الرئيسية | سرديات | انتقام: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

انتقام: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

لم تتخيل صفاء وهي تدخل الفايسبوك قبل أسبوعين أن تلتقي الماضي دفعة واحدة. كل الماضي البعيد وتجسد في شخص بلحمه ودمه. كانت قد دفنت ذلك الماضي الدفين في مكان ما في قلبها أو عقلها. صار ذلك الماضي حاضرا في اللاوعي فقط. من حين لآخر تتذكر أن لها ماض: طفولة. مراهقة وشباب لكنها تنكر تلك الحياة التي كانت فيها تعيسة وافتقدت فيها كل ضروريات العيش. كانت قد حققت نجاحا باهرا في تجارتها في ضواحي باريس. اشتغلت لسنين لكي ينجح دكان الأثريات الذي افتتحته منذ سنوات. لم تكن على علاقة بأحد. لم يكن لديها أطفال. كانت تعاني من مرض السكري ولم تتمكن من الإنجاب.حين ترى صديقاتها وأبنائهن المراهقين تقول لنفسها أنها أحسن حالا. تربية الأطفال في فرنسا مهمة متعبة فهم ملوك ولا أحد يمكنه أن يبسط عليهم سلطته كما في أرض الوطن. الأطفال هنا مدللون وكل الأمور تدور حول صحتهم الجسدية والنفسية وراحتهم وتطويرهم الذاتي. لم تعرف تلك العناية وهي صغيرة. ماتت أمها وهي صغيرة وتربت على يد زوجة أبيها السادية التي حولتها إلى خادمة صغيرة. تستيقظ في السادسة صباحا لكي تعد الخبز وتقطع الخضر قبل أن تذهب إلى المدرسة. كانت تصل إلى القسم وهي متعبة ولا تستطيع التركيز في الدرس. كان ذلك يعرضها لتأنيب الأساتذة. لم تكن تعرف بماذا تجيب. تتلقى الإهانة وتصمت. في البيت أيضا تتلقى الإهانة وتسكت. لا ترد على إهانة أحد كأن الإهانة أمر طبيعي، كأنها تستحق ذلك. كانت تعيش بمشاعر مختلطة من الرخص وغياب القيمة الشخصية. لم تستطع يوما أن تفرض احترام ذاتها على أحد. لم يحترمها أحد من أهل بيتها. أبوها يستهزئ بها وبنتائجها الدراسية، إخوتها يستهزئون من بطئها في الفهم وزوجة أبيها تستهزئ بطبخها غير ذي طعم.

حين بلغت السابعة عشرة من عمرها، حملت جسدها وهربت من جو الاستهزاء السادي ذاك. هاجرت من ايفران باتجاه مراكش . هناك اشتغلت عاهرة خليج وكسبت مالا. التقت شيخا من الإمارات استخرج لها جواز سفر ديبلوماسي وهاجرت إلى فرنسا. استقرت بالضاحية الجنوبية. أرسل لها الشيخ مالا وافتتحت به مشروعها في التحف. لسنوات كانت تسافر إلى دبي عند الشيخ إلى أن مل منها وسألها أن تتوقف عن الذهاب إلى دبي. عوضها بمبلغ كبير واستطاعت أن توسع دكانها وتشتري بيتا. كانت تعيش عيشة ميسورة. كانت في بعض الأحيان تفكر في أسرتها وتتمنى لو أنها تلتقيهم. لو ترى أباها وإخوتها لكنها تتذكر سوء المعاملة فتعذل عن ذلك. من الأحسن أن تفكر أنها بلا أسرة على أن تعاود الاتصال بأناس ساديين لا يحسنون إلا الإساءة.

دخلت الفايسبوك لتطل على صفحتها حين أتاها سؤال

– هل أنت صفاء المغربي من افران؟

 – أجل أنا صفاء من أنت؟

– أنا حميد جاي ابن جيرانكم هناك

حميد؟ آه حميد يا حميد. طبعا تتذكر حميد الفتى ذو العينين الواسعتين والقامة الفارعة. حميد الذي كان مبتغى نصف بنات ايفران. حميد الذي كان مغرورا ولم يكن ينظر إليها بالمرة. حميد الذي أحبته بصمت وابتلعت مرارة تجاهله لها. حميد الذي كان يعايرها هو الآخر بشكلها وملابسها الرثة وغياب الحلي والمكياج وأشياء البنات. حميد الذي كنت تحس باحتقاره لها وهي مراهقة محرومة من كل شيء. كانت تود أن تري لحميد حالتها الجديدة، الدكان والبيت والملابس والجواهر وسيارة الكات كات. هل تجيبه؟

كتبت

– أهلا حميد أين أنت الآن؟

– أنا في الضاحية 94 في باريس السان دونيه

 – وهل تشتغل ؟

– لا أعيش من مساعدات الدولة للأسف بعد أن أصبت بإعاقة

– هل تزوجت؟

– تزوجت من فرنسية وأنجبت منها ثم طلقنا وأنت؟

– لم أتزوج ولم أنجب أعيش من أجل شغلي ونفسي

– هل يمكن أن نلتقي؟

– لم لا؟

تقرر لقاؤهما بعد يومين. شعرت بسعادة كبيرة. لأول مرة تحس بقيمة نجاحها. لأول مرة سيرى الذين عرفوها فقيرة ورثة كم نجحت وكم راكمت من ثروة. لم يكن لاغتنائها من معنى دون أن يراه اللذين سخروا منها في الماضي. كانت تريد لحميد ان يرى السيارة الكات كات وجواهر شوبار وبيتها الأنيق. تريده أن يشعر بالغبن وبالذنب من تصرفه معها في الماضي. تود لو ترسل صورا من حياتها الجديدة لكل من عرفوها من قبل ولم يحترموها.

في اليوم الذي كانت تلتقي فيه حميد، لبست أجمل طايور في دولابها ووضعت حلي الشوبار التي أهداها الشيخ إياها ذات عام في دبي. ركبت سيارتها وانطلقت باتجاه السان دونيه. في المقهى، انتظرت حميد لخمس دقائق. وهي تجيب زبونا في الهاتف رأت شابا مقعدا يتحرك باتجاهها في كرسي معوقين. كان يبتسم لها. اقترب منها وهو مترردد

– هل أنت صفاء؟

– أنت حميد ؟

– أجل أنا هو

نظرت إليه، إلى لباسه الرث و إعاقته المركبة. لم يكن يحرك شيئا غير يديه ورقبته. خجلت من نفسها ومن مشاعر الانتقام التي أحست بها قبل أن ترى حميد. فكرت أنه لا يستحق انتقاما أكبر من انتقام الحياة. شربت معه كاس قهوة وهي تحاول إخفاء إسورتها الألماس كي لا يشعر عدو البارحة بالإحراج.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.