الرئيسية | سرديات | الحياة ثانية: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

الحياة ثانية: ألف قصة وقصة عن مغرب لا ينتهي | حنان الدرقاوي

حنان الدرقاوي

 

تعرفت على زهرة الشابة البركانية السمراء خلال تدربي بمستشفى الأمراض العصبية. كانت زهرة شابة مليحة، سمراء شعرها طويل ومجعد وعيناها متوقدتان بشعلة غريبة رغم أنها لا تحدق في من يحدثها. حينما تحدق تنبع من عينيها شعلة ذكاء متوقدة.

لم تكن تكلم الآخرين بالمرة. تجلس على طرف المائدة التي في الحديقة. تنظر من حين لآخر إلى الآخرين وتبقى صامتة. يسألها الآخرون عن أشياء حدثت في المستشفى ولا تجيب وتبدو كانها لا تعرف شيئا البثة عن العالم الخارجي ولا تنبه إليه بالمرة، كانت تبدو كأنها متفرغة لصلاة داخلية لا تنتهي. تتامل العالم ولاشيء يلمسها منه، لاشيء يؤثر عليها. سمعت الممرضات يقلن أنها تعاني من شيء من التوحد، التوحد العالم الذي يتميز المصابون به بنسبة ذكاء عالي لكنهم لا يستطيعون التواصل مع الآخرين وكل أشكال التفاعل الإجتماعي تجعلهم يتوترون ويدخلون في نوبات عصبية حادة . على عكس ما كنت أعرفه عن التوحد العالم كانت زهرة تبدو هادئة على الأقل تظل هادئة إلى أن تقف وتصرخ

 – لقد أتوا ، أتوا لحملي إلى الجحيم أستحق الجحيم سأذهب معهم أستحق العقاب لقد أذنبت أذنبت عليهم أن ينزلوا علي اشد العقاب.

كانت تصرخ كلما عاد ” الهولاء” لحملها إلى الجحيم. لم نكن نعرف من هم ولماذا تستحق العقاب أي ذنب ارتكبته هاته المسكينة؟

لم تكن عنيفة مع الآخرين، كانت تعاقب نفسها بأن تضرب رأسها على الحائط إلى أن يسيل الدم ويتدخل الممرضون. يضعونها على سريرها ويربطون يديها إلى السرير. يحقنونها بحقنة تارسيان وابيليفاي : العلاج السحري لكل الأمراض تقريبا في هذا المستشفى تصرخ زهرة لفترة قبل أن يفعل الدواء فعله وتنام. تستيقظ في الصباح وتستقبل مرة أخرى قلقها ومخاوفها من الذين سيأتون لحملها إلى الجحيم. حاولت مرة أن أكلمها . صعب جدا أن تكلم مصابا بالتوحد ليسوا مثل الناس العاديين هم لا ينظرون الى وجه المتحدث ولا يفهمون لغة الجسد وإشاراته. تظل مطأطأة الرأس أو تنظر جانبا وأنا أحدثها. أحاول أن أفهم حالتها وربما سأساعدها. ذات يوم حكت لي بسلاسة بعضا من حياتها وفهمت منها أنها لزمن طويل اعتقدت أنها السبب في انتحار أبيها. لو كانت طفلة طيبة وجميلة لما انتحر أبوها. يبدو أن أمها قالت لها شيئا من هذا القبيل. نوع من الغموض والسحر يحيط بانتحار والدها ذات صباح حين كان عمرها خمس سنوات. قضى سهرة جميلة برفقة زوجته” أم زهرة” احتفل معها بعيد ميلادها، أهداها عقدا وفتح قنينة شامبانيا. قبل زهرة وغنى لها أغنيتها المفضلة في السرير قبل أن يخرج إلى الكاراج قصد التأكد من إغلاق سيارته كما قال. سمعت طلقة رصاص أيقظت زهرة من نومها. هرعت هي وأمها إلى الغاراج هناك وجدتا الأب غارقا في بركة من الدم ورصاصة اخترقت الرأس. في تلك اللحظة تشكل الثقب في حياة زهرة.

ظلت أغنية ” نامي نامي ياصغيرة” وطلقة الرصاص آخر الأصوات التي سمعتها زهرة. كلما أتتها النوبة تصرخ وتقلد صوت الرصاص. لا تريد أن تخرج من المستشفى لأنها لا تريد أن ترى أباها في بركة دم. لاتريد أن تسمع صوت الرصاصة كل يوم ولا تريد أن تغني لطفلة لم تعد تنام. لاتنام منذ أن رحل أبوها. كانت تحتاج أبا يغني لها لا أبا ينتحر لأن شركته أفلست، لم تكن تريد الشركة ولا مالا. كانت تريد أبا يغني لها قبل النوم لا أبا ينسحب بدون كلمة وداع. كانت تريد حياة اخرى. في كل مكان تلتقي انتحار الأب وتحلم بحياة ثانية معه ولأجله حتى في أحلك حالات التوحد والجنون.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.