الرئيسية | فكر ونقد | النشيد الفلسطيني في رواية مصائر | كريم عبدالله هاشم

النشيد الفلسطيني في رواية مصائر | كريم عبدالله هاشم

كريم عبدالله هاشم:

 

لقد كان للحركة الأدبية الفلسطينية على الدوام تميزها في مجمل الحركة الأدبية العربية بأعتبارها ركنا أساسيا من أركان الوعي العربي المقاوم والذاكرة العربية المقاومة والمناهضة لكل ماتعرضت له المنطقة العربية بمجملها من استعمار وويلات واحباطات. وقد حافظ الأدب الفلسطيني على نكهته هذه لحد الآن وأعطاها زخما من التجديد والتحديث الذي مكنه من أن يحافظ على موقعه المتميز في مشهد الأدب العربي ، لامجال الآن للخوض في الشواهد والأسماء الكثيرة.

من هذا الأطار انطلقت رواية (( مصائر كونشرتو الهولوكوست والنكبة – للكاتب الفلسطيني – ربعي المدهون )).

إنه نشيد الأرواح التي تحلق من بعيد في سماء الوطن الذي أصبح غريبا : (( راقبت رماد جسد أمي يصعد الى الفضاء في سحابات صغيرة متفرقة ، راحت تختفيفي سماء المدينة ص265 )). وهو نشيد المسافة الفاصلة بين شعب تم تهجيره قسرا ووطن أصبح غريبا على أبنائه بعد أن تعرض خلال مايزيد على 65 عاما من النكبة الى الكثير من التجريف والتهديم والتحريف و(( التوظيب )) الجغرافي والتاريخي والفكري ، وتم خلق فجوة كبيرة يصعب عبورها واجتيازها في ظل الضوابط والقواعد ومستلزمات التهجير والتوطين التي انشأت خلال هذا الزمن المنقضي . أصبحت العودة حلما لمواطن كان ينتظر عودته الى بيته ووطنه في مدة قالوا له انها لن تطول (( لأنهم عائدون بعد شهرين كما قيل لهم حملوا معهم ماخف ص60 )) .

لقد بنى الكاتب – ربعي المدهون – (( الحكاية )) في روايته : بواسطة شخصية رئيسية في الرواية (( وليد أحمد دهمان )) ومن خلال هذه الشخصية أو بواسطتها تتشعب وتتفرع (( الحكاية )) أو القصة الى الشخوص المتعلقين به او المرتبطين معه الذين أوردهم الكاتب لبناء أحداث القصة وانطلاقاتها في القاء الضوء أو معالجة الغرض الذي يرمي اليه . فمن خلال وليد دهمان أو بواسطته تنهض شخصيات (( أخرى )) أيضا تعتبر رئيسية في الأجزاء والأحداث التي تخصها ، كذلك من خلاله يتم الدخول الى شخصيات في أعماق النكبة وفي أعماق البعد التاريخي للقضية .

وقد نجح الكاتب بتوظيف (( الحركات الأربعة )) أو الفصول الأربعة بفصولها الداخلية والفرعية التي مكنته من التفرع والقاء المزيد من الضوء على مناطق وغايات في فكره أراد الوصول اليها وأيصالها الينا .

ففي الحركة الأولى :

نجد – جولي – زوجة وليد ، أبوها انكليزي وأمها عكاوية ( من عكا ) ، التي يتاح لنا من خلالها الولوج في عوالم ووقائع تأريخية وهي تسعى الى اقامة جنازة ثالثة على روح والدتها ايفانا التي توفت في لندن بعد غياب كل سنين النكبة عن وطنها ، يلج الكاتب في التاريخ العائلي لجدها مانويل أردكيان ، وبيت جدها في عكا الذي وقع بيد المنظمات اليهودية ، ونجد عائلة لاؤور اليهودية من لاجئي الأبادة النازية الذين سكنوا البيت . نتعرف في هذه الحركة من الرواية على ساحة عبود ، فضيحة زواج ايفانا الأرمنية العكاوية من الطبيب البريطاني وهروبها معه الى لندن اذ تبرء منها والدها ، رحيل الأنتدابالبريطاني تاركين فلسطين للمجموعات العسكرية اليهودية التي أعلنت قيام دولة أسرائيل ، مقتل انترانيك اردكيان في الدفاع عن عكا مع متطوعين تجمعوا بقيادة أحمد شكري ، مباشرة وكالة غوث اللاجئين بأقامة مخيم جسر الباشا في لبنان ، بداية الشتات الفلسطيني والمخيمات في غزة ولبنان وغيرها ، فصول ووجوه متعددة من النثار والشتات .

في الحركة الثانية :

يتوغل ربعي المدهو الى أعماق غربة الداخل ومنفى الفلسطيني القادم من الخارج أو من المخيمات في داخل وطنه ، الفلسطينيون الذين تحولوا بحكم واقع التقسيم الى اسرائيليين في التسجيل والجنسية ، جنين الفلسطينية بجواز اسرائيلي ، زوجها باسم الفلسطيني بجواز أمريكي . نجد الفلسطيني الذي أصبح (( يستجدي )) حق اقامته في وطنه : (( ياربي مش معقول الغربة تجمعنا ويفرقنا الوطن ص111 )) و (( ان ابنه البكر تزوج بأمرأة أخرى رملاوية وأسس فرعا اسرائيليا لعائلة دهمان ، تاركا الأب يتكفل بفرعه الغزاوي الصغير ص121 )) ، وتظهر لنا شخصية (( باقي هناك )) الذي ارتحلت عائلته الى غزة مع من تم تهجيرهم تحت وابل القصف والنيران وبقي وحيدا متمسكا ببقائه في بلده لايستطيع وصل عائلته ولاعائلته تسنطيع وصله . وفي هذه الحركة يتنقل الكاتب بين حياة شخوصه في البلاد أو في غزة أو في المنافي ويوغل في جزء من تاريخهم الشخصي ويقدم لنا نماذج متعددة من الضياع والعلاقات التي انتجت واقعا مريرا وانتجت حكايات ضياع وتمزق .

في الحركة الثالثة :

يستمر الكاتب بمجموعة حكايات يجمعها عمود الهم الفلسطيني بوجوهه المختلفة ، الزحف الأسرائيلي تجاه فلسطين والزحف الفلسطيني نحو الخارج : (( الفلسطيني يزحف ع السويد والدنمارك ص151 )) . وتتجسد لنا ملامح كثيرة لشخصية (( باقي هناك )) الذي قرر منذ ذلك الزمن : (( ان يصرخ بنفسه ، قبل أن يرحلوا ويأخذوه معهم (( ياب ان هاجرتوا مابترجعوش )) تهتز المجدل على وقع الصدى ص161 )) .

في الحركة الرابعة :

يحاول الكاتب أن يلملم أطراف (( الحكي – القص )) ويلملم شخوص الرواية ليوجهها الى غايات قصده ومبتغاه من خلال وليد دهمان وحركاته  ومن خلال الوجوه المرتبطة به ، ومن خلال الأمكنة التي تنقل فيها كثيرا في (( الحركات الثلاثة )) السابقة : (( دير ياسين ، هي المذبحة اللي غيرت التاريخ ، ورسمت الملامح القاسية لنكبة 1948 هي الثقب الأسود اللي الأسرائيليين مش عارفين يتعاملوا معه ص182 )) . والأنتقالات بين الشخوص ، سلمان جابر ، جميل ، لودا الروسية ، أيام دورات النضال والعمل الشيوعي ، القدس ، حيفا ، يافا ، مذبحة دير ياسين ، مسارات الكفاح الوطني ، أمل التحرير والعودة : (( ولايعود ولايعودون ص186 )) ، حي وادي النسناس الذي بقي (( رابضا منذ العام 1948 ، مثل أسد يحرس ماتبقى لنا في حيفا ظل فلسطينيا ص202 )) ، رموز تاريخية ، فيصل الحسيني ، عبد القادر الحسيني ، عز الدين القسام ، شواهد وتاريخ : (( استوقفني كوكتيل التاريخ والحضارات الذي رأيته هنا ص 216 )) ، المسجد الأقصى ، كنيسة القيامة ، قبة الصخرة ، الهيكل الثاني ، قبر النبي زكريا ، باب العامود ، متحف ضحايا محرقة اليهود ، ويتوصل لقناعة : (( اكبر خريطة تزوير للتاريخ والجغرافيا في عصرنا الراهن ص233 )) . تتجه الرواية في فصلها الأخير – الحركة الرابعة – الى ادانة المذابح التي جرت للفلسطينيين والمذابح التي جرت لليهود : (( عندما خرج – باقي هناك –  من البيت يحمل يافطتين علق عليهما صورتين، واحدة من مذابح دير ياسين والثانية من مذابح جرت لليهود في كييف ص257 )). وتنتهي الرواية على يافطاته التي لم ينظر اليها أحد، ويعود دامعا مع النشيد الأممي.

أما فيما يخص البناء السردي للرواية : فقد كان الكاتب موفقا في التنقل بأحداثه وتفاصيله من مقطع الى آخر ، وكان موفقا في توفير التناوب والتواتر في سرد الأحداث والأستدراكات والملاحق السردية .

وقد وردت في الرواية الكثير من السرديات الوصفية لأجل غايات كان يريد الكاتب الوصول اليها ، فكانت الأطالة والتوسع أكثر مماينبغي في هذا المجال قد أدخل بعض المقاطع الى بعض المدخلات الوصفية والتاريخية التي امتازت بصيغة تقريرية . وقد تضمنت الرواية انتقالات وصفية للجغرافيا والتاريخ والهواجس التي استرسل بها الكاتب كثيرا ساهمت في اغناء الصورة لدى المتلقي ، فقد كان الكاتب ينتقل من مكان الى مكان ومن موضوع الى موضوع في حركاته واجزاء حركاته لتكوين صورة وغرض يريد الوصول اليه .

الكثير من تفاصيل وصفحات الرواية تسترسل بسرد أشبه مايكون بنقل تفاصيل رحلة وهذا ماكان يرمي به الكاتب الى مزيد من التوضيح والأضاءة لخدمة موضوعه لكنه استغرق كثيرا من القاريء اذ ترك القاريء يستوحي الجو الحكائي والسردي من تفاصيل نقل المكان لو ان الكاتب قد كثف أحداثه السردية الحكائية في نقل المكان والزمان بدلا من الأسترسال في الوصف الموسع للرحلات والتنقلات التي حولت (( بعض )) المقاطع الى رحلة في الجغرافيا والتاريخ .

لقد كانت بعض مواطن الحماسة في الرواية هنا ضرورة من ضرورات الأيحاء لخدمة غاية الكاتب وهدف الرواية : (( الأزياء لنا ولنا غرز تطريزها وحريرها وأقواس قزحها على صدور فلاحاتنا لنا ولنا القدس كلها وأرواح الأنبياء التي غادرت مقراتها في الصخر للناس يتقاتلون عليها  . . . فلن يتبقى الا تاريخنا نحن تاريخنا الذي لنا ص217 )) وقد كان الكاتب موفقا في مناولتها للقاريء ومتحكما بجرعة تدفقها من مكان الى آخر في سطور الرواية .

ان الأسترسال الجميل والأفاضة في تدفقات الرواية التي كان الكاتب يقودها بمهارة لم تخلو من (( بعض الموضوع الجانبي الذي تم حشره عنوة )) والذهاب والتوسع والأطالة فيه أيضا بحيث تسبب ذلك بأرباك الأسترسال الهاديء للقاري والمتلقي وجره عنوة الى موضوع جانبي ، كان يريد الكاتب أن يوحي به ويعزز وجهة نظره كما حصل في موضوع (( لاتصدقوهم لم ينسوني بعد أربعين عاما  ص166 )) الذي دخل القاريء فيه بتفاصيل أخري . كذلك وردت في الرواية بعض الشخوص الطارئة على الأحداث ومجريات القص ، شخصيات غير رئيسية في الرواية لكنها تدخل لتلقي الضوء على أحداث جدا أساسية ورئيسية كما في (( وداد ، من دير ياسين )) .

ان التشعب في فتح الأبواب في االموضوع الحكائي وفي السرد الروائي كان ضرورة من ضرورات الكاتب لكي يلقي الضوء أكثر على المسافة الزمنية والتأريخية والكم المتراكم خلالها من التطورات والتقلبات التأريخية وقد كان الكاتب موفقا فيه الى حد كبير ، حتى وان كانت بعض الأبواب الجانبية قد استغرقت الكثير مما (( قد )) يؤثر أحيانا لدى البعض في الأمساك بصلب الحكاية أو (( قد )) يؤثر على تماسك المضمون السردي .

لقد كتبت الرواية : بلغة جميلة موحية ومعبرة ، قريبة من النفوس ، وقد كان الكاتب بلغته هذه موفقا الى قدر كبير في ملامسة الهم اليومي لشخوص الرواية والهم اليومي الفلسطيني ، بهذه اللغة القريبة من الجميع والتي تتسلل توصيفاتها واستعاراتها اللغوية وملفوظاتها الى قلوب الجميع.

في مجمل الرواية كان الكاتب ربعي المدهون موفقا إلى درجة كبيرة في الأحاطة بالهم الفلسطيني وهم النكبة ومخلفاتها الذي توجهت الرواية للأحاطة به وتشخيصه.

أبارك للكاتب جهده المتميز هذا ، وأبارك له فوزه هذا ، واننا نبتهج ويسرنا النجاح الذي يحققه أخوتنا من كتاب فلسطين الشقيقة لأنه جزء مهم من حلقة نجاحات مطلوبة لمواجهة فصول النكبة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.