الرئيسية | سرديات | الخطاطة: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

الخطاطة: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

لثلاثين سنة كاملة تكررت في حياة جميلة تجارب الفشل في الزواج وخسرت عملها مرات عديدة. صارت تعتقد أنها مشؤومة وتجلب الخسارات. تزوجت خمس مرات وكان كل أزواجها بخيلين وعنيفين. عملت في شركات متعددة في التسويق لكن تلك الشركات أفلست  وفي أحيان أخرى يطردونها بدون سبب واضح.  قبل خمس سنوات اشتغلت في شركة لبيع العقار  المعفي من الضرائب لكن رئيستها كانت تكن لها حقدا شديدا وانتهت إلى أن طردتها بسبب عدم تلاؤم في المزاج. سبب واهي لم تقبل به جميلة. لم تفهم جميلة ما معنى عدم التلاؤم في المزاج لكنها قررت أن لاتعمل بعدها، أن تعيش من مدخول الدولة، أن تقلص احتياجاتها، تستغني عن كل ماهو زائد.

بدأت تنام طيلة الصباح. تستيقظ وتشرب قهوتها وتتابع برامج التلفزيون إلى حدود الخامسة بعد الزوال. بعدها تخرج إلى البوب بار، بار شعبي  بالبي جنوب فرنسا. هناك تلتقي التائهين مثلها، المعطلون والطحالب التي تعيش على مردود الدولة. لعدة مرات في الأسبوع تجرب ألعاب الحظ، تلعب اللوتو وتحك ألعابا كثيرة . غالبا ما كانت تخسر. حدث مرة واحدة أن ربحت خمسين أورو أنفقتها في اللعب أكثر.

مرت سنة ونصف وهي على نفس الحال. صارت تحس أنها عاجزة عن العمل وعن الأمل. لاحب، لا أطفال، ولاعمل وهي تدلف نحو الأربعين من عمرها.

أحست بالفشل والعجز حتى أنها لم تعد تنظف بيتها هي التي كانت مهووسة بالنظافة من قبل. صارت تهمل مظهرها وتجلس مع مهمشي المدينة، تصاحبهم الغناء فيما هم يعزفون. ترافقهم في شرب البيرة والريكار. غيرت ملابسها وارتدت ملابس فضفاضة لا تظهر مباهج جسدها. هجرت الماكياج والعطور التي كانت تحبها من قبل.

فكرت في الانتحار كل يوم. صباحا تهجم عليها فكرة الموت ولذلك تبقى في الفراش، تتناول مهدء كي لاتفكر.

لو كان لها طفل لعاشت من أجله، لو كان لها عشيق لاعتنت بنفسها لتبدو جميلة في عينيه. كانت هناك شيخوخة تعيسة في انتظارها. اعتقدت أن حياتها انتهت.  استمر حالها سنتين قبل أن تذهب إلى المكتبة العمومية لأول مرة. توجهت إلى صف علم النفس . أخذت كتابا عن الثقة في النفس. تصفحته وحملته معها إلى البيت. ظلت تقرؤه طيلة أسبوع. قرأت الشهادات التي يحفل بها الكتاب. تعرفت على نفسها في كل كلمة، هي أيضا قالوا عنها في أسرتها أنها غبية وليست جميلة رغم إسمها. في المدرسة قالوا أنها من أصول عربية ولاشك فاشلة. أزواجها قالوا أنها لاتصلح للفراش ولاتصلح زوجة. في العمل تحرشوا بها ووصفوها بالعاجزة. هي أيضا كان عليها أن تخفي مواهبها، أن تخجل من نفسها، أن تتخلى عن أحلامها لكي يقبلها الآخرون، لكي يحبوها.

فكرت في حياتها، في اهتماماتها، في الأشياء التي تحبها واكتشف أنها منذ صغرها تريد أن تكون مغنية. لها صوت رائع رغم أن أمها قالت العكس. بعد أسابيع من التفكير سجلت نفسها على مسجلتها الصغيرة. فرحت بصوتها وهي تغني الحياة الوردية لإديث بياف.  على الأنترنيت وجدت عنوان استوديو صغير بضواحي آلبي. اتصلت به وأخذت موعدا مع المدير.

ذهبت بعد يومين إلى الأستوديو . إستقبلها المدير بحرارة. أسمعته تسجيلها وأعجب بصوتها ووعدها بتسجيل شريط.

عملت بهمة مع فرقة صغيرة مكونة من عازف غيتار وعازف آكورديون. شكلوا فرقة موسيقية وصاروا يعزفون في الحفلات المحلية  في العيد الوطني وعيد الموسيقى وحفلات أخرى.

صارت جميلة امرأة متوردة الخدود وعادت شعلة الذكاء والموهبة إلى عينيها. صارت متفائلة وتقدر طاقاتها. سجلت شريطا وصارت تغني مع فرقتها في ساحة الكاتدرائية سانت سيسيل أجمل ساحات آلبي ، تبيع أشرطتها وتضحك في وجه المارة.

زرتها في بيتها ووجدته نظفا، مرتبا. كانت قد اشترت رزمة كتب تحليل نفسي وتطوير ذاتي،  تشتغل على تمارين الثقة بالنفس وتطوير القدرات. بعد أربعين عاما من التيه تعرفت على ذاتها العميقة، على الشيء الذي أنكرته وأخفته من أجل التوافق مع المجتمع، مع أسرتها، مع أزواجها وكل الآخرين.  اكتشفت أنها فنانة خلاقة  وأنها سجنت نفسها من قبل في خطاطة الفشل والعجز وأن تلك الخطاطة ليست قدرا مكتوبا بل رسما يمكن مسحه وتعويضه بخطاطة النجاح والتحقق الذاتي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.