إلى عبد الرحيم الصايل، ذكرى أيام صعبة
إذا كان لا بد
فسألملم أغراضي التي لا طائل منها
وأجوب هاته الأرض دونما وجهة
أسيح في بحارها بقارب من شجر الرام
وأخطو في الأدغال بعكازة من قصب
وإذا ما شهرت الحياة سلاحها في وجهي
فسأرفع لها جيوبي الفارغة.
حين تضيق بي الحجرة
ويغدو صدر عصفور أرحب من صدري
أتمني لو كنت شصا في صنارة صياد
أو حجرا في قبر رجل وقور
على أن أمشي بين المعتوهين بربطة عنق
وأحس بالزهو يدب في أطرافي
كلما قرأت قصائدي الرديئة في المنتديات
وأحكي لأجساد في الوحل
مثل مبشر فاشل عن ربيع سيأتي.
أنظر إلي المرآة وأحاول ان أبتسم
فتخونني شفتاي
كيف يضحك رجل
لم يتوقف قلبه يوما ما عن البكاء؟
ثلاثون عاما وأنا أركض في حلبة الكوريدا
أتوهم أنني انتقم من المناديل الحمراء
والآن صرت أتهادي موشكا علي السقوط
وفي عيني تلمع القصور التي لم أصلها
يلمع الشراع الأبيض لسفينة تركتني في الميناء.
هل هذه هي الحياة التي انتظرناها طويلا يا صديقي؟
هل هذه هي الأفكار التي رتبناها في دفاتر الطفولة؟
كم حلمنا بأن يصل أجسادنا النحيفة والباردة
شعاع من الشمس التي تختفي وراء الجبل
سرنا علي الأرض حتي تشققت جوارحنا
سرنا أيضا في الماء بلا معجزة
وفي عز أحلامنا خذلتنا الطريق.
لم يعد للربي في قريتي شكلها القديم
حتي القمر أصبح يبدو لي
مثل فانوس في يد شحاذ
سقط الحب من يدي
وقعت كلماته العذبة علي الأرض
مثلما تقع أوراق الجميز في الخريف.
هل هذا هو الشاطئ الذي زحفنا إليه
مثل السلاحف منذ سنين؟
هل هذه هي الحياة التي قرأناها
في الكتب القديمة؟
إنها مجرد خشبة ولا أحد منا يتقن الدور
مجرد غابة
فاحمل فأسك واضرب عميقا في الجذور
يا صديقي، يا حطاب الأشجار الهرمة.
ليس ذنبي أن يغرق هذا المركب
تلميحات إلى حياة لم نعد نريدها
أنظر إليك
وأفكر بصمت
مثلما يفكر كهل في زوجته الميتة.
ثلاثون عاما
…
كأنه عامك الأخير
ربما أيسر لك أن تموت في المنتصف
فالنهر لم يعد رحيما بالقارب الذي جدفت فيه
وشباكك لم تعد تصطاد غير الشقاء
قديما قالت سيدوري لكلكامش:
“إن الحياة التي تبغي لن تجد”.
أزهرت وردة البلاستيك في الكأس
أزهرت الأوراق التي نسيتها على الطاولة
أزهرت الورود المرسومة على الستائر
و الدفاتر و الوسائد و السجاد
و لم تزهر الوردة التي تحيا ذابلة بداخلي.
تلبك كل شيء في غرفتي
كل كتاب جريرة
كل نافذه هي فوهة خراب
كل ملاءة هي راية استسلام
و ها أنا أنشج مثل الأرامل في الليل
أضع يدا على الخد
و أرفو بالأخرى تلك الأيام البائرة،
و في النهار أجلس مثل شحاذ على قارعة الطريق
أتعقب أسراب الطيور المهاجرة
و أمني النفس بأشياء لن تأتي
أحيانا أنظر إلى العالم
مثلما ينظر أرنب إلى حشد من الجنود يعبر الغابة
و أحيانا أنظر و أكتفي بالنظر
أرمي حجرا في البركة
أرقب دوائر الماء و هي تتلاشى
و أتذكر امرأة أشعلت النار في بيادري و اختفت
ثم أسبل جفني كما لو أني مصاب برهاب الحب.
“أيتها المرأة التي مرت من بستاني
و تركت رائحة قمصانها في أوراق الشجر
تركت رهافتها في العشب و حنانها في الماء
أنيري لي الطريق إذا كان ذلك بمستطاعك
و إن لم يكن فاتركيني بمفردي
لقد ألفت هاته العتمة.“
أمشي غامضا في طريق غامضة
و بالرغم من الكثبان
بالرغم من خطواتي الثقيلة
أحس أن أفقد أثري
المعذرة يا كروتشي
لست معدنا كالقمر ينير سدفا مظلمة
لست البلور الذي يغسل العتم و الجفاف
لقد كنت قديسا
لكن ديري جرفته المياه.
ارحمني أيها الماضي
لملم أثوابك و غادر
فلم يعد بوسعنا أن نحيا معا في هذه الحجرة
أنت زاخر بالحب
و أنا زاخر بقلقي
برغبتي في أن أجتاز الجسور
و أصل بأثقالي إلى الأجمة
لأصفي حسابا قديما مع الأشجار
سأجرجر الأعواد اليابسة ورائي
أشعل النار فيها و في الأيام التي عشتها بجوارك.
أنا السادن الذي انهار عليه جدار المعبد
أنا الحادي في عرض الصحراء بلا قافلة
أنا النوتي الذي ضاع منه المجداف
خانني التيار و كلت يداي
سأغمض عيني و أستسلم لما سيأتي
ليس ذنبي أن يغرق هذا المركب
بل ذنب الصخور و الشلال.
سوف أصرخ في الوديان
مثل وحش من العصور السحيقة:
“ليست حياة هذه الحياة
ليست حياة هذه الحياة”
و الهدير الذي سيتعالى في فمي
إما أن يهد الجبال
و إما أن يهدني.
أبي:
اشتقت إليك يا أبي
إلى جلبابك الأبيض القصير
وغرائبك التي لا تنتهي
إلى رشفة من كأس شايك الجامد
على مقربة من الكير
إلى الكير وشظاياه التي كانت تسقط في عيني
حين كنت أجلس أمامك أدير لك الرحى
فيما كنت تدير ظهرك لسنوات الفاقة
حالما كعادتك بأيام يبدو أنها لن تأتي.
الأمازيغي
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
الذي مات غدرا بطعنة من أيدي الرومان
هوايتي أن أضرم النار في الجليد
و أبني المصائد لطيور لا تصل الأرض
يخطر لي أحيانا أن أخرج سمكة من النهر ثم أعيدها إليه
و أقف عكس التيار أنتظر موهما نفسي أني سأصطادها يوما ما
يخطر لي أحيانا أن أفتح أقفاصا في السطح
و أطلق العصافير التي أفنيت سنوات في رعايتها.
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
لا أعرف جملة من لغتي، لا أذكر شيئا عن أسلافي
سوى أن جدي كان راعيا في جبال الأطلس يطارد قطعان الأروية
وعبر منحدرات اللوز كان يركض بالليل و النهار
ناصبا شباكه و فخاخه لطرائد الوادي و الغابة
وكباقي النازحين ستقذفه المجاعة إلى السهول
ليصلح أواني العرب ويتغزل بامرأة ستغدو يوما ما جدتي.
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
لا كتاب يذكر شيئا مما أنتظر
كل الكتب تروي دائما عكس الحكاية
غير أني حين أنظر إلى وجه جدتي
كأنما أنظر إلى وجه امرأة من الهنود الحمر
قالت لي فيما مضى أنت حفيد الجبال
فاتجهت إلى الجنوب كما يتجه أركيولوجي إلى صحراء بلا خريطة
سألت الشيوخ و العرافين و الرعاة و الحكماء
سألت مطاريد الليل و الباحثين عن الدفائن و حفاري الآبار
تقفيت آثار السلالة في السفوح و على مقربة من الأفلاج
في منعرجات القرى ومشاعاتها في الكهوف و المداشر و المغارات
لم أسمع سوى رجع صوتي كهدير ركام من الثلج ينهار
خبرتني عجوز تتكئ على عكازة و مئة عام و أكثر
أن جدي كان حطابا، لذلك حمل فأسه قبل الرحيل
و في حمأة الغضب اسقط شجرة العائلة.
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
في داخلي تركض قطعان من الجواميس إلى أن تتعب
تتعارك النسور ويتناثر ريشها بين الجبال
تعوي ذئاب في أكماتها
بيد أن صوتها القاسي لا يجتاز الوجار
في الداخل تموت أفكار كثيرة بنيران صديقة
والدي ينظر إلى صورة أبيه المعلقة فوق الدولاب
وتسقط من شفتيه الكلمات ثقيلة في جوف الليل
لم تقطب حاجبيك وتحمل الخنجر و البندقية
و لا أحد يطاردنا اليوم؟
لماذا تركت الآخرين وتدحرجت من الجنوب
مثلما تتدحرج صخرة من أعالي الجبل
وتتفتت على جراف في ضفة الوادي؟
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
لم أرث عن أسلافي سوى نظرتي المرتابة
و إحساسي الدائم بأني أمشي على رصيف يرتج
و أتكئ على حائط سينهار
أمد يدي إلى ظلمة لا نهاية لها و أسبح في مياه غادرة
فماذا أفعل فيك أيها العالم و كل أملاكي قلم و ورقة؟
أسهر الليالي أشذب الكلمات
أناشد صورا في الألبوم أن ترقص معي
و أفتح نافذتي في عز الشتاء على نوافذ مغلقة
يركض الناس متلهفين باتجاه الحياة
و أنا يجرفني التيار باتجاه حياة أخرى
يهتف الناس بأسماء بعضهم كما لو أنهم قديسون
و أنا أفضل ان أحيا صامتا على أن أهتف باسم أحد
أن أكون أعمى على أن أبصر مواكب العته تمر بزهو أمام بيتي
أن أكون أصم على أن أسمع نشازك أيتها الحياة
ربما اعتاد أجدادي على الجلوس في أعالي الجبل
خوفا من غدر السفوح
لذلك أحيا في غرفة على السطح
أقرأ كتابا عن شعوب المايا
و أسمع أغنية لأحفاد آشور
أطيل النظر إلى السماء و ألملم شتات النجوم
أجلس مثل بومة على كتف العالم
و أخاف أن أسقط فتدهسني أطرافه
أخاف أن تجتثني يد ما وتطوح بي إلى سهب سحيق.
أنا حفيد الملك الأمازيغي القديم
الذي ساد هذه الأرض قبل ألفي عام
و الذي لا أملك له صورة على جدار غرفتي
فقط أتخيله شبيها برجال الأساطير
بصولجان من عاج الفيلة و تاج من الريش و الذهب
رأيته مرة في منامي بعمامة رجل كردي
ربما أشياء كثيرة تربطني بالأكراد
غير أني أتنفس هواء هاته البلاد كما يحلو لي
و أدب كسائر الخلق في المنحدرات
لكنها رغبة الماء في أن يعرف نبعه
قبل أن يجرفه الشلال
رغبتي أنا في أن ألتفت إلى الوراء
كي أجلو وجهتي
لتبدو واضحة مثل صورتي في المرآة.
حسن مطلك
إلى مروة وسارة بالضرورة
-ح-
إنها تتساقط تباعا
الكلمات التي حرصت على حياكتها من الخشب
وتعليقها ببالغ الحذر اعلى الباب
-س-
الغرفة التي كنت تحيا فيها أضحت ميتة
الجدران تنتحب
و الشمعدان ذو القد الفارع انحنى
و مزهرية الطين انزوت في ركن من الغرفة
وجلست تتألم وحيدة من أجلك
-ن-
إنني أقف على العتبة
تاركا الباب مواربا
و رافضا أن أدخل
أطل على ظلالك متوجسا من ظلي
و أسأل نفسي سؤال أندريه شديد:
بم تفيد الكلمات في مواجهة من يموت؟
-م-
القناصون الذين كنت طريدتهم
لم يكونوا حمقى
كانوا فقط يخرجون ملاكا صغيرا من الجحيم
ربما كانوا عميانا فحسب
لذلك رموك، بدل الورد، بالرصاص.
-ط-
لازالت أمك في قبرها
تقف على مقربة من النافذة
تواري جثت الذكريات
و تسأل عنك الموتى الجدد:
هل صادفتم طفلا من شمال العراق
كان يدس لعبه في قبو الجيران
يجر خلفه مدفعا قديما
ويسقط طائرته التي من ورق
ثم يكنس ساحة الحرب
ويجلس خلف سور البيت يكتب الروايات؟
-لك-
لقد كانوا آلهة في صروحهم يا حسن مطلك
فلماذا صاروا كالجرذان؟