُون منتدى مجالس الفصحى منذ ثماني سنوات، ولكم مدونة خاصة بكم كتبتم على جدارها الرئيس: “إقامة مشروع لغوي لساني عربي يحيي التراث ويفيد من الجديد”، هل ترى دكتور أن تفاعل الأكاديمي واللغوي والناقد وكلّ مهتمّ بالمجال الأدبي والثقافي مع التقنية الرقمية ضرورة حتمية لنشر مشروعه المعرفي ؟

الحقيقةُ أنّ هذا الموضوعَ موضوعُ الساعَة، لأنّ المعرفَةَ شقّت لها طريقاً جديداً أسهلَ وأسرَعَ وأضمنَ لمرور التواصُل؛ وموضوع التواصُل الشبكي أصبحَ من ضرورات الحياة العلمية والتواصلية؛ نظرا لِما يشتملُ عليه من أهمّية علميّة واجتماعية؛ لكن أكبر آفة ورَدَت علينا من هذه الوسائل الجديدة آفة عدم التوثيق وضياع الأمانَة العلمية عند الأخذ والإحالة…ذلك أنّ توثيقَ المعلومات منهجٌ علمي أكاديميّ سليمٌ ترتَضيه الطّباعُ السّليمةُ والأخلاقُ الفاضلةُ ومنهجُ البحث العلميّ الرّصين، يتعلّقُ الأمرُ بتَوثيق المعلوماتِ، أي إيرادها موقّعَةً باسمِ قائلِها، منسوبةً إليْه، مصحوبةً بمصادرها التي ظهرتْ فيها أوّلَ مرّة؛ والغايَةُ من ذلِكَ أنّه لا قيمَةَ للمعرفةِ العلميّةِ من دون تَقديمها في إطار منهجيّ سليم وموثَّق يَطمَئِنُّ إلى مصادِرِه وأصولِه الباحثون، ويتصرّفون باستثمارِ تلك المعلومات على أنها مَعلوماتٌ صَحيحةٌ دَقيقة، ويُنشئونَ تخطيطاً علمياً أو ثقافياً أو مهنياً على أساس تلك المعلومات الصّحيحَة الموثَّقَة، فلا تَخطيطَ بدون معلوماتٍ،ولا مَعلوماتِ من دون توثيقٍ، ولا توثيقَ من دون إحالاتٍ على المصادِرِ الصَّحيحَة السّليمَة والمنظمة، ولا شكَّ في أنّ للتّوثيق أهمّيةً كبيرةً في إدارة المعلومات المختلفة ومعالَجَتِها وتداوُلِها، لإنجاح البحثِ العلمي وتطويرِ المعرفة.

توثيقُ المعلومات بالطّرق المنهجية الصَّحيحة يُناط به جمعُ المعلومات بالطّرق والوسائل كافّةً،  للاستفادَة منها من أجلِ تَحويلِ المعلومات إلى مَعرفةٍ تُساعدُ على تقدّم العلم وتطوّر المعرفة؛ فلا بدّ من احترامِ ضَوابط التوثيقِ الصَّحيح السَّليم للنّصوص أو الأقوال أو الأخبارِ، لجعلِها صالحةً للتداوُل والاستعمال، وللاطمئنان على سَلامة مصادِرِها. لا بدّ من أن نجعَلَ من التّوثيق ثقافَةً لَنا انطلاقا من أمر الله تعالى لنا بالتّبيُّن قبل إيرادِ الخبر «فَتَبَيَّنوا».

أقولُ هذا لأنّ المعلوماتِ أصبحت مُستباحَةً بين الناس خاصّةً على الشبكة العالمية؛فَمَن أرادَ أن يكونَ له رَصيدٌ من المشاركاتِ في المنتدياتِ وصفحات التواصل الاجتماعي وجدرانه فَلا يُكلِّفُ نفسَه إلا التّرامي على مُشارَكاتِ النّاس واقتباسِها لنفسِه، وكأنّها من نَتاجه، فيُسارِع القُرّاء إلى ذِكْرِه وشُكرِه وحُسنِ التنويه بجهودِه، و لكنّهم لو عَلِموا بمَصادرِ المعلوماتِ التي ساقَها لكانَ لهم معه شأنٌ آخَر، و لا يكفي أن يقولَ النّاقلُ: هذا مَوضوعٌ منقولٌ، لكي يبرئ ذمّتَه، ولكنّه مُطالَبٌ ببَيانِ مَصدرِ الاقتباسِ حتّى يطمئنَّ المستفيدُ أو القارئُ، إلى طبيعةِ المعلومة، أ يَستخدمُها لأغراض علميّة أم لا تصلح لذلِك لأنها غيرُ موثّقة توثيقاً علمياً سليماً يجعلُها تُتَداوَل ويصحّ نقلُها ونقدُها….  لا بدّ أن يَذكُرَ النّاقِلُ كاتبَ المعلوماتِ أو صاحِبَها ومكانَ ورودِها سواء أكان المَوْرِدُ موقعاً أم منتدى أم غيرَ ذلك، فإن كان موقعاً فليذكرْه وليذكر اسم المنقول منه، حتّى تبقى العهدَة على المنقول منه وتبرأ الذّمّةُ.

ثقافَة الشّبكةِ العنكبوتيّةِ أمرٌ طارئٌ على عالَم الثقافَة والمرجعيّةِ العلميّة، ولقد أصبَحَ الباحثونَ الجُددُ يَنشُدونَ مراجعَهُم في هذا العالَم الموازي الجَديدِ، أو العالَم الافتراضيّ الجَديدِ، الذي غَدا يُوازي عالَم الواقعِ، من صِفاتِ هذا العالَم  المتصوَّر أنّ كلّ مَن سجَّلَ نفسَه في فَضاءٍ من أفْضِيَةِ الشّبَكة تمكّنَ من الوُلوجِ فيه، وأعْطِيَ حقَّ المشاركةِ، أو أعطِيَ مساحةً أرضيةً وهميةً، غيرَ أنّ المشارِكينَ يتفاوتونَ في دَرجاتهم العلميّة ومُستوياتِهم الثّقافيّة، فيحلو لكثيرٍ منهُم أن يُشارِكوا بإجاباتٍ أو بمُداخلاتٍ فارغَةٍ، ليسَ لَها من المشاركَةِ إلاّ الاسم،

وهذه كلمةٌ ينبغي أن تُقالَ في حقّ المشارَكاتِ في المنتدياتِ، وفي صفةِ التواصُل الاجتماعي والثقافي، حتّى نُساعدَ على ترشيدِ هذا الضّربِ من التّواصُل العلميّ وتعديلِه .

11 –لكم دكتور، مؤلف موسوم ب” الخطاب القرآني ومناهج التأويل”، هل ترون أنه قد حان الوقت لقراءة جديدة للنص القرآني لتقديمه في الصورة المثلى، في ظلّ التغيرات الفكرية السريعة التي تحرّكها العولمة بدعوة” الحرية ” وأصبح تناول النص القرآني متاحا حتى لغير المختصين، بل هناك من تناوله حتى من منظور المنهج اللساني كالمستشرق الياباني “توشهيكوإيزوتسو” في كتابه: “بنية المصطلحات الأخلاقية في القرآن”؟

هل حان الوقت لقراءة جديدة للنص القرآني لتقديمه في الصورة المثلى؟: الجوابُ أنّ النّصّ القُرآنيَّ بما هو عِمادُ الحَضارةِ الإسلاميّة، ومُؤسِّسُها، فينبغي أن يُعادَ النظرُ في ما كُتبَ حول القرآن الكريم من تأويلات معاصرة لا حصرَ لها؛ فالتأويلاتُ المعاصرَةُ التي تَحومُ حولَ القُرآنِ الكَريمِ ولا تقرَبُ النّصَّ، لا يسوغُ اتّخاذُها أساساً لفهمِ الفكرِ الإسلاميّ أو الحَضارةِ الإسلاميّة؛ لأنّها لا تتمتّعَ بمرجعيّةٍ شَرعيّةٍ تُبوِّئُها المقْعَدَ اللاّئقَ في تَفسيرِ دلالاتِ النّصّ وتأويلِها.

وقدْ تعرَّضَ النّصُّ القُرآنيّ لحَمْلَةٍ تأويليّةٍ واسعةٍ من قِبَل المذاهبِ والفِرَق والاتجاهات المختلفَة منذ القَديم، ووَصلَ الاختلافُ بينَها في هذا الأمرِ إلى دَرجةِ التّعارُضِ والانقِسامِ، ويعودُ هذا الاختلافُ في جُزءٍ كَبيرٍ منه إلى اختلافٍ في مَنهج فَهم النّص والآليات المعتمَدَة، وهي آلياتٌ جاهزةٌ تُسقطُ فهماً خاصّاً على النّصّ القرآنيّ، وتكونُ في الغالبِ بعيدةً عن مَنظومة مَقاصدِ الشريعة الإسلاميّة، لأنها مُستمَدّةٌ من نَظريةٍ عامةٍ في الفهم، واستُخدِمَت هذِه النظريةُ في الغَربِ تحتَ مُصطلحِ “الهرمنيوطيقا” أو التأويليات، الذي ارتَبطَ في بدايةِ نَشأتِه بالنّصوصِ المقدَّسَة…

 وتَبوّأ تأويلُ النّصّ القُرآنيّ في الفكرِ العَربيّ، في عَصر النّهضَة وما بَعدَه، مَوضعَ الصّدارة، حيثُ أثيرَت تَساؤلاتٌ حَول النّصّ وطريقةِ التّعامُل معه والنّظرِ فيه، وما هي المقدّماتُ المعرفيّةُ والمنهجيّةُ لفَهم النّصّ الشّرعيّ وقراءَته قراءةً تأويليّةً جَديدةً. والغالبُ على هذِه القِراءاتِ التأويليّةِ أنّها تُشكّكُ في المقولاتِ الفكريةِ الموروثَة وتَستخدمُ مَقولاتٍ فكريةً ومنهجيةً غربيّةً جَديدةً، أو تَستخدمُ مقولاتٍ قَديمَةً بعدَ إفراغها من محتواها ومَنحِها دلالةً جَديدَة كمَقاصد المتكلِّم وتأويلِ الخطابِ؛ فهذِه القراءاتُ التأويليّةُ الحديثَةُ تستخدمُ مفهومَ المقاصد على غير ما وُضعَ له في علم أصول الفقه، وتربطُه بنسبية الأحكام وبتاريخية النص، وتتوسَلُ بمَفاهيمَ تتذَرَّعُ بها لإعادَة القِراءَة والتّصحيحِ، وكأنّ الطّعْنَ والهَدمَ ضرورةٌ علميّةٌ وواجبٌ حضاريٌّ.

وعليه، جاءَ كتابُ الخطاب القرآني ومناهج التأويل، ليضعَ اليَدَ على نَماذجَ من التأويلِ الحَديثِ للقُرآنِ الكَريمِ، يعرِضُها عرضاً ويُبيّن مواطنَ الخَللِ فيها وأسبابَ إخراجِ النصِّ عَن مواضعِه ومَقاصدِه، ونقْدِ ما يستحقُّ النّقدَ منها، وهذا بابٌ كبيرٌ من أبوابِ العلمِ ينبَغي أن تُصرَفَ إليه العنايةُ، ويبلُغَ في ذلِك العُلَماءُ الغايةَ، والبَحث عن كلّ عَناصِرِ التّسانُدِ في البنيةِ اللفظيّةِ والمضمونِ الدّلاليّ والمقاصدِ الشّرعيّةِ، التي تَقودُ إلى طريقٍ نَهْجةٍ في النّظرِ السّديدِ والتأويلِ المفيدِ، بعدَ أن نالَ التّفْسيرَ ما نالَه من حملٍ على أبعد الوجوه. وقد اجتهد الكاتب في البرهنة على أن في المقاربَة النصّيّة ما يخدمُ الغرَضَ ويُفيدُ في الاستدلالِ على أسرارِ النّصّ القُرآنيّ وأعماقِه، الجَماليةِ والنّصّيةِ، التي ترتكزُ على الاستمدادِ من بنيتِه النّصّيةِ نفسِها التي تتوافقُ وسياقَه الخارجيّ ومَقاصدَه العُلْيا ولا تُعارضُها، وفي هذه المقاربةِ النّصّيّةِ أيضاً ردّ حجاجيٌّ بُرهانيٌّ على الأقاويلِ التاريخانيّةِ والأباطيلِ التأويليّةِ والنّظريّاتِ الفلسفيّةِ المستوْرَدَةِ التي تعْتسِفُ الطّريقَ إذْ تتّخذُ من النّصِّ القُرآنيِّ، قَسْراً، مطيّةً لشحذِ أسلحَتِها وتُحمِّلُه وُجوهاً من الفهمِ وأفكاراً بعيدةً لا يُؤيِّدُها السياقُ الخارجيُّ الذي أحاطَ بنزولِ النّصّ ولا الخِطابُ الذي رافَقَه وبيّنَ مَنهجَ فهمِه وتنزيلِه والاستنْباطِ منه، من سيرةٍ نبويّةٍ وسنّةٍ وسِيَرِ صَحابةٍ واجْتهادِ عُلَماء وتَفْسيرِ مُفسِّرينَ واستبْاطِ فُقَهاء، معَ التأكيدِ أنّ الاعتِمادَ على تلكَ العَتباتِ أو النّصوصِ الموازِيَةِ والمرافِقَةِ، لنْ يُسقِطَ عن النّاظرِ في النّصّ القرآنيّ، العارِفِ بشروطِ الفهمِ والتّفْسيرِ وقَواعدِ الاستنباطِ، الإقْرارَ بأنّ بسطَ الدّين على واقع النّاس لا بدّ أن يأخذ بعين الاعتبارِ قضايا العصر ومشكلاتِ النّاس الذين هم مَحلّ الحكم الشّرعيّ، وهي أمورٌ وقَضايا تستلزمُ البحثَ في عُلوم الآلة الجديدة، المسمّاةِ اليومَ بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، فإنّ هذه العلومَ المستحْدَثةَ تُعدُّ إلى جانبِ الأدواتِ القَديمةِ المألوفَةِ، أدواتٍ ضروريّةً لفهم الواقع وإدراك أبعاد الإنسان. وتُقدّم من المعارف والنّتائج ما تُصبح معه ضرورةً شرعيّة .

[1] انظر: أحمد المتوكّل: المَنْحى الوظيفيّ في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، دار الأمان، الرّباط، 1427هـ/ 2006م.

[2] انظر: أحمد المتوكّل: المَنْحى الوظيفيّ في الفكر اللغوي العربي، الأصول والامتداد، دار الأمان، الرّباط، 1427هـ/ 2006م.

[3] عبد القادر الفاسي الفهري:اللسانيات واللغة العربية، دار توبقال للنّشر، الدّار البيضاء، المغرب، 1985م

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.