الرئيسية | حوار | حوار مع جمال الجلاصي: الترجمة فعل حبّ أقوم به لتهريب أرواح إخوتي وأخواتي البعيدين إلى حضارتي ولغتي

حوار مع جمال الجلاصي: الترجمة فعل حبّ أقوم به لتهريب أرواح إخوتي وأخواتي البعيدين إلى حضارتي ولغتي

حاوره عبد الواحد مفتاح

 

رغم الحيرة التي نقع فيها فعلا في تصنيف جمال جلاصي، هل بشاعر أو قاص أم روائي أو مترجم، إلا أنه يبقى أحد الأسماء التونسية اللامعة في سماء الكتابة والأدب، الذي قدم له خدمات جليلة، بنقل كتابات هامة وغنية للعربية، لأدباء كبار بلغة سلسة واقتدار توقف عنده النقاد كثيرا، جمال جلاصي هو أيضا روائي من الطراز الرفيع، وهو ما جعله يكون ضيفنا في هذا الحوار، الذي نتوقف فيه معه على جوانب تظل لازمة في مشروعه، وهو يقربنا أكثر ويفتح لنا كوة صغيرة بتكبير الزوايا لنطل على أرائه وعالمه.


كبداية لهذا الحوار، ما فاتحة النص الذي ورطك في عالم الكتابة؟ خبرنا قليلا عن البدايات؟
كنت في الخامسة عشرة من عمري، وكنت حارس مرمى في الفريق المحلّي و أعتقد أني لو ثابرت على التمارين منذ أن بدأت اللعب لتمكنت من اللعب بأحد الفرق الكبرى، وكنت عضوا في فرقة رقص عصريّ في دار الشّباب. لكن الكتابة اختطفتني. أصبحت أتغيّب عن التمارين لأبقى في الغرفة الشّاسعة التي خصّتني بها العائلة لأنّي الذّكر الوحيد أطالع الكتب التي أستعيرها من المكتبة العمومية أو من الأصدقاء أو بعض الأساتذة. لم أستطع نسيان “الأيام” ذلك الكتاب الذي فتح أمامي آفاقا واسعة و آمالا رهيبة.. إن هذا الصبي الأعمى القاطن في إحدى قرى الريف المصري لم يخرجه من الهامشية و الالتحاق بملايين الأطفال الذين يقضي عليهم الفقر و العاهة سوى القراءة. إن ما ميز هذا الصبي عن إخوته هو ولوعه بالقراءة و تفتح خياله و رغبته في تغيير واقعه ونمط عيشه… أذكر جيدا تحليقه بعيدا عن الجميع بواسطة “خاتم سليمان” الذي سيجده في “الترعة”… و كان أن وجد خاتم سليمان فعلا و خرج له الجني فعلا…

هل وعيت عندها و أنا في الخامسة عشرة أن الجن كامن في القراءة. في تلك الكتب التي كنت أنفر منها إلى ذلك الحين ! أو لم تكن تعني لي أكثر من أداء واجب للنجاح في الدراسة. هل وعيت عندها أن القراءة المكثفة هي التي ستجعلني قمقما أخرج المارد من داخلي و آمره أن يغير وضعي فيفعل صاغرا ؟؟؟ هل وعيت بعدها أن المارد الذي سأعتصره من داخلي قادر غلى تغيير ليس واقعي البسيط الساذج فحسب – بل تغيير كل الأوضاع البسيطة والساذجة في هذا الكون ؟؟؟

لديك رغبة عارمة في الكتابة، ما يوضحه غزارة إنتاجك؟ ماذا عن طقوسك الكتابية ؟

أنا أكتب، هذا فقط ما أعرفه، ليس لديّ أيّ طقوس خاصّة ولا أحتاج سوى وسائل الكتابة قلم وورقة، أو حاسوبي التي تعوّدت الكتابة عليه منذ أواسط التّسعينات. أحبّ الكتابة في مقهى النّورس على شاطئ قليبية مدينتي. لكنّ تغيّر الأمكنة واللّيل والنّهار لا يؤثّر فيّ كثيراً. انتقلت بين مدن كثيرة بحكم مهنتي كأستاذ، لكن ذلك كان قادحاً آخر للكتابة، فلكلّ مدينة أجواؤها وعوالمها التي تثري أرواحنا وتهدينا مواضيع وطاقات أخرى للكتابة، أكتب في مقهى شعبيّ وسط ضجيج لاعبي الورق، كما أكتب في مكتبي، أحيانا في الحافلة، أو القطار. الكتابة عندي ليست ترفاً، كي أشترط مكتباً فخماً أو نوعاً معيّنا من الورق، إنها ضرورة حياة.

تقول “ الشعر غابة وليس حديقة، غابة فيها أشجار ألفية وشجيرات صغيرة وأعشاب ونباتات، ولا تنفي عظمة شجرة جمال شجيْرة أو عشبة” في منظورك ما وظيفة الشاعر اليوم؟

بالفعل صديقي، الشّعر غابة. والغابة تحتضن التنوّع والاختلاف بل وتفخر به وتزدهي التّشابه للعدم والتنوّع هو سمة الحياة. ولهذا أنا أحبّ الشعر العمودي كما أحبّ قصيدة النّثر والتفعيلة، المهمّ أن يثير أحاسيسنا ويؤكّد إنسانيّتنا، وهذه وظيفة الشعر الحقيقيّة في رأيي. إيقاظ ما نام من إنسانيّتنا ووضع الأصبع على عوائق اكتمالنا أو بحثنا عن حسن البقاء. الكتابة محرار خروج الإنسان من مملكة الطبيعة الوحشيّة التي غادرها منذ زمن غير بعيد، وهو الحارس لقيم الإنسان الكبرى (العدالة والخير والجمال…) التي اكتسبها عبر الزّمن ودعّمها الفلاسفة والأنبياء والحكماء

أنت شاعر وقاص وروائي و مترجم، أي الأجناس التعبيرية هذه هي الأكثر قربا من عوالم جمال الجلاصي؟

الترجمة فعل حبّ أقوم به لتهريب أرواح إخوتي وأخواتي البعيدين إلى حضارتي ولغتي، وهي جناح إضافيّ يهدية المترجم للنّصّ ليحلّق أعلى، وقد ظلّ المترجمون خيول التّنوير وسفراء النّوايا الحسنة المبشّرين باللّغة الكونيّة الكامنة في كلّ نص إبداعي صميم. الشّعر والقصّة القصيرة والرّواية هي وسائل للتّعبير عمّا يخالجني من مشاعر وعمّا أحمل من قناعات ومعتقدات. لعل ما يدفعني دفعا للكتابة هو الـرغـبـة فـي تـغيير العالم…

                نعم !!! أنا أكتب فقط من أجل تغيير العالم ! لم أكتب قط من أجل كسب الأموال و لا من أجل استمالة قلب فتاة، إني أكتب من أجل استمالة قلب هذا الكون… لو لم يكن هناك معنى أريد اقتلاعه من قلب الكينونة عن طريق هذه الكتابة لكان من الممكن حينئذ أن أكون سعيدا دون كتابة…

                هذه الكلمات تبدو كبيرة و مغلفة بإتقان يبعث على الرهبة و لكنها صادقة و حقيقية ! أنا أكتب إنصافا للكتابة ذاتها باعتبارها خزان التاريخ و حافظة ذكريات هذا الكون… وهي – الكتابة – التي أوقفت التتالي العبثي للحياة كبقاء لا يراكم معانيه… لا أتذكر من قال أن الكتابة سمحت للإنسان بالنظر إلى أعماق ذاته التي بدأت تصنع الحضارة و أعماق هذا العالم الذي هو مسرح الإنسان…

روايتك الأولى “الأوراق المالحة” هي رواية جيل التسعينيات في تونس، رواية تقدم ذاتها كذاكرة جمعية لجيل من الأدباء يرون أنفسهم ورثة ما وصلت إليه الإنسانية من ثراء إبداعي وثقافي، وأن دورهم قد حان للمساهمة في هذا الجهد الإنساني بتثوير المشهد الإبداعي وجعله أكثر إنسانية.اليوم كيف ترى لهذا الجيل، هل فعلا لحقه حيف نقدي، وعدم تقدير كافي من الأدباء الشباب؟

الآن بعد اثنتي عشر سنة من صدور “الأوراق المالحة” يمكن أن أطلق عليها رواية الفرص الضّائعة والأحلام المجهضة. نحن جيل الهزائم والانكسارات، ولعلّنا نكتب لنخفي هذه الخيبة أو لنوهم أنفسنا أنّنا مازلنا قادرين على الفعل والتّأثير في الواقع. لم ينتبه إلينا أحد، وانشغل مجايلونا من النقاد بتجارب أخرى مشرقية أو غربيّة، وأهملنا الجيل الذي سبقنا، ورآنا خطراً على اطمئنانهم المعرفي وسيادتهم على المشهد. في المقابل أرى أنّ العلاقة مع الجيل الذي لحقنا علاقة صحّية لأنّها خاليّة من وهم الوصاية والأبوّة الكاذبة التي عانينا منها نح.

تعتبر أن قصيدة النثر هي مستقبل الشعر العربي، مهما اختلفنا حول شروطها وتسمياتها وطريقة كتابتها، ، وأنها تمثل الالتقاء الصافي بين ما هو يومي تفصيلي وبين ما هو كلي شعري، فهل تجد اليوم بعدما ارتاحت هذه القصيدة من المطارحات والسجلات حولها، وانتصر لها الأدباء الشباب بجملتهم، أنها حققت كامل الوعد الذي انفجرت منه؟

إنّ تميّز قصيدة النثر كامن حسب رأيي في انفتاحها على الأجناس الكتابيّة الأخرى واستفادتها من شتّى الفنون الرّافدة لها. قصيدة النثر هب الشّعر الخالص لأنّها لا تستفيد من بلاغة أو من بديع لغويّ… إنّها تطحن كلّ الإرث الأدبي وتعجنه داخلها لتقدّم لنا رغيفاً كونيّاً يوحّد بين رحلة حبّة القمح وشهاب يخترق الأكوان. كلّ ذلك في تواضع الحكماء وجنون العشّاق. كما أنّ ميزتها الأخرى هي القابليّة للتطوّر الدّاخلي والحلم المستحيل ببلوغ الصّفاء المطلق للقصيدة المحلوم بها.

 

لك عدة ترجمات من أهمها ترجمتك للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر السنغالي ليوبولد سنغور، كما ترجمت عددا من الروايات منها “السيد الرئيسلأستورياس إضافة إلى “إضراب الشحاذين” لأميناتا ساو فال، و”الإله الصغير عقراب” لروبير إسكاربيت، وعدة نصوص شعرية عربية نقتلها  إلى الفرنسية، إضافة إلى ترجمات أخرى، المعروف أنك لست مترجم تحت الطلب أو مترجم متعاقد، كيف تجد حاجتنا  في العالم العربي لمؤسسات داعمة ترعى المترجمين وتوزع ترجماتهم؟.

أكرّر دائماً أنّ الترجمة فعل حبّ، وأنّ المترجم قارب صغير يهرّب الأرواح من نهر اللّغات الضيّق إلى محيط الأدب الشّاسع. ولا يمكن للإنسانيّة أن تحلم بالأخوّة الكونيّة إلا بوجود المترجمين. على هذا الأساس كان مركبي دوماً جاهزاً لأيّ روح جديدة أكتشها وأحسّ أنّها ستثري لغتي وحضارتي وعلى هذا الأساس ترجمت إضافة إلى ما ذكرت: مختارات لإيمي سيزير الشاعر المارتينيكي الكبير، ورواية شحّاذو المعجزات لفيرجيل جيورجيو الرّوائي الرّماني، صاحب رائعة “الساعة الخامسة والعشرون”، و”الله ليس مجبَراً” للروائي أمدو كوروما من سال العاج… كما أصيف أنّي قارب من كتيبة كاملة من القوارب منتشرة على كامل الوطن العربي، ولن أذكر أسماء لأنّ كثرتنا قد تُنسيني ذكر بعض الأسماء، إضافة إلى سفن عملاقة تربّينا على تهريبها مثل صالح علماني ومحمّد علي اليوسفي وآدم فتحي وعبد القادر عبد اللّاي، وغيرهم…  ولكنّ هذه القوارب المفرَدة رغم جهودها، ستظلّ دوماً عاجزة عن القيام بعملها في غياب مؤسسات عامة كبرى داعمة لجهدها محفّزة لها، حتى يقوم بعمله على أحسن وجه. وهي على الخصوص مراكز الترجمة الوطنية. ومن بين هذه المؤسسات أذكر بكلّ فرح “مشروع كلمة” التّابع للمكتبة الوطنيّة بأبي ظبي والتي تكرّس جهودها في خدمة الترجمة: ترجمة الآداب العالمية إلى اللغة العربيّة وهي تشجّع كلّ المترجمين على هذا الجهد. وأنا أعمل من أكثر من سنة ضمن فريق لترجمة موسوعة الشعر الفرنسي إلى اللغة العربيّة في مائة كتاب، بين مختارات جماعية ومجاميع شخصيّة حسب أهمّية الشاعر وقيمته في عصره. ويشرف بجهد كبير على هذا العمل الجبّار الشّاعر والمترجم الفذّ كاظم جهاد.

تقول” سيظل المترجمون خيول التّنوير، وستظل التّرجمة دبلوماسيّة الحضارات، والمترجمون هم مهربو أرواح إخوتهم البعيدين”سؤالي هنا ما هي عوائق الترجمة بالنسبة للشعر؟وكيف تتعامل مع هذا الجنس خصوصا في ترجماتك؟

إن كتابة الشّعر في لغته الأصليّة في رأيي هو ترجمة لتلك المشاعر الإنسانية العميقة التي توحّد البشر وتجمع بينهم. لذلك فإنّ ترجمه هذه القصائد هي محاولة جديدة لكتابة هذه المشاعر والأحاسيس بلغة أخرى، هذه اللّغة التي مهما ابتعت في جذورها وأصولها عن لغة القصيدة الأمّ فهي ستحاول قدر المستطاع أن تصل إلى مقاصد الشّاعر و”لعبه” بأمّه اللّغة. لذلك تظلّ ترجمة الشّعر، خاصّة للمترجمين الشعراء، تحدّياً دائما وعملاً مفتوحاً للاجتهادات والتحدّيات… لقد قرأنا عشرات الترجمات للإلياذة، ولكلّ ترجمة سحرها، وقرأنا سان جون بيرس بترجمات عديدة، كذلك رامبو ووايتمان… لكلّ مهرّب زورقه ولكلّ شاعر مهاراته وحيله، والقارئ هو المستفيد والشّعر هو الغانم من كلّ هذه المنافسات اللّذيذة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.