الرئيسية | سرديات | المعلمة سعيدة | ميمون حرش

المعلمة سعيدة | ميمون حرش

ميمون حــــرش

 

     أحيانا يستمرئ المرء عذابه ويتمنى لو تأخذ الأمور، ولو مرة، منعطفاً آخر غير الذي رسمه له القدر.. لكن محال لأنه عاجلاً أم آجلاً لا بد مما هو كائن وسيكون، الأشقياء وحدهم ربما يعون هذا الناموس، لقد تعود منكود الحظ منهم أن يقحمه قدرُه في قمقم العذاب الذي سيغذي روحه من الداخل، هو دائماً يدرك أن الهم صابون قلبه، وأن مهمته أن يغسل دواخله حتى يصبح تَعِساً بشكل أفضل، تعاسته صاحبة جلالة متوجة على عرش قلبه تجر تلابيبَ من دموع تنساب كأَتيّ المتنبي على الخدود الذابلة العطشى تسقيها دموعٌ تهمي وتهمي، ولا تحرن أبداً، بل هي دوماً تجود بدمع مدرار يغزو حشا النفوس من كمد وحزن.. فما أكثر اليتامى!، وما أكثر المعذبين في الأرض!، فهل يحتاج أحد من هؤلاء، في زمن البكاء، لوصية من أجل البكاء؟.. ترى كم دمعة كانت شاهدة على ما أُنزل بالنفوس من الخيبات؟..           لوغادرت دموعُ المعذبين في الأرض المُقلَ في كل العيون، وانسابت لانضاف بحرٌ آخر للكرة الأرضية، ولو قُدر للدمعة أن تقول لن تغادر لا صغيرة ولا كبيرة..ماذا نرى نحن غير دموع تهمي وتهمي، بيْد أن لكل دمعة قصة أو قصصاً لا يحس بها سوى من ينزف البكاءُ دموعَ عينيه.. ومع ذلك هناك عيون تغادرها الدموع، أصحابها يعطون الضوء الأخضر للقلب ليبكي عن العين..

     سعيدة من هذا النوع لم ترتو خداها بدمعة واحدة حتى عندما ماتت والدتها.. الحق أنها بكت كثيراً لكن دون دموع، ويوم العزاء حبست نفسها في غرفة وحيدة ومقهورة، شقيقتها هي التي تكلفت باستقبال المعزين والمعزيات.. وحين كانت سعيدة ترى إلى قوالب سكر في أيدي هؤلاء تبسم سراً لغرابة التقليد دون أن تهتدي للعلاقة الرابطة بين الموت والسكر. الأول مر والثاني حلو فماذا يريد المعزي بذلك؟ من يرحل مثلاً مدنساً بكل الخطايا- ما أكثرهم، وما أكثر خطاياهم- أيستحق سكراً أو قطعة حلوى؟! أم السكر للحي الباقي الذي لفرط ما بات مُحاطاً بكل هذه “القوالب” فقَد ليس فقط حاسة الذوق بل أيضاً حاسة الرؤية.. الناس عليها أن تصاب بالعمى ولو ليوم واحد حتى تدرك قيمة الأشياء التي تملك والأمكنة التي تسكن.

  سعيدة وحيدة الآن في شقتها وهي تسترجع بعض ما فلت من الزمن، تبدو كأحد كؤوس الطاووس المركونة في خزانتها، ما يميزها عنها هو أنها كأس فاضت.. وفي سكون تتأمل أغراضها فتجدها لوحة يسيج إطارَها ماضٍ عاشته مع زوج قضى في حادثة سير ولما يبلغ ابنهما الوحيد سنته الأولى.. هو الآن تلميذ في الإعدادي، هو الابن الذي بوجوده يصبح لحياتها معنى، تلك الحمى المسماة حياة كما يحلو للشاعر إدغار ألان بو أن يسميها والتي اكتوت سعيدة بسيخها..

  بعد موت الزوج والأم عشقت سعيدة التأمل، وكثيراً ما كانت تتأسف لأن المقرر الذي تدرسه- وهي المعلمة- ليس فيه مادة اسمها رياضة التأمل..تجده ضرورياً في زمن الفوضى التي يعيشها إنسان اليوم، ففي غياب الشمس على الإنسان أن ينضج في أتون التأمل..اعتادت سعيدة أن تتأمل صورة عرسها التي لا تمل من التفرس فيها ليل نهار، وكثيراً ما تجزم بأن الصورة ليست لها، في الصورة تبدو مكتنزة لحماً وشحماً، متوردة الخدين، واليدان تطوقان العريس الذي كان يوما هنا، والآن حيرتها ذات اليدين.. أصبحتا قصيرتين.. صحيح عيناها بصيرتان لكن ما نفعهما إذا كانت اليدان قصيرتين.. في غرفتها الستائر من حولها تتمايل والقلب يخفق مع طقوس التأمل لديها..وما حز في قلبها كثيراً هو كيف يتوخى حِمَام الموت زوجاً هو كل ما تملك، جاءته خاتمته عل حين غرة في هيئة سكير يقود سيارة مرسيدس، دهسه مثل بسكويت دون رحمة ليرحل مخلفاً وراءه أرملة وطفلا يتيماً.

 منذ سنوات، في ذات الغرفة، قال لها زوجها:

  • اسمعي سعيدة، لا ينقص هذا البيت سوى صراخ طفل صغير.

  • أنتم الرجال لا يهنأ لكم بال دون أولاد… ( ترد سعيدة دون غضب).

  • وما نفع الزواج إذاً..؟

  • أن أكون معك، أملأ دنياك..

ويقاطعها:

  • لا يكفي سعيدة، لا يكفي…

“سعيدة”، أي أبله اختار لها هذا الاسم، لا نصيب لها من هذا الاسم، أفلا ينظرون إلى تخوم جسدها الواهي، أين الذي كان يقول لها:”ضعي رأسك الواهي على كبدي”.. كان في الماضي يقول ويقول، أما اليوم فلم تفضل من ذكراه غير الكلمات.. الآن حين كبر ابنهما صارت – من أجله – تشتعل تحدياً لكن عالياً وجلياً، من يتأملها يكتشف فوق رأسها قباباً دون أن يعرف وزن كل قطعة حطب وجوهرها وقدرتها الحارقة..وحدها تعرف كم قاست في تربية ابنها حين مات الزوج، وقبله تخلى عنها أهلها حين تزوجت به سراً..هي النار المسماة حياة…هي النار، والنار محرقة.

  وفيما هي سادرة في بحر ثقيل، لكن ليس غنياً، من ومضات الاسترجاع تسمع مزلاج البيت يدور ويُفتح الباب الذي ينط منه الابن.. يرمي أمه بنظرة، يلقي محفظته الثقيلة، يتنهد ثم يرتمي على المقعد غير بعيد عن أمه التي تلومه قائلة:

  • ألا تلقي التحية، لست أدري ماذا تتعلمون في هذه المدارس. إف..

  • اسألي نفسك ألست معلمة؟ (يرد الابن برعونة).

يضيف الولد:

  • ماما أنا جائع ومتعب، لقد أنجزت الفرض اليوم في الرياضيات..

  • الطعام جاهز، لكن قل لي: أجبت عن كل الأسئلة؟.

  • كل الأسئلة..

  • ولم تنس أي سؤال.

  • لم أنس أي سؤال.. أجبت نعم، لكن من يدري..

  • أنتَ تدري، ثم تأسيساً على مراجعتي معك، مع طبيعة الأسئلة، تستطيع أن تبني حكماً.

  • نعم..نعم ماما، أنت معلمتي في البيت.. لماذا تذكرينني بهذا كل حين..

كان يصر أن يُدعم بتلقيه دروساً خصوصية كما يفعل زملاؤه عند أساتذة يحرصون على جني بعض الفوائد في زمن لا يرحم، هؤلاء معذورون، وهم بذلك أيضاً محظوظون، لكن غيرهم يغتنون بها ويعتبرونها مكسباً لا محيد عنه..سعيدة من جهتها ترفض أن يتلقى الابن ساعات إضافية، ليس بخلاً، لكن عن عوز وضيق ذات اليد، وحين تواتيها النكتة تقول له باسمة:

  • أمك مجرد (كُ)علمة يا ولد.

كان الحوار عادياً بين الاثنين أنهاه الولد بأن صفق باب غرفته وراءه فجأة، كلمة “معلمة” تكدر صفوه لذلك لا يحب سماعها من أمه تحديدًا، حَسْـبُه زملاؤه الذين كلما غاروا منه لنجابته قالوا:” أنت مجرد ابن (كُ)علمة”.

 زملاؤه من أبناء من يمشي في الأرض مرحاً يعيرونه به، وسعيدة تقدر جيداً المرحلة العمرية التي يمر بها ابنها لذلك لا تكترث غالباً لسلوكه الأرعن.

    حضرت الغذاء و تناولته بعجلة رفقة الابن وهما يشاهدان أخبار الظهيرة في القناة الثانية.. بعد ذلك خرجا معاً، الطريق واحدة، والعمر واحد، والكبد (كبدها) واحدة، أما الغد فليس واحداً.. أي مستقبل ينتظر الولد في زمن تفر منه الآمال في سفن تشتهي الإبحار في محيط أزمان بديلة وترسم لها فيها أشرعة النجاة من كل شيء حتى من النفس، وكذلك من الوطن.

 يمسك الولد بيد أمه، فيما تربت هي يدها على كتفه، يمران بمحاذاة طريقٍ الحفرُ فيها عميقة ومسننة تمر فوقها سيارات كثيرة تتأمل سعيدة أشكالها ولا تعرف أسماءها، بينها سيارات قليلة تقودها نساء..فجأة ينفلت الابن من يد الأم وينطلق كسهم وينضم إلى رفاق له لوّحُوا له من الجهة ا لأخرى.. تصرخ الأم:

  • حاذِر..

  كالسهم أيضاً تمر بها سيارة إسعاف منطلقة بسرعة غير مبررة ولا جدوى منها مادامت تصل متأخرة دائماً..تتأمل سحنات المارة في وهن، لكن بانتباه، لا تفتأ تسأل عن سر هذه العجلة دون فائدة، يمر بها شاب لا يلوي على شيء، يتنخم عن يمينه غير مكترث بمن حوله، يبدو أنه فعل ذلك نكاية بزمن لم ينصفه، كثيرون غيره يتنخمون، وعلى “الهواء مباشرة”، بعضهم يرسل من نافذة سيارته الفارهة بصقة يتطاير رذاذها في الهواء مصحوبة بصوت المنبه مستعجلاً سيارة أخرى تنتظر إشارة المرور.. سيارات فخمة كثيرة تمر بها بسرعة تنطلق من حولها كقذائف لا تعترف باللون الأحمر في بلدٍ القانون فيه يقبع تحت لا فوق.

  سعيدة، في طريقها، تتأمل الضوء الأحمر في رأس عمود شبيه بشجرة نخرت الدود لحاءها، في قمتها بعض من نسيس نار تخبو بخجل؛ في الشارع ترفع سعيدة نظرها في شقة حيث ينبعث صوت صفير كوكوت مينوت “فش- فش- فش- فش” في تناغم رتيب..يبدو أن أهل الشقة لا وقت لديهم، لذلك فهم يستعجلون وجبتهم.. إنها العجلة.. الكل مستعجل..سعيدة مستعجلة أيضاً، الوقت يدركها لتبدأ حصتها الأولى، حثت الخطى متأملة قدميْها الصغيرتين المسرعتين كما لو كان أحد يطاردها، وكمن يمشي في الهواء أثناء الحلم تنظر يمينا وشمالا مأخوذة بمشاهد تتكرر برتابة قاتلة، وحين مرت بآخر الشارع غير البعيد عن المدرسة حيث تعمل فكرت في البرنامج الاستعجالي المقترح لإصلاح المنظومة التربوية..هو أيضاً ركبه عفريت السرعة، ومن فوق يتحكم فيه أزلامه عبر جهاز التحكم عن بعد وبسرعة مرسلين إشارات إرسال ليست غامضة فقط، بل غير منقادة لشاشة/سبورة لا توجد وراء الموقد فقط بل خارج المطبخ أصلا.. همست سعيدة:

  • “حسبهم عشر سنوات أنبتت هواءً فاسداً، وخواء أبيض كالموت.. ماذا يستعجلون إذاً؟..بل ماذا يبغون بعد؟!..هراء..”

أضافت:

  • “يبدو أنهم لم يفهموا بعد أين تكمن معضلة التعليم عندنا”.

تلوح المدرسة أخيراً من بعيد.. تتنهد سعيدة الصعداء.. ما يكون الشارع الذي تقطعه يومياً غير قسم ككل الأقسام في مدارس المعذبين في الأرض.. الاكتظاظ واحد، والعجلة ذاتها في الخارج والداخل..تلامذتها يستعجلون، في الفصل، جرس الاستراحة، ويستعجلون العطل..هم يحفظون أيامها أكثر مما يحفظون دروسهم.. زملاؤها من الـ(كُ)علمين والـ(كُ)علمات يستعجلون تسوية وضعياتهم، ويستعجلون إنهاء المقرر.. أما في الخارج فالعجلة بمثابة عفريت مرسوم في لوحة لا يستحق إطارها.

 داخل الفصل تستعجل سعيدة تلامذتها لاستخراج الكتب وفتحها، تباشر درسها الأول في التراكيب وهي تتأمل ساعتها الصغيرة..تتمايل بتثاقل..تدير ظهرها للوح الأسود حيث كتبت عبارة: “في التأني السلامة، وفي العجلة الندامة” ثم فتحت المجال لبراعم الفصل لترديدها وكتابتها.. وفي الوقت الذي بدأت جولتها بين الصفوف أرسلت نظرها، من نافذة الفصل، إلى الخارج الذي بدا سديماً، ملطخاً، مدنساً، وحارقاً كالعشرة الأولى من غشت اللهاب التي تحرق المسمار في الباب.. تنظر مرة إلى وجوه التلاميذ، ومرة إلى هذا الخارج الحارق وبدت كمن يتابع بانتباه مباراة في التنس..وحين فاقت من تأملاتها نظرت في ساعتها مرة أخرى، ثم أرسلت ضحكة مدوية في أرجاء القسم أثارت فضول التلاميذ دون أن تفزعهم..كانت لا تزال تضحك حين قالت وهي تعيد قراءة العبارة المكتوبة على اللوح: “إنها والله مجرد خرافة اللوح الأسود”..التلاميذ لم يفهموا شيئاً.

 سعيدة كانت لا تزال تتأمل ساعتها كل حين.. تستعجل إنهاء حصصها الثقيلة التي تعتبرها مغامرة مع أقسام مكتظة عن أخرها. تستعد كل يوم لكل فصل جديد استعداد الفارس للحرب العوان.

 يرن الجرس بعد لأي معلنا- أخيراً – انتهاء حصص المساء، ويخرج الصغار مثنى مثنى.. وإذا انتشروا كانوا كمن حُرر من قمقم لا من فصل دراسي.. أصواتهم طفولية، لكن سلوكاتهم أقرب لعفاريت زُرق تدعي الأدب فلا تفلح في ذلك..يركبون رؤوسهم ورؤوس من خلفهم.. وحده ظهر المستقبل، مستقبلهم، يظل شاغراً..فمن يستعجل ركوبه؟! وكيف؟!.

 في مكان آخر يخرج عفريت آخر، يخرج ابن سعيدة صحبة أقرانه ينوءون تحت ثقل محافظ تزيد من نفور بعضهم من التعلم.

 الابن، منتشياً بعلامته الجيدة في مادة اللغة الفرنسية، يستقبل أمه وسط الطريق، يمسك يدها، وهي تربت على كتفه بحنان، يسيران جنباً إلى جنب دون كلام، يقطعان الطريق ذاتها.

الابن يحلم بمستقبل زاهر، والأم تتأمله وترى فيه رجلا يستعجل اليوم الذي ستزف إليه عروسه التي سيقول لها يوماً:

“اسمعي عزيزتي، لا ينقص هذا البيت سوى صراخ طفل صغير”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.