الرئيسية | فكر ونقد | العمل الجنسي! | مصطفى الطالب

العمل الجنسي! | مصطفى الطالب

مصطفى الطالب:

 

 

   بالتزامن مع الاحتفال باليوم العالمي للمرأة، تطرح العديد من التساؤلات حول المدى الذي بلغته المكاسب الحقوقية النسائية، بالقدر الذي يتم فيه كذلك، عقد الرهان على تخطي وتجاوز المعيقات الثقافية، والسياسية، والاقتصادية التي تشكل حجرة عثرة أمام ترسيخ تلك المكتسبات الحقوقية للمرأة، والتوسيع من دائرتها بشكل يحقق للمرأة كرامتها، ومن ثمة إنسانيتها داخل المجتمع.

وتعد هذه الدراسة الفلسفية حول موضوع العمل الجنسي! بمثابة محاولة لرصد مظاهر الانحراف عن مسار التأسيس لإنسانية المرأة كما الرجل، بشكل لا يضع أي تمييز بينها على مستوى سلم الارتقاء إلى عالم الإنسانية، فهو مسار واحد لجنس واحد، هو الجنس البشري ذكرا وأنثى. فكيف يمكن النظر إلى العمل الجنسي! ومشروعية امتهانه من قبل المرأة في سياق الحديث عن حقوق المرأة؟

منذ أن ظهر الإنسان الصانع، وصناعة الأدوات واستعمالها، تعد خاصية من خصائص الجنس البشري، خاصة بعد تطور هذه الفعالية البشرية إلى أن صارت خصيصة ومقوما من مقومات الوجود البشري، وهذا المقوم هو ما أخذ مسمى العمل أو الشغل. وقد سعت النظرية الماركسية إلى التأكيد على محورية هذا الجانب من جوانب الصيرورة الوجودية للكائن البشري، فالعمل يعبر عن العلاقة التفاعلية بين الإنسان والطبيعة، تلك العلاقة التي أطلق عليها ماركس مفهوم “البراكسيس”، وهذه العملية التفاعلية هي ما تبني عليه الفلسفة الماركسية الوعي الإنساني، إن العمل حسب ماركس ليس مجرد تحويل للطبيعة واستغلال لها لتلبية حاجيات، بل إن العمل بهذا المعنى يصير الأساس الذي ينبني عليه وعي الذات بذاتها وبمحيطها الخارجي، ويشكل رؤيتها العامة للوجود.

لقد كان ماركس محقا، في نسبه للعمل هذه الأهمية الكبرى، وتأثيره البالغ على الذات البشرية، وإن كان قد بالغ في ذلك، خاصة على مستوى القراءة المادية للواقع البشري، لدرجة أغفل معها عدة عوامل أخرى تزاحم العمل وتشاركه في رسم المعالم الكبرى لهوية الذات وصورتها أمام نفسها ومحيطها…واستنادا إلى ذلك، فإن للعمل حضور قوي، وإن اختلفنا مع التحليل الماركسي حول مدى درجات صلاحيته المطلقة لقراءة الواقع البشري.

ومن هذا المنطلق، ليس العمل مجرد وسيلة لتلبية حاجة أو رغبة لدى الكائن البشري، إن للعمل دلالات وأبعاد أبعد من مجرد هذه الرؤية الضيقة، فليس العمل إشباعا لحاجة أو رغبة، إنه صيرورة نحو بلوغ الإنسان، واكتمال فكرة الإنسان بما هو إنسان. لكن، بما يكون الإنسان إنسانا؟ أو بعبارة أدق، بما يكون الكائن البشري إنسانا؟

لا يتدرج الكائن البشري نحو آفاق تحقيق إنسانيته، إلا إذا قطع أشواطا كبرى نحو الحرية، والمساواة، والعدالة، والكرامة…وبعبارة واحدة نحو الإنسانية التي لم تتحدد ولن تتحدد، مادام مفهوم الإنسان مفهوما مثاليا، لا يتوقف عند مستوى محدد، ولا يستنفده شيء. إنه حلم جميل، يسكن وعي الكائن البشري، ويسعى دوما إلى تحقيقه، وفقا للشروط الوجودية المتاحة لديه في كل حقبة زمنية من تاريخه الوجودي، وما تؤهله إليه منجزاته الحضارية.

ومنه، فإن الكائن البشري يسعى وبخطى حثيثة نحو اكتمال الصورة المثالية التي لديه عن الإنسان، أي عن ذاته، حينما تعانق ما يتصوره عنها. والعمل هو إحدى الفعاليات البشرية لتحقيق هذا الطموح. فهل يمكن العمل الجنسي من تحقيق هذا الطموح؟!

يدافع دعاة العمل الجنسي عن المشروعية العقلانية-القانونية، والإنسانية-الأخلاقية للعمل الجنسي فكرا وسلوكا، بناء على عدة اعتبارات ودعاوى مطروحة من قبلهم، وترتبط تلك الاعتبارات بالأساسين السابقي الذكر، أي أنهم يحاجون وفقا لكل من الاعتبار العقلاني والأخلاقي:

ففيما يخص الاعتبار العقلانية-القانونية: تعد منظمة (STRASS) ، كأول نقابة أنشئت للدفاع عن حقوق ممتهنات الجنس، وقد كانت قد دعت إلى التظاهر في شوارع مدينة باريس الفرنسية، في 18 من مارس 2006، ضدا على القانون الذي تم اعتماده منذ ثلاث سنوات، والذي يجرم امتهان العمل الجنسي، بعقوبة حبسية تصل إلى شهرين وغرامة مالية قدرها 3750 يورو. إن هؤلاء يرون بأن ممتهنات العمل الجنسي يقدمن خدمات، كأي خدمات يمكن أن تقدم مقابل تعويض مادي عنها، فبغض النظر عن طبيعة الخدمة، المهم هو أنها خدمة يتراضى الطرفان، ممتهنة العمل الجنسي والزبون، حولها! وهو أمر لا يتعارض مع العقل التشريعي الوضعي، الذي يراعي جوانب التراضي، دونما خوض في الأبعاد الدينية اللاهوتية للمعاملات البشرية، التي تقحم جوانب ميتافيزيقية/سماوية في هذه المعاملات الدنيوية/الأرضية. لهذا يرفض هؤلاء الأسماء ذات الحمولة الدينية، فنعت ممتهنات الجنس على أنهن بغايا أو عاهرات، هو إدانة دينية وأخلاقية لهن، لذلك يحبذ هؤلاء مسمى ممتهنات العمل الجنسي! فالعمل الجنسي بهذا المعنى لا يجد أي مصوغات عقلانية أو قانونية يمكن على أساسها إدانته. غير أن هذا الموقف وهو يؤسس لمصداقيته العقلانية والقانونية، إنما يرتكز بشكل جوهري على مقولة “التراضي” بين أطراف العملية. فهل كون أن العبد يرضى باستعباده من قبل سيده تبعا لشروط اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، وتاريخية أفرزت هذه العلاقة المشوهة بين ذات بشرية وأخرى، كفيل بقبول هذه العلاقة عقلا ومنطقا، والتأسيس لمشروعيتها القانونية اليوم أم أن الوعي البشري اليوم عاجز عن تصور هذه العلاقة، كعلاقة طبيعية ومقبولة من الناحية المنطقية والقانونية؟

إذا كان العبد في زمن العبودية يرضى باستعباده من قبل سيده، بل ويراها العلاقة الضرورية والصحيحة التي ينبغي أن تربط بينه وبين سيده، فإن ذلك لا يعني بالضرورة أنها هي العلاقة الصحيحة. وكما يقول ماركس: “لا علم إلا علم التاريخ”، إن التاريخ البشري يشهد على مدى زوال هذه الفكرة التي سادت لقرون، فكرة أن الإنسان إما أن يكون سيدا أو عبدا، إننا نشهد اليوم، وعلى العكس من ذلك تماما، أن الإنسان حقيقة هو سيد نفسه. فإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون هؤلاء هم كذلك أشبه بألئك العبيد الذين جعلت منهم شروط تاريخية معينة يرون بأن تشييء الإنسان لا يتعارض مع العقل والمنطق السليم بحجة التراضي؟! فهل أن يرضى اليوم شخص بأن يستعبد من قبل شخص آخر، يكفي لقبول عودة شبح العبودية كواقع مقبول عقلا ومشروع قانونا؟!

أما فيما يخص الاعتبار الإنساني/الأخلاقي: قد تبدو اعتراضات هذا الفريق للوهلة الأولى منطقية ومعقولة، من حيث الانفصام الذي تم إحداثه بين كل من الاعتبارات العقلانية لماهية العمل كخدمة مفرغة من كل حمولة إنسانية، أي قيمية أخلاقية، مع أن المنظومة القيمية الأخلاقية هي التي تؤسس لإنسانية الكائن البشري، فبهذا الشكل يتم إفراغ الكائن البشري من كل حمولاته الإنسانية. إن النظر إلى ممتهنات العمل الجنسي على أنهن ضحايا من وجهة نظر إنسانية بحتة هو ما يرفضه أولئك، لأن هذه النظرة تحمل أبعادا إنسانية، فهي محملة بالتعاطف معهن والأسى على ما آلت إليه أحوالهن، بفعل امتهانهن لعمل يحط من إنسانيتهن، ويجعل منهن بضاعة تباع وتشترى كما باقي الأشياء، فهن في وضع يجعلهن يتدنين إلى مراتب الشيئية، أي أنهن شيء كبقية الأشياء!

لكن، هل يمكن للكائن البشري أن يعيش في انفصام تام مع مقومات إنسانيته؟ ليس من باب التسرع أن يكون الجواب بلا. لأن الواقع البشري يحيل على بداهة هذا التماهي بين الكائن البشري ومنظومة القيم التي تحدد رؤيته للحياة، بشكل لا يخلو معه أي سلوك بشري من حمولة أخلاقية، إن بطابع إيجابي أو سلبي، وعليه، تظل المسألة الأخلاقية دائمة الحضور ومعتبرة لدى الإنسان في تقييمه لأفكاره، وأفعاله، ولعلاقته بالأشخاص والأشياء.غير أن أكبر تناقض يطرحه دعاة مشروعية العمل الجنسي، كامن بالأساس في القول بأن ممتهنات العمل الجنسي لهن الحرية في التصرف في أجسادهن بالشكل الذي يتناسب مع اختياراتهن الذاتية، مادام الأمر لا يمس بحرية الأشخاص الآخرين. ألم يسع هؤلاء وبشكل حثيث إلى نزع كل ما يمت بصلة للأخلاق عن عمل ممتهنات العمل الجنسي، فكيف بهم أن يسعوا إلى المحاججة عن مشروعيته بناء على مقولة أخلاقية هي الحرية؟! ليس هناك تناقض أكبر من أن تؤسس لصحة مقولاتك بمقولات خصمك، أي المقولات التي تسعى إلى إثبات تهافتها وهدمها، فأنت كمن يبني على أسس سرعان ما سيهدمها ليسقط البناء ككل!

وبناء على ما سبق، فإن امتهان العمل الجنسي، أي امتهان العبودية، لا يعبر عن اختيار مهني عقلاني ووجداني، بالقدر الذي يعبر عن ضرورة حياتية ألقت بحرية الاختيار إلى متاهات الضرورة والإكراه، أو أنه إفراز لوعي مشوه عن الإنسان لدى الكائن البشري، لأن الكائن البشري ومهما بلغ تدني مستويات الإنسانية فيه، وغالبا ما يكون للوسط الدور الأكبر في عدم تشبعه بمقومات إنسانيته، يظل دائما وأبدا مشروع إنسان طيع على تلمس طريق إنسانيته، ولو بقدر قليل من الجهد والعون. فبدل التجريم والعقاب، افتحوا أبواب مدارس غير التي لديكم، مدارس تتجرع فيها الكائنات البشرية الوليدة تاريخ تطور فكرة الإنسان التي بناها الإنسان عن ذاته ويبنيها، افتحوا مؤسسات مجتمعكم الإنسانية، جنبا إلى جنب المؤسسات الاقتصادية، والصناعية، والتجارية التي تبني الكائن البشري دون أن تحقق الإنسان، فينشأ هذا الكائن البشري بلاوعي، ولا إرادة، ولا رغبة، ولا قيم… غير قادر على أن يعيش في مجتمع لم يقدم له شيئا، ولا هو قادر على أن يقدم لهذا المجتمع شيئا سوى الخراب، خراب فكرة الإنسان.

  • أستاذ وباحث في الفلسفة

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.