رشيد الخديري (شاعر وناقد أدبي مغربي):
في راهننا الشعري، يطرح سؤال، يتكرر كل يوم: ما جدوى الشعر الآن؟ وهل الشعر “مازال ديوان العرب” كما قيل؟ سؤال كهذا يبدو متاهة،لأنه لا يمكن اعتبار زمن الشعر قد انتهى وانكمش دوره الوجودي والجمالي، أو أنه لم يعد صالحا ليكون خطاباً في الجمال والمعرفة و التداولية، باعتبار ما نزعمه من انسداد أفق الشعراء، وانحسار متذوقي الشعر، قياسا بمن يذهبون صوب المعمل السردي على سبيل المثال، قلنا، إن السؤال عن جدوى الشعر متاهة، والإجابة عنه أيضا متاهة، وهذا النوع من الأحكام” المعلبة”، والجاهزة بالمعنى الكوني للشعر ووظيفته في الوجود، يجعلنا في صلب الأسئلة العميقة التي يطرحها الشعر على وجوده ذاته، نحن في حاجة إلى الشعر؟ أليس الشعر رئة ثانية يتنفس بها العربي منذ العصور الغابرة؟ صحيح أن الشعر اليوم يعيش حالة خمول وتكلس، لكن هذا الوضع يقتضي منا نوعا من المساءلة والاستئناف، في ظل ما نعيشه اليوم من صدام يومي مع الحياة وهيمنة التكنولوجيا، وجنوح السواد الأعظم من شعرائنا نحو استسهال الكتابة الشعرية، خاصة مع ظهور ما بات يعرف “بقصيدة النثر”، وانحراف الإنسان عن معنى الشعر الأنطولوجي.
إن وضعا كهذا، يقتضي مساءلة الشعر باستمرار، حتى يدرك الشاعر حجم الخيبات التي يتكبدها بفعل ازدرائه لقيمه ومعنى أن يكون كائنا منتجا، موجودا بالشعر، لكونه إعادة صياغة الوجود، بما لم يكن واردا في هذا الوجود، بمعنى يصبح للشعر قدرة على الخرق والابتكار، واستئنافا للوجود في سياقات الصيرورة والأنا الخاضعة خضوعا كليا لفن الشعر، بعيدا عن التشظي والتلاش ، والسقوط في المشترك والمستهلك.
يمكنُ أن نقول في ضوء هذه المخاضات العسيرة، والتفجرات الهائلة، أن القصيدة العربية المعاصرة توهم ولو بشكل ظاهري عن وعيها الوجودي، وانخراطها الكلي “في أسئلة الحداثة”، التي راهنت عليها منذ إرهاصاتها الأولى، لكن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد انعطاف متجاوز، نحو خطاب شعري يشكل عنصر الارتداد الركن الأساس في بنياته الفنية والجمالية، وهذا طبيعي في ظل الالتفاف حول نموذج شعري مازال مسيطرا على الذهنية العربية، لأن القصيدة المعاصرة تأسست على أنقاض الشكل القديم، رغم المحاولات التي أبدتها من أجل تحقيق التوازن الذاتي، وتأسيس سقف مغاير، يستجيب لمعاييرها بعيدا عن سماوات أصول الشعر العربي، من هنا ينبع السؤال: ما مستقبل الخطاب الشعري الجديد؟ لن نقول إنها حالة تجاوز، بقدر ما هي محاولة لإيجاد ملامح خاصة ضمن صيرورة النص الشعري العربي، والواقع الآن الذي يفرض نفسه بإلحاح، هو أن القصيدة تعيش حالة عزلة عن كيانها، نتيجة ” أزمة الثقة” التي تولدت بينها وبين القارئ/ المتلقي، وهي مطالبة اليوم قبل أي وقت مضى بضرورة البحث عن آماد أخرى تحتضنها، وتحتضن رؤاها الجديدة، لكن يجب أن نعترف من باب الإنصاف على الأقل، أنها أحدثت خلخلة في الشعرية العربية، بفعل طاقاتها التفجيرية التوليدية، وأظهرت مدى السعي الحثيث الذي سعى إليه روادها الحداثيين من أجل خلق ديناميكية جديدة في روح وجسد القصيدة، دون – أن يعني هذا طبعا- التنكر للثدي الذي رضعنا منه جميعا حليب القصيدة العربية.