الرئيسية | سرديات | ثقب الإبرة | صفوت فوزي

ثقب الإبرة | صفوت فوزي

صفوت فوزي (مصر):

 

 

فيك عشرة كوتشينة ؟

وتبدأ سهرة كل ليلة …

العتمة تسرح في جنبات الحارة … جدران حائلة انهارت محارتها فبان لحم الحيطان لدناً مشبعاً بالرطوبة … نجوم شاحبة متقببة على بيوت ضمت في حناياها هجوع الخلق وسكن الأشياء … عِرَس تمرق من تحت أعقاب بيبان … نباح كلاب في صحن الليل ، يفزع العابرين في التواءات الطرق المظلمة … خربشة فأر في صدع جدار قديم ، وقطط تموء قافزة من سطح لآخر .

بهاء … الذي نام اليوم بطوله … يصحو الآن … محنياً ونحيفاً كفرع يابس … يتحسس طريقه باحثاً بقدميه عن درجات تفصله عن الحارة … يرفع بنطاله … يمد رجلاً يضعها فوق نصف قالب في وسط بركة آسنة … يسلمه نصف القالب إلى إطار كاوتش متهالك … يقفز منه إلى المساحة اليابسة من الحارة … تبتل قدمه … يهدر صوته لاعناً أبو الدنيا والحارة … ينتفض جسده دافعاً إلى الهواء ركلات متتابعة يوجهها لكائنات لا يراها سواه ، وبكلمات غير مترابطة ، ممرورة … يسبها … ثم يستدير فجأة ليوجه صفعة قوية مصحوبة بوابل من التهديد والشتائم لوجه كائن غير مرئي …

معاك سيجارة ؟

 بأطراف أنامله يخرج “جابر” سيجارتين من كم قميصه الذي تكدس الملح تحت إبطيه ، ففاحت منه رائحة جلد مدعوك ، منهك ، مخلوط برائحة متراكمة منذ عقود لسجائر ” كليوباترا “.

أشعل السيجارتين وناوله إحداهما …

بالتركيز الملائم للحظة خاصة ، سحب بهاء نفساً عميقاً من سيجارته … دفعه عميقاً إلى قاع رئتيه … باستمتاع راح ينفث الدخان ، ويراقب دوائره تتشكل في الفراغ كائنات شريرة تخرج له لسانها ، وتفر في الهواء .

استدار بعينين دامعتين يحدق في أعلى الدرب … الجهات كلها ضنينة بالأمل ، مكبوسة بالصمت والعتمة … مسدودة كل الأفاق بالمخاوف ، مسكونة بالرعب … تعبره المواسم ، وليس من حصاد … أجرانه فارغة ، والعمر تحول وعبر … مترنحاً مضي ، يتعثر في مشيته ، فيما أنساب صوته أسياناً يدندن :

مخاصمني ليه يازمن     والطعم أصبح مـر

كل الليــالي ألــم     ولافيها شئ بيسـر

كان صوته المشدوخ يؤنس وحشة الليل ، يحفر مجرى عميقاً من شجنٍ نبيل … ينسرب في فضاء الليل … تحمله الريح … يرتد صدى ملتاعاً .

يشف الصوت … يصير نهنهة … يتلاشي … يبتلعه جوف الحارة ورائحة التراب العارى … ويطبق الصمت .

*  *  *  *  *  *

تحلق الرفاق أمام دكان جابر … الخالي إلامن كفة ميزان قديم ، وكثير من تراب … ركية نار مشتعلة … في وسطها كوز الشاي الأسود … فيما راح جابر يمارس هوايته الليلية في اللعب مع ” هبة ” إبنة الرابعة … عينان جاحظتان … جفناها العلويان مشدودان لأسفل ، وكأنما مابين الجفنين قد شق بموسي منثلم لم تفلح في فصل الجفنين عن بعضهما … كانت … إذ تمسح أنفها بكمها … يترك ذلك مادة لزجة يابسة صفراء تمتد عبر وجهها حتي أذنها … يظل يشاغلها … يشدها … يسبها … حتي تبادله السباب … فيستغرق في قهقهة مسحوبة لا تلبث أن تنطفئ ، ويعود الوجه واجماً منقوعاً في زيت صداً يحدق في الظلمة المتكاثفة .

الأكواب الصاج الصغيرة ارتصت أمامهم الأن … يأتيني صوت تقليب السكر في قيعانها … راحوا يشفطون الشاي بصوت عال فيما تتري أحاديثهم … تتداخل الأصوات … يعلو ضجيجهم … صوت أجش يعلو آمراً :

– اقسم                        .

– قسمتك سودة بإذن واحد أحد .

– آخرك بنت                   .

– عز الطلب                   .

غشاشون … كلكم غشاشين … والدنيا كدابة …

يتناهي إليهم صوت بهاء … ينصتون ، يشرئبون متطاولين ، ويتلفتون بحثاً عن وقع خطي قادمة من جوف الحارة … تعبر إمرأة ربعة مدكوكة القوام … تنشط الحواس الذاهلة … تزحف الألسنة من أمام الدكان فتشنكل المرأة … تعتلي مؤخرتها الرجراجة الشهية … تعريها وتحبلها وتولدها وتستغفر الله ثم تعود إلي حلوق أصحابها … يتفجر شلال من الضحك والقهقهة حتي تدمع العيون … يتمتم الجميع :

خير اللهم إجعله خيراً .

*  *  *  *  *  *

من أغمق نقطة يجئ … متردداً … خجولاً … يقدم رجلاً ويؤخر الأخري … يمضي متلفتاً لصق الجدار كمن يستخفي … يهذي مستريباً بكلمات خافتة لا تبين … تحيط به هالة من الدخان المتصاعد من حريق القمامة … يخترقها ويتقدم ، دافساً رقبته في ياقة معطفه المتهرئ … متلفعاً بكوفية بهتت ألوانها فاستحالت إلي شئ لا لون له … يمد يداً متأففة … وفي حرص بالغ يفرز أكياس الفضلات … تقع عيناه علي صدر دجاجة تبقي بها بعض اللحم المهترئ … أو ثمرة فاكهة لم يصبها العطن … أو كسرة خبز لم يدب العفن فيها … يمسحها علي ركبته ، وينتحي جانباً خلف جدار قديم … وبشهية مفتوحة … يأكل .

*  *  *  *  *  *

السماء تبدو كخيمة من غبار لا يتحرك … خرساء … غير مبالية … وما تبقي من نجوم ساهرة خبا ضوؤها حتي تكاد أن لا تبين … أضواء الشارع المرصوف كبقع باهتة لا تبين ، وصراصير الليل هوت بعدما أرهقها التحويم حول مصابيح الشارع … بتثاقل يمضي الرفاق واحداً في إثر الأخر ، بعد أن ملوا لعب الورق … تبتلعهم الظلمة وصمت الليل منحدرين في الطريق الضيق … لماذا لم يعد ساراً بالمرة ماكان سبباً للسرور ؟

همهمات خافتة ولكنها تملأ سكون الليل ، كأنها طنين أسراب من الذباب … الحارس الليلي يدب بقدميه الغليظتين أسفلت الشارع … هواء ترابي أجرد رازح يملأ الأفق … ومن بعيد … من عمق العتمة … كان الليل ينشق عن ضوء خافت يرتعش .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.