الرئيسية | سرديات | حذاء ممزق: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حذاء ممزق: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

كنت صغيرة على الحزن والتعب. في السابعة عشر من عمري. أستعد لاجتياز امتحان البكالوريا. مستواي الدراسي جيد  فقد كنت الأولى دائما على دفعتي. حدث شيء ما، أشياء، جاءت التهيؤات تباعا وجاء الركض نحو السكة الحديدة لألقي بنفسي تحت عجلات القطار. جاء اليأس من الحياة دفعة واحدة.

في البداية انتبهت إلى تمزق حذائي ثم كان أن تمزقت روحي هي أيضا. لم أعد أرغب في شيء، أفكر طيلة اليوم في الموت وأستدعيه. ربما إذا ما نمت طويلا سأرتاح. ربما يأتي ملاك الموت رقيقا ويحملني إلى السماء وأنا  نائمة دون أن أتعذب. أسمع عن سكرات الموت وأصاب بالجزع. أفكر بحياتي وأصاب بالرعب. كنت خائفة دائما، خائفة من أبي، من أمي، من إخوتي، من الله ومن الحسن الثاني. الخوف كان نصيبنا أجيال الحسن الثاني. في البيت أيضا هناك طاغية لا يكف عن التكسير ثم هناك أمي التي لا تتوقف عن إيذائي.  أحس أنني غريبة وأن الأرض تميد تحت قدمي.

توالت الهذيانات وصرت أتخيل أنني المسيح وسأصلب لأخلص الآخرين، عن أي ذنب كنت أكفر وأنا أسير إلى الصليب؟ أي ذنب اقترفته لتكون هاته حياتي. كنت أحس أنني مذنبة، خطاءة، ذميمة وشريرة وعلي أن أكفر عن ذنوبي بالعيش وسط المزابل. كانت مزبلة الدوار الجديد وجهتي اليومية. أقعد فيها ساعات وأعاتب نفسي على ذنوب متخيلة. هكذا وفي رمشة عين طار عقلي وصرت أخرج متسخة للشارع، أتيه في الشوارع ولا أتعرف على المنزل. أخط على الجدران أنني لن أجن. أقول لنفسي أن الحياة تحدث في مكان آخر وأنني يوما ما سأعيش حياتي، ليست حياة الهبل التي أعيشها مع أناس غريبي الأطوار.

تطورت الأعراض وصرت أكلم نفسي وأتيه في هذيانات كثيرة. ألمس يدي وأفكر أنني تركتها في ايفران. لم أعد أجد يدي في مكانها. أجري في الزقاق وأنا أبحث عن يدي وفي مرة أخرى أبحث عن رأسي التي لم تعد متصلة بعنقي. أبحث عن رأسي في الشوارع وفي القمامات. شخص ما خلع رأسي ورماها بعيدا، أكاد أجن، أين رأسي يارب؟ لو تعود لي رأسي قليلا كي أركز في دراستي. الغريب أنني تابعت التركيز في الدراسة رغم الهذيان. كنت أدرس لكي اتجنب السوط ولأنني كنت أحس أن الدراسة قد تقودني الى مكان ما. لا اعرف ما ذلك المكان. لم أعد احلم بوظيفة معينة أو  وضع اجتماعي معين. فقدت القدرة على الحلم هل امتلكتها يوما؟ كنت اعيش حياة أبي وأحلامه. كان علي أن اعتني به وبدراساته وأحلامه ومشاكله وملابسه ورفاقه الحشاشين وقيئه بعد الشرب. كان علي أن أعتني بأمي المظلومة المسحوقة. وأنا من يفكر في حياتي؟ فيما أريد؟ فيما احتاج؟

لم يكن هناك مجال ليستمعوا إلي. حين تعقدت الامور قادني أبي إلى الطبيب النفساني وحين اخبره الطبيب أنني متعبة وعلي أن استريح في مستشفى ثار الوغد وتوعدني بالعقاب إن أنا لم أتوقف عن السينما والتمثيل. قال أنه لا يملك ثمن الطبيب والأدوية.

كان علي أن أواجه الهذيان با ظافري، أن احفر على الصخر لأبقي على عقلي سليما. كانوا يسخرون مني، يعايرونني بمرضي ويصفونني بالمجنونة.

كان كل شيء يقود إلى الموت، إلى الانتحار لكنني تشبتت بالحياة، حياة لم أكن أعرف لونها ولا أعرف متى ستاتي تلك الحياة المؤجلة. هذا العالم مجنون، أين الحقيقة؟ تجاوزتني أحاسيسي. كنت على حافة الكون وكان حذائي ممزقا وحين تمزقت روحي رأيت أفواج الجائعين والتائهين مثلي، عشت معهم، صاحبت اللصوص وعاهرات منتصف الليل. حششت وشربت ودخت دوخة الوجود. اصطنعت لنفسي قيما مؤقتة، قيما ظرفية لكل يوم إضافي من الحياة. ظلت الأرض تميد حيث قدمي وكان الدوار. دوار الحياة التي كنت فيها وحيدة بلاحب، بلاعطف . الحياة القاسية. الدرجة الصفر من الحياة. تمزق حذائي وتعبت من السير، فجلست عند العتبات أختلس النظر إلى حياة الآخرين فيما حياتي لم تكن تبدئ.  في الحدود القصوى للأسئلة أقمت كأنني أمشي على الجمر لم أكن أعرف إلى أين تسير قدماي. كنت أبيت في مكان وأصبح في مكان آخر. رافقت المجانين إلى مراقدهم ورافقت المجرمين إلى مخابئهم. الهذيان جعلني أنتمي لجرا ح المدن التي لا تشبه المدن.

بدون سند في الحياة كان علي أن أحفر في الصخر، أن أقد قدري من حجر لكي أوجد تحت الشمس. كان علي ان أقاوم الموج لكي أحتفظ برأسي خارج الماء. من هذيان لآخر تعلمت أن أحول الجرح إلى مصدر قوة. مدينة أنا للهذيان، للفصام  برغبتي في الحياة. حين نأتي من تعب كبير نقدر كل لحظة في الحياة، نستمتع بها كأنها اللحظة الأخيرة. عاد الهذيان مرة أخرى بعد عشرين عاما في بلد لا يخاف مرضاه. طلبت المساعدة ووجدتها. عالجت نفسي وتشافيت لكنني لن أنسى من أي تعب وجودي أتيت.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.