عبد الفتاح بن حمودة (حركة نص تونس):
كلّ ما أذكره هو أنّني كنت مأخوذا بالبرق وخائفا. لم تكن الكتابة سهلة مطلقا لأنّها ببساطة، مليئة بالإثم، بالألم واللّذّة والضّجّة الخالقة للضوء أيضا.
لم أكن «نبيّا» بل كنت غصنا بلا ذاكرة أو سماء مشروخة بالعصافير. سنوات مختلفة مرت وأنا أجمع أثمار هذه «الوردة» بعناء بهيج، في هذه الأرض الشيقة بهشاشتها وهذه السّماء المدلهمّة بالرّيش والسّيقان الصّغيرة. حيث كل حرف آهة، حيث آلاف الكلمات التي تُكتب ولا يبقى منها إلاّ القليل : برقيات مثلا أو رسائل مقتضبة أو صلوات صغيرة محروسة بعظام الموتى.
كذا كنت أكتب وأمحو، حتى أن الكتابة صارت محوا، انتزاعا لذاكرة خاصّة يدور زمنها فوضويّا دون كَلَل. أمّا ما يجري حول «إشكاليات النصّ الشعري العربيّ والتونسيّ المعاصر» فكان خطيرا وملائما لطبيعة هذا النّصّ الجنونيّ مثل مسألة الجنوح إلى الغموض والعلاقة الشائكة المترتّبة عن ذلك بالقارئ والعالم واللّغة. وأدركت في كلّ «نصّ» أو «كتابة» أنّ من اعتقد أنّ «النّثر يجرّدنا من الإحساس بالعلوّ» واهم في أكثر من موضع. ففي النّثر ننفتح على أكثر من جهة وعلى أكثر من ريح مخصبة. وسمّيت النّصوص والكتابات النثريّة «الشّعريّات المفتوحة» الحاملة لشعريّتها المخصوصة في ذاتها، كما هي، غنيّة بالضرورة بسياقات لغويّة جديدة وبعلاقات نحويّة تجدها في جنوح إلى الصّورة البكر. مأخوذة بدلالات خارجة عن لغة القواميس الجافّة في مجملها. وأعدت كلّ شيء إلى عمق الاهتمام بالذّات في علاقتها المتينة بالأسماء والأشياء، بالثقافة والطّبيعة، مع إضافة عنصر أصيل في كلّ عمليّة إبداعيّة وهو«الطّيران أو الجنون» وبناء على ذلك وصلت إلى « وردة » مجروحة دائما : «اللّغة» و«الوجود» وهشاشة الكائن والذات كاتبة أوقارئة.
الاهتمام بالبحر دون معرفة قصوى بالزبد والرّمل والأصداف المشعلة بالشوق الإنسانيّ العارم، اهتمام ساذج.
الاهتمام « بالوردة » دون النّفاذ إلى عمقها قصور وعماء فاسد.
عواءُ الوردة امتيازُها الوحيد.
الاهتمام بالجبال دون معرفة منطق الزواحف أو معرفة العلاقة الأصلية بين المغاور والنمل والعناكب، أو دون فهم واستقصاء إشارات الماء على الأحجار ، هو اهتمام بائس لا جروح فيه. اهتمامنا الوحيد نحن شعراء الحركة التونسية الجديدة هو الضحك بلا هوادة ومعرفة ما إذا كانت أفواهنا مليئة حقا بالدماء والقشّ والتراب والمياه. همّنا الوحيد تلك «الوردة» القميئة ذات الضّجيج العالي في الأسافل، للاستفادة من لعنتها وقداستها.
نضع سيقاننا المتورّمة في وحلها لنطير دائما إلى أرض ليست محروقة. تلك اللّعنة التي نعتبرها معينا لاغتراف المزيد من الحرقة والنزق والشيطانيّة. ثمّ تحويل تلك الجحيميّة الرائعة إلى شجر التأليف والنسج والحبكة والتّخييل وغيرها من ضروب أدوات تكاتف النصّ، ثمّ تحويل ضحكاتها إلى مياه وتحويل ندفات الثلج المتطايرة من رؤوسنا إلى مرايا مدهشة.
وفي هذه «الوردة» أو هذه الحياة المجنونة، أفكّ الرموز والإشارات النائمة بين الأعشاب. أفكّ أزرار«الكائن» لأجعل لهذا النّهر القريب منّي أو السّاكن فيّ أسماءً وحرائقَ. لا يهمّ إذا كان النّهر لايعرف مداه فهو جسدي هذا. آلتي هذه. أخطائي وخطاياي هذه !
في هذه « الوردة » الرائعة تتجمد المياه لقدوم عشاق كثيرين : قارىء أفعل معه فعل تَفاتح مجيد. وقارىء يفعل بي ما فعلَتْه أمطار غير عادية هذه الأعوام. وقارىء يفعل ما لا يريد. أحصر اهتمامي بتلك«الوردة» التي تسخر من كثرة المحبّين والنّدمان. تنام باكرا ولكنها تظلّ في حركة دائمة. حقّا لا شيء ينام في الدّاخل فالمدن تتحرّك فيما أخذته من حياة الشاعر وفيما لم تأخذه من حياته أيضا.
اللّعنة ثم اللّعنة على الشعراء والكتّاب والنّقّاد والرّسّامين والفنّانين جميعا – المتاجرين بأحزان القدامى- الغارقين في الشوارع بلا عصافير أو مياه أو أرض أو سماء أو وردة أو بحر، الغارقين بلا أمطار. لهم رماد ووحْل لا يضيء. ولنا أرض وسماء وأغصان. موتوا أيّها الأشباه لأنّكم لم تهتمّوا بالنّسيان. موتوا لأنّكم بلا ذاكرة وأقدامكم ليس لها أبّهة. وتمجّدي أيّتها الكتابة بذاكرة العصافير. تمجّدي يا ذاكرة المياه. تمجّدي لأنّ خصرك مجروح بالإثم. تمجّدي أيّتها «الوردة» بآنيتك المترعة بالدم بمياه الينابيع.